|
حصل صالح على الحصانة. لكنه يقول إنه لا يريدها فهو محصّن من الشعب، بأمارة أنه سيترك السلطة لكي يجنب البلد الحرب الأهلية. أي تلك الحرب التي من المتوقع أن تنشب في أي لحظة بين الشعب والحرس الجمهوري. الحرس الجمهوري الذي يحمي صالح، بالطبع، ليس هو الشعب.
في حصانة من أنت يا صالح؟
دارت الأيام كعادتها، وجاء الدور على صالح لكي يكون ضحية نقض المواثيق. يدرك تماماً، في هذه الساعة، أن وثيقة الحصانة ستفقد قيمتها لمجرّد أن يفقد صالح صفته الوظيفية ويصبح أمر الحرس الجمهوري تحت تصرف الدولة الجديدة. إنها وثيقة عجيبة وقعتها مجموعة أحزاب في مجتمع يقع خارج النظام الحزبي وسابق للدولة، لصالح قاتل متورّط حتى لهاته في الدم، وبإمضاء برلمان انتهت صلاحيته ثلاث مرّات. كل وثيقة في الدنيا تخفي ثغراتها الدقيقة بداخلها إلا هذه الوثيقة فهي «شبّاك جارتنا»!
في النصف الثاني من التسعينيات كان قادة الإصلاح يقولون لصالح: أنت أحد الثوابت الوطنية، مثل الدين واللغة والعلم والأرض والعملة. هكذا يروي المثقف الإصلاحي المعروف أحمد القميري.
كان الإصلاحيون يريدون تخدير صالح ريثما يتمددوا بسلاسة وهارمونية في النسيج اليمني. لكن صالح لم يكن ليتخدّر لأنه شخص خلق من أحشاء الدسائس، يصلح لكل الحيل لكنه لا يصلح لإدارة كشك سجائر. نحواً من هذا قال عنه قريبه عبد الرحمن الأكوع عندما انكسرت جرة السمن والعسل لبعض الوقت، ذات يوم.
عاد الإصلاحيون مرّة أخرى لكي يوهموا صالح بالحصانة. ليس لصالح طريق آخر سوى أن يصدق هذا الوهم. المفوضة السامية للأمم المتحدة تقول قبل أيام: الحصانة تتناقض مع القانون الدولي. خبراء القانون الدولي يقولون: هذه أضحوكة. الشعب اليمني، بكل قواه الحياة والخاملة، يقول: هذه نكتة ثقيلة في التوقيت الخطأ. وصالح يرتعد ويقول: بالله عليكم ألقوا على مسامعي هذه النكتة الثقيلة مرة أخرى، فلم يعد في المدى من شيء يصلح لأسمعه. وأحاطت به خطيئته.
ليس لدى صالح من طريق آخر سوى أن يتمسك بهذه القشة. إذ يبدو الطريق الآخر، الذي يلوح به، وعراً جدّاً. استمر صالح يعيث في الأرض فساداً ليس بسبب قوته الضاربة بل لأن هذا الشعب «راكز أكثر من اللازم». لأنه شعب حكمة وتمهّل وصلح و«عيب يا جماعة، أنتم من بلاد». استغل صالح هذا الخلق استغلالاً سيئاً، ونسيَ أن الإنسان يهمِل ويمهِل، ويمل. وقد كان..
لكنه أيضاً، أي الشعب اليمني، يقول بمقولة العربي القديم: ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين. قبل أيام حدثني نجل أحد مشائخ نهم، استشهد أخوه في المواجهات مع الحرس. قال لي: الآن في حوزتنا العتاد العسكري الكامل لستة ألوية بحذافيرها. هذا مجرّد مثال بسيط لمآلات الطرق الأخرى التي يلوح بها صالح. ولو كان قادراً على أن يسلك الدروب الوعرة لكان قد سلكها منذ زمن. إذ في لحظة واحدة أحرق إطارات السيارات أمام المصلّين، في وضح النهار. كان الزمن «جمعة الكرامة». فتح صالح رشاشاته وأطلق النار على المصلّين، بطريقة لم يفعلها عقبة بن معيط نفسه. قتل صالح في نصف ساعة 57 شاباً، دون أن يرتبك أو يصاب بنقطة قشعريرة.
إنه يقول الآن: أريد أن أجنب اليمن الحرب الأهلية. لكنه كان صريحاً، وصادقاً وهو كذوب، قبل حوالي شهرين عندما قال: لا نريد حرباً لا يعلم أحد كيف يمكن أن تنتهي. هذا هو السبب إذن، يا صالح. إنك لستَ متأكداً من نهاية تلك الحرب لذلك فأنت لا تريدها. لم يتوانَ لحظة واحدة عن مغامراته الدامية عندما كان – دائماً- متأكداً من النهايات. لكن هذه الحرب، التي يلوّح بها ويتجنبها، قد تقطع نسله إلى الأبد. يعلم صالح هذا الأمر، وتبدو حيرته بلا شطآن. مثير للشفقة والغثيان أيها المخلوق.
مرّة أخرى: الحصانة! تلككت أميركا عن قبول صالح في أراضيها لأن الإدارة الأميركية «لا تريد صداعاً». الصداع يعني أن وثيقة الحصانة – بالمعنى القانوني- مليئة بالثقوب. الريح تدخل من الثقوب، والريح تخلق الصداع. لذلك لن يصل صالح إلى نيويورك: لا مريضاً ولا بشراً سويّاً. لا أتذكر تلك المرّة التي خيل إليّ فيها إن صالح بشر سوي. حتى عندما ذكرني صديقي ياسر علوان بأخلاق المسلمين التي تحترم العهود والمواثيق فقد قلت له: كان ذلك عندما يكون خصمك مسلماً أو يهودياً أو مسيحياً أو ملحداً، أو تصنيفات أخرى. بالنسبة للمسخ فهو غير قابل للتصنيف، فليس لهيئته ملامح سوى «بطشة دَم» تتآكل البشر في كل اتجاه.
