|
لعلّ من أكثر العصور شراسة ودماراً على الإطلاق هو عصرنا ، فقد كشّرت الطبيعة فيه عن أنيابها ، وقلبت ظهر المهجن على ساكني هذا الكوكب ، ولم تعد الطبيعة كما كانت من قبل من الذلول والوداعة المعهودة ، مما يؤكد بلا مجال للشك أو الريب أنّ ثمة أسباب وعوامل خارجة عن مسمى الطبيعة هي وراء هذه الأحداث والنكبات.
بالأمس القريب شهدت البشرية إحدى أهم النكبات التاريخية وهو زلزال تسونامي وما خلّفه من مئات الآلاف من القتلى والغرقى والهدمى ، والملايين من المشردين ، ولم تكد تفق البشرية من صدمتها ، حتى ضربها فيضان آخر في إحدى الولايات الأمريكية ليتركها أثراً بعد عين ، وغيباً بعد شهادة ، إنها مدينة نيوأورليانز الأميركية ، وذلك إبان إعصار كاترينا ، حيث بلغت خسائر أمريكا في يوم واحد أكثر من مائة مليار دولار ، كما نشرته وكالات الأنباء .
وتتوالى النكبات والكوارث على رأس هذه البشرية الضعيفة ، فقبل عام تقريباً شهدت اليمن فيضانات وسيولا واسعة ، لم تذر شيئاً أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، ثم ليأتي فيضان جدة وسيولها المدمرة لتخلف وراءها عشرات القتلى ومليارات الدولارات من الخسائر ، إن صحت الروايات الإعلامية ، وإلا فلعل الفاجعة أكبر وأعظم بكثير مما تناقلته وسائل الإعلام ، وأحصته أجهزة الرصد العربية ، المعروفة بالخمول والكسل والنوم العميق ، ولا تستيقظ من سباتها إلا بعد أسبوع أو أسبوعين من الكارثة !!.
ما أود الحديث عنه هنا هو محاولة البحث عن الأسباب والمسببات لهذه التقلبات المناخية المفاجئة ، التي تخلف كل هذه الفجائع الكبيرة ، رغم أنّ البشرية بات لديها كل الإمكانيات العلمية والتقنية لمواجهة الكوارث ، والتنبؤ بها قبل حدوثها ، مما يجعل السائل يحار عن سبب وقوع هذه الكوارث رغم كل ما لدى البشرية من أجهزة وتقنيات وتكنولوجيا ومراكز علمية وبحثية .
لقد زعمت بعض القوى العالمية المستكبرة أنها بلغت نهاية التاريخ ، وأنها بلغت حد السيطرة على الطبيعة ، وأنها باتت الأقدر على مواجهة كل الكوارث ، بما لديها من علوم ومعارف وتكنولوجيا ، وظنوا أنهم قادرون على كل شيء ، فكيف بهم يا ترى يعجزون عن مواجهة قطرات المطر وحبيبات الرياح ، والجراثيم والفيروسات؟!! ، ويعلن العالم في بعض الأحوال حالة الطوارئ غير المعلنة ، للمواجهة ، وسرعان ما يعلنون العجز والفشل والهزيمة !!. كيف!!؟.
حين يعلن مصمموا سفينة التيتانك أن هذه السفينة الجبارة ، تتحدى حتى الإله ، فكيف كانت نهايتها ؟!!. ألم تدمر في عباب البحر ، ويحطمها جبل من الثلج ، في شهادة عادلة صادقة أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء .
هاهو العالم بكل علمائه ومراكزه وخبرائه يقف عاجزاً عن علاج ل\"فيروس\" يثير الرعب والهلع في كل أصقاع المعمورة ، رغم أني أعتقد جازماً أن شركات الأدوية هي وراء كل هذا التهويل والتضخيم وأيضاً بعض الدوائر الأجنبية المعادية ، لكنه يعكس بحق عجز البشرية وضعفها وهوانها وذلها وصغارها أمام قدرة الله ، وآياته التي يسلطها على من شاء من عباده ، عساهم يعرفوه بها ، وعساهم يذكرونه بها ، وعساهم يقرون بوحدانيته وقدرته الغالبة القاهرة ، وبيده المالكة المدبرة .
قال تعالى : {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}المؤمنون88.
وقال تعالى : {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يس83.
كيف فهم علماء المسلمين وقوع الكوارث ؟.
