هادي... القوة الجديدة التي تتشكل
بقلم/ أحمد الطرس العرامي
نشر منذ: 12 سنة و 3 أشهر و 7 أيام
الثلاثاء 18 سبتمبر-أيلول 2012 04:16 م

يؤمل من هادي أن يؤسس للدولة اليمنية الحديثة التي فشلت في التأسيس لها ثورة 62م، وانشغل عنها الرؤوساء الذين تعاقبوا على حكم اليمن بعد ذلك، وألقت مهمتها على عاتقه ثورة 2011م، وساهمت في ذلك طبيعة المشهد السياسي وما نتج عنها من تسوية سياسية تضمنت مبادرتها (الخليجية) أن يحمل هادي مسئولية التأسيس لهذه الدولة، لكن السؤال الذي يقف كشعر الرأس: هل سينشغل هادي عن ذلك بالاستئثار بالسلطة لنفسه؟!!

حين رأى المجتمع الدولي، والأطراف السياسية المتصارعة في اليمن، حين رأوا في هادي الشخصية التوافقية التي ترضي كل الأطراف، كان يأمل اليمنيون أن يكون هادي حلاً للخروج من الأزمة والفكاك من قبضة القوتين المهيمنتين في البلاد، القوتين اللتين جاءتا من نفس الطينة واللتين لا يعني خلافهما مع بعضٍ اختلافهما عن بعض، إذ كل ما في الأمر أن المركز انقسم على نفسه ولا شيء غير ذلك.

بضعة شهورٍ مضت على صعود هادي، ويبدو أن التغيير يزحف ببطء _إن كان هناك تغيير فعلاً_ لا شيء يمكن فهمه، الوضع يزداد غموضاً يوماً بعد يوم، قائمة طويلة من القرارات، لا يبدو أن هادي جاد في القضاء على أي من القوتين، ولا تبدو لسياسته أي ملامح واضحة سوى أن الرجل يمشي بهدوء وحذر... وكل يوم يمر تزداد هالة الغموض حوله، وتزداد معها هالة السلطة وتتضخم.

ربما كان أصدق وصف قيل عن كثير من قراراته العسكرية هو أنه يقوم بتفكيك القوى التقليدية، لكن ما لا يمكن أن نستبعده هو احتمالية كون الرجل يبني قوته الجديدة على أنقاضها، قوته الشخصية التي تجعل منه الرجل الأقوى... القوة البديلة... يمكنه ذلك، كل الظروف مواتية وحتى الآن لا أحد يعترض طريقه... وحتى الآن ثمة مخاوف لدى الكثير، ثمة مخاوف لدي، وثمة ما يعزز هذه المخاوف... طبيعة المشهد السياسي بما فيه من كثير من الأمور التي تخدمه وتعزز من قراءتنا للأمر على النحو هذا.

ولن يتمكن من تنفيذ الخطة التي تضمنتها المبادرة الخليجية خلال العامين؟ ولقد رد على مخاوف التمديد بالنفي، ولقد نفى احتمالية التغييرات الوزارية في حكومة الوفاق أيضاً ومن ثم فعل ذلك... وخطى هادي بطيئةٌ جدًا على كل حال، ولا ترقى إلى المستوى المطلوب وفقاً لما تقتضيه المدة الزمنية وحاجة البلاد إلى التغيير وطموح الناس، وحالة البلاد المنهكة من الصراع، سواءً أكان يفعل ذلك عن قصد أم عن غير قصد فما زال خيار التمديد مطروحاً، والتمديد يعني فسحة من الوقت ليرسخ وجوده في السلطة ويرتب لبقائه فيها لتمديد آخر حتى وإن في شكل ديمقراطي (انتخابات) يمكن أن يخوضها بثقةِ وبقوة وبمؤشرات أعلى...

هادي وهو الآن رئيس الجمهورية (الرئيس الشرعي، والقادم عبر انتخابات تشريعية، والمسنود بدعم دولي، وبتوافق سياسي، وبتواطئ شعبٍ مغلوبٍ على أمره) خدمته الظروف في إيصاله إلى المكان هذا، وسيحاول أن يحسن استخدامها في أن تبقي عليه في نفس المكان، لقد جاء بوصفه الرجل التوافقي... لكنه لن يستمر بوصفه الرجل التوافقي، بل بوصفه القوة الجديدة التي تشكل نفسها في ظل الظروف المحيطة... القوة الجديدة التي لن تختلف معها الأطراف بقدر ما تختلف عليها، وتتسابق في محاولة إرضائها والتقرب منها، والاستقواء بها على الآخر، سيشعر كل طرف بالحنق أو بالظلم لكن أياً من هذه القوى لن تجرب مناطحة جدران القوة الجديدة وأعمدتها... بل سيختلف الجميع تحت سقفها. ليس في ظل قناعةٍ تامةٍ بمبدأ (القبول بالآخر) بقدر ما هو هبوط اضطراري فرضته ظروف جديدة، صنعت قوةً جديدةً هي بدورها تخلق ظروفاً مختلفةً... تمكنها من البقاء وتقويها يوماً بعد يوم، وبالتالي تجبر كل أطراف الصراع على القبول بهذه الحالة كأمر واقعي وحتمي... وسيستمر الصراع بين القوى إلى ما شاء هادي وستظل أمام كل طرفٍ لافتةٌ مكتوبةٌ بخط حاد ( إما عدوك أو هادي).

كل شيء يصب في مصلحة هذا الرجل الغامض، الأطراف مشغولةٌ ببعضها، وهادي مشغولٌ ببعضه هو، يريد له أن يكتمل، لأعضائه أن تنمو، لقبضته أن تصبح أقوى، لا يبدو أن أحداً سيقف في وجهه، لا يوجد قوة مدنية أو سياسية تمثل ضغطاً يطالب بالدولة المدنية الحديثة وبتمثيل ذلك في كل القرارات والممارسات وبشفافية، المشهد السياسي مشهد تقاسمات ومحاصصات والضمير الوطني صفر كبير، وإن صرخ اليسار (الاشتراكي) سيصرخ فقط حنقاً من (المحاصصة) وعدم الحصول على نصيبه من الكعكة.

وهادي يفكر في الصراع، في توزيع نفسه على القوى، في محاولