الحاضر لا يمكن الامساك به، فقبل أن تدرك اللحظة الراهنة تنقلب لتصبح لحظة مضت، ومع ذلك فنحن نعيش طوال الوقت في اللحظة الحاضرة. وعندما يبدأ المرء في استعادة الذكريات، فذلك يعني اقترابه من منتصف العمر، وبدء اهتمامه بما كان، لتحقيق رؤية أفضل عن الماضي.
هذا المدخل هو مقدمة تبريرية لانهماكي في استعادة بعض الذكريات على نحو انتقائي للفترة التي عملت فيها في صحيفة الثورة التي أعاود الكتابة فيها من جديد بعد انقطاع طال مداه.
المبنى الحالي للصحيفة وملحقاتها صار أكبر ست مرات عما كان عند عملي في الصحيفة رئيسة لقسم التحقيقات في مطلع الثمانينات. وعدد الصحفيين العاملين في الصحيفة طبقا لكشف المرتبات صار قريبا من أربعة أضعاف ماكان عليها. وأغلب هؤلاء لا يعملون في الأقسام المرتبطة بالتحرير والكتابة بل هم في أقسام أخرى مرتبطة بالادارة، والاعلان والتسويق والطباعة.
والالات التي صارت تمتلكها الصحيفة، صارت قادرة على طباعة سلسلة لاتنتهي من المطبوعات، بعضها تابعة للمؤسسة التي تتبعها الصحيفة، والبعض الأخر للصحف الخاصة والأهلية وصحف المناسبات والمواسم.
والمؤسسة نفسها التي كانت معنية بالصحيفة وبعض المجلات الشهرية، وصحيفة أخرى أسبوعية صارت تمتلك عددا لابأس به من الصحف والمجلات، التي تختص بالسياسة أو الرياضة أو القضايا التحليلية.
وصار للصحيفة مركزا توثيقيا ومكتبة، وهي أمور لم تكن متوافرة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. فهل صارت الصحيفة مواكبة للتطورات التي حدثت حولها؟
صحافة بمصدر واحد وقضية متكررة:
الصحافة اليومية هي في الأساس صحافة خبرية تعتمد على نقل الأخبار وتوصيلها في اليوم التالي. كانت من قبل صحافة تسابق الزمان بقدرتها على توصيل الخبر بسرعة لا تزيد عن يوم واحد. لكن اختراع الاذاعة جعل الصحافة من ناحية الوقت تأتي في المرتبة الثانية، فالإذاعة تمتلك القدرة على السرعة وتغطية الخبر في لحظته وحينه لولا العوائق الادارية والبيروقراطية التي تجعل الأخبار مرتبطة بساعة محددة لا يتم اذاعتها قبلها.
وجاء التلفزيون فأضاف القدرة على تغطية الخبر في حينه وفي نفس الوقت رؤيته مسموعا ومصورا.
لكن الصحافة لم تخسر بسبب فارق الوقت لأنها حصلت على الفرصة لتحليل الخبر وإضافة وجهات نظر مختلفة اليه، وتوفير معلومات تكميلية باستخدام الأرشيف الصحفي والحوادث السابقة الى خلفية الخبر لتساعد القارئ أو القارئة على فهم الحدث أو الواقعة على النحو الأكمل.
مثل هذا العمل يتم في الصحف الكبرى في العالم وفي الدول الديموقراطية.
أما في البلدان النامية وفي كثير من الحالات في هذه الصحيفة فإن الخبر ينشر كما أرسلته وكالة الأنباء الوحيدة بدون تحليل أو إضافة وهو تكرار لا معنى له بالنسبة لمن يتابعون الأخبار عبر الاذاعات أو التلفزيون.
هناك اليوم عدد محدود من المراسلين الذين يغطون بعض الأخبار في مناطق مختلفة من البلاد، وعدد تحدده الصدفة من الصحفيين المتواجدين للدراسة أو لسبب أخر في بعض البلدان الخارجية، يراسلون الصحيفة، لكن الحقيقة أن الصحيفة تعتمد في أخبارها المحلية بشكل خاص على مصدر واحد للأنباء.
لم يتغير الأمر كثيرا بين الفترة التي كنت أعمل فيها وبين الفترة التي تعيشها الصحيفة اليوم من حيث ارتكاز أهم الأخبار المحلية على مصدر واحد.
والحال نفسه بشأن القضايا المنشورة. فعندما كنت أعمل في هذه الصحيفة كانت القضية الفلسطينية هي الملجأ لكتاب الافتتاحية أو لكتاب الأعمدة السياسية، عندما تختفي من جعبتهم مواضيع للكتابة. فالكتابة اليومية تستهلك الكتاب مهما كانت قدراتهم ومهما كانت جهودهم في الاطلاع والمتابعة قائمة. وبعض الزوايا في الصحيفة تحتاج الى من يملئها حتى لوكان الموضوع المكتوب غير جذاب للقراء، أو خارج اهتمامهم. والقضية الفلسطينية كانت ولا تزال هي صلب الكتابات السياسية لمعظم الكتاب في الصحيفة وخاصة رؤساء التحرير.