السعودية ستقبل صالح. فهي تبدو قلقة جدّاً على وضع «خاصرتها الجنوبية» كما في رسالة سفير أميركا في الرياض إلى هيلاري كلينتون قبيل زيارتها للمملكة السعودية، نشرها موقع ويكيليكس. وبالنسبة للقانون الدولي فالسعودية لا تكترث له كثيراً لأنها بلد يحكم بالشريعة الإسلامية. فبعد أن عاد صالح إلى اليمن وصله مظروف من الملك، بحسب إعلام النظام، جاء فيه إن ما فعلته السعودية مع صالح ورفاقه إنما هو نابع من تعاليم دينها الحنيف. وطبعاً لم يكن ذلك الدين حنيفاً كما يجب عندما عاد عشرات من جرحى الثورة من مشافي السعودية «مكسوري الخاطر».
راهناً، كثيرون من شباب الثورة مع المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ومع وثيقة الحصانة. مع أن يوقع عليها البرلمان اليمني الذي فقد شرعيته للمرة الألف. البرلمان الذي يرأسه مولانا الحاج يحيى الراعي. وهو شخص ظهر قبل أيام في تسجيل فيديو خطير يحرض مجموعة من القتلة على إطلاق النار على المتظاهرين بقوله: «اتلقفوهم، قبيلي يقتل قبيلي والدولة تفارع». كان رئيس مجلس النواب، أمام حشد من المسلحين، يجز على أسنانه وهو يستخدم الفعل «يقتل» لا سواه. قال عمر بن الخطاب: والله لو تمالأ أهل صنعاء على قتل رجل واحد لقتلتهم به. هذا البرلمان، الذي كان فاقداً للشرعية منذ انعقاد أول جلسة بعد انتخابات وصفها رئيسه السابق عبد الله بن حسين الأحمر بأنها معركة مع «أنياب الوحوش» يُراد له أن يوقع على ورقة ضمانات لعائلة الطغيان نيابة عن شعب لا يمثّله.
يتردد الآن على وسائل الإعلام مصطلح «صقور المؤتمر». هذا توصيف غير دقيق، أساساً. فالمؤتمر مجرد رابطة مصالح يعلو فيها صوت الشخص أو ينخفض وفقاً للدور المصروف له من قبل مدير عام الرابطة. محمد ناجي الشائف، مثلاً، يريد أن يلعب دور الرجل الشرير المخيف، في عملية يفهم منها أنه كلّف بالأفعال الطائشة لأجل «رفع الملام عن الأئمة الأعلام». يدلي بتصريحات مرعبة من قبيل «إعلان الحرب على المعارضة» ولا يأبه له أحد.
وهذا أمر محزن، بالنسبة له طبعاً، وبالنسبة لرئيس الرابطة. فقد سبق أن وصف هذا المخلوق صديقنا المفكر الكبير عيدروس النقيب بـ «الكلب الأجرب» في جلسة برلمانية 2010. ابتسم النقيب، ولسان حاله يقول «في حد بيكّلم هنا يا جدعان، أنا سامع صوت غريب!». هذه أمور أيضاً محزنة لذلك المخلوق.
هذه الرابطة محاصرة وخياراتها ضيقة. إذ تبدو الكوميديا الإلهية مثيرة هذه المرّة على نحو لا يصدق: إن عنصر القوة الرئيسي للثورة هو أن الثوّار ليس لديهم شيء آخر يفعلونه. تقريباً: بلا عمل. في أدبيات العلوم الاجتماعية: حاصل قوة بلد ما هو حاصل جمع قوى كل الأفراد المنتمين لذلك البلد. بينما تبدو الصورة معكوسة مع الثورة اليمنية ومثيرة أيضاً: حاصل قوة الثورة اليمنية هي حاصل جمع «ضَعْف» كل الأفراد المكوّنين للثورة. الصورة التمثيلية: الفتى عاري الصدر، أي الضعيف العاري عن القوة المادية الخارجية، هي أيضاً تجلّ حقيقي لعنصر الثورة الأقوى: يا صالح، ليس لدينا من عمل آخر سوى الثورة. ولو استمرت الثورة ستين عاماً فسنعمل عليها حتى نتقاعد. العسكريون الأذكياء يحذرون دائماً من مواجهة المجموعات التي ليس لديها ما تخسره.
صالح سيحصل على ضمانات في مجتمع لا تزال نسبة كبيرة منه تردد «صلح أعوج ولا شريعة سانية». صالح يريد أن يقدم الحصانة بوصفها «الشريعة السانية» عبر الترتيبات البرلمانية والتخريجات القانونية. لكن خصومه، وهم أوسع من أن يتخيلهم، يريدون الصلح الأعوج: تسوية ند لند، بعد أن يسقط من الطرف الآخر قتلى كما سقط من الطرف الأوّل. هذه هي السيرة التقليدية للمجتمع اليمني، الذي وصفه صالح بمجتمع الثعابين. وهي جملة حقيرة يقال إن صالح سرقها من سياسي جنوبي، في جملة الأشياء التي سرقها من الجنوبيين، وهي لا تحصى.
في الأخير .. نعم لوثيقة الحصانة. وكما علّمتنا يا صالح في ثلث قرن من الزمن نعدك أننا سنكون تلاميذاً أوفياء: سننقلب عليها، وسنعيدك نحنُ هذه المرة إلى «الكتابة في درجة الصفر». مع اعتذارنا لرولان بارت، الله يرحمه.
في الأحد 22 يناير-كانون الثاني 2012 04:56:40 م