للأسف يا سادة أنه كلما وقعت كارثة أو حلت مصيبة بأمتنا هلع أرباب القرار في بلداننا إلى الغرب والشرق يسألون عن الأسباب والمسببات وطرق العلاج والوقاية ، وما هي الوسائل الحديثة التي يمكن استخدامها لمواجهة هذه المصيبة أو النازلة ، دون أن يكلف أحد نفسه في النظر فيما لدينا من كنوز ولآلئ في كتاب ربنا وسنة نبينا وكلام عظماء الإسلام وعباقرة التاريخ من المسلمين، لكننا نحتمل العذر لبني قومنا فنقول إنها الهزيمة النفسية أو الفشل الذهني والعقم الفكري والتقليد الأعمي ، والخوار والخواء الروحي .
يقول ربنا جل وعلا : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }الروم41.
تشير الآية الكريمة إلى أن سبب الفساد في الهواء والبر والبحر هو بسبب ما اقترفته أيدي بني الإنسان ، من أخطاء وإفساد وتصرفات ، ليست وفق هدى رباني بل وفق هوى شيطاني ، فاختل لذلك نظام الحياة والاستقرار ، وتصادمت إرادة الإنسان بسنن الحياة والكون والوجود.
وأنتهز هذه الفرصة لأنقل كلاما مع طوله إلا أنه ثمين ورائع وقيم وعظيم لعلم من أعلام الإسلام ، وهو الإمام ابن القيم حيث يقول:
\"ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أنّ جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه، وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام، والأمراض، والأسقام، والطواعين والقحوط، والجدوب، وسلب بركات الأرض، وثمارها، ونباتها، وسلب منافعها، أو نقصانها أمورًا متتابعة يتلو بعضها بعضًا، فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } [الروم: 41]، ونَزّل هذه الآية على أحوال العالم، وطابق بين الواقع وبينها، وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة، بعضها آخذ برقاب بعض، وكلما أحدث الناس ظلمًا وفجورًا، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم، وأهويتهم ومياههم، وأبدانهم وخلقهم، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم. ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكثر مما هي اليوم، كما كانت البركة فيها أعظم. وقد روى الإمام أحمد بإسناده أنه وجد في خزائن بعض بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها هذا كان ينبت أيام العدل. وهذه القصة، ذكرها في مسنده ، على أثر حديث رواه. وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة، ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم، حكمًا قسطًا، وقضاء عدلًا، وقد أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذا بقوله في الطاعون (إنه بقية رجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل). زاد المعاد 4/362-364.
ويقول الإمام الشهيد سيد قطب عليه رحمة الله في الآية الآنفة الذكر : \"يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم ; وأنّ فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد , ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد , ويجعله مسيطرا على أقدارها , غالبا عليها:
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس). . فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا , ولا يقع مصادفة ; إنما هو تدبير الله وسنته . . (ليذيقهم بعض الذي عملوا) من الشر والفساد , حينما يكتوون بناره , ويتألمون لما يصيبهم منه: (لعلهم يرجعون)فيعزمون على مقاومة الفساد , ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم\" .
ما يجب عمله عند النوازل والكوارث:
1) التضرع إلى الله والتوبة إليه ورد المظالم والحقوق إلى أهلها ، كما قال تعالى : {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}الأنعام43 ، وقال تعالى : {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }الأنفال33.
2) يجب التفتيش مباشرة عن أسباب الخلل ومواطن الذنوب والمعاصي ، ويجب أن تتحرك في الأمة الدوافع الذاتية لتصحيح المسار إلى الله ، وتطهير الصف من المجرمين والفاسقين والظلمة ، لأن الكارثة إنما هي مقدمة ونذير لأخذ عزيز مقتدر ، كما قال تعالى : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء16. ولعل من المنكرات العظيمة التي يصرف عنها كثير من الناس أبصارهم وقت الكوارث والنوازل ، تلكم المعاصي المتعلقة بالفساد المالي والإداري والسياسي ، التي تبلغ بالمليارات ، لدى علية القوم وكبراء المجتمع ، وذوو الدم الأزرق القاني ، الذي لا تطالهم القوانين والتشريعات ، وهنا يجب على أهل العلم والرأي التصدي لهذه المنكرات العامة ، قبل أن يحل العذاب العام الذي لا يستثني أحداً .
3) الدعاء والتضرع إلى الله ، وعمل الصالحات والمبرات والقربات كما قال تعالى : {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }الأنعام43.
وقال تعالى : {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ }هود52 .
اللهم لا تعاملنا بما نحن أهله وعاملنا بما أنت أهله أنت أهل التقوى وأهل المغفرة ، اللهم ولا تعاملنا بما فعله السفهاء منا ، واغفر لنا وارحمنا أنت خير الراحمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،
Moafa12@hotmail.com
في الإثنين 14 ديسمبر-كانون الأول 2009 05:33:54 م