أذكر المرحوم الأستاذ محمد الزبيدي الذي كان أحد رؤوساء التحرير في هذه الصحيفة وهو يجلس بجوار مكتبه الفاخر، على مفرش وضع على الأرض ومدكي وهو يتناول القات ويكتب اليوميات ويراجع الأخبار التي يعتقد أنها بحاجة الى مراجعته. كان يقول " صرت خبيرا في شؤون فلسطين كل جمعة لأنها اليوم الذي تقل فيه الأخبار التي تستحق أن تكون في الافتتاحية، لكن فلسطين يوم الجمعة تتصدر الأخبار دون شك"
اليوم صارت هناك قضايا متعددة تغطيها كتابات السياسييين اليمنيين وأفتتاحيات الصحيفة، يسيطر فيها الهاجس المحلي بالدرجة الأولى ثم تأتي العراق وفلسطين والسودان بالدرجة الثانية. وتظهر لبنان أو الصومال بين حين وأخر كلما التهبت الأوضاع فيها وغطت على كل الأخبار.
وكل الأوضاع العربية أو الخارجية عندما يتم تغطيتها في الصحيفة اليوم أو في الماضي تكون أوضاع آمنة لاتحتمل فرص النزاع مع الأجهزة المعنية.
أما الأخبار السياسية المحلية، فإنها في الصحيفة برغم الديموقراطية لاتزال مغامرة كبرى تحتمل التخمين أكثر مما تحتمل الحقيقة. فالصحف الأخرى غير الحكومية تملك الحرية كي تكتب ما تراه لأن ذلك لن يحسب كوجهة نظر للدولة. أما هذه الصحيفة فرغم أنف الصحفيين القابعين جوار مكاتبهم يضعون الورق فوق ركبهم بدلا من وضعه على المكاتب لأن ذلك أكثر سهولة. ومن بين الدخان المتصاعد من سجائرهم أومن سجائر من يجلس بجوارهم، تخرج الكلمات لتمثل رأي الدولة الأفتراضي والذي يتبعه الصحفيون دون أن يكون هذا الرأي واضحا في مكان ما أو مكتوبا داخل سياسة معلنة.
مشكلة النساء في الصحف:
لم تكن مطابخ الكتابة الصحفية في الصحيفة في ذلك الوقت وحالها لم يتغير اليوم ترحب كثيرا بوجود الصحفيات فيها. ففي الصباح يتم جمع المعلومات أو حضور الفعاليات وفي الظهيرة والمساء تتم الكتابة والمراجعة. والغرف الرئيسية التي تتم فيها هذه العمليات هي مجالس قات غير محبوبة لدى النساء، رغم أنها ذات طابع عملي بحت.
المشكلة أن شكلها لا يشجع النساء على الجلوس براحة والكتابة بدون الأعين المحدقة. في ذلك الوقت كان عدد الصحفيات قليل ولا يزال الحال نفسه حتى اليوم. نجلس في مكاتب مستقلة، نطل على مكاتب رؤساء التحرير كالغريبات في بيئة عمل غريبة. ونعمل مع زملاء نحترمهم ويحترموننا لكن العلاقة لا تتجذر في بيئة عمل تدعو المزيد الى الالتحاق بها.
مشكلة النساء ومجالس القات في الوظائف لم يتم حلها إلا في مكان واحد حسب معرفتي حتى الآن فقد قام ملتقى الرقي والتقدم باعداد ديوان مكتبي يسمح لتواجد الرجال والنساء في الاجتماعات العامة دون أن يكون له الشكل الذي يشعرهن بالإحراج إذا حضر أحد المشاركين وفي فمه قليل من القات.
بعض المؤسسات الحكومية قامت بمنع الاجتماعات بعد العصر، وقرار مثل هذا لا يصلح في الصحف فالمساء هو الوقت الذي يتم فيه الانتهاء من أخبار اليوم وتجهيزها للطباعة. وبسبب المصدر الواحد الذي يتجه أحيانا الى مفاجأة الناس بالأخبار في الساعة التاسعة عبر التلفزيون فإن الصفحة الأولى لا تكون جاهزة قبل نشرة التاسعة.
وهذا الحال لا يفسر فقط أسباب غياب النساء من مواقع المسؤولية في الصحف، بل يفسر أيضا قلة عددهن.
raufah@hotmail.com
*الثورة
في السبت 08 سبتمبر-أيلول 2007 08:15:02 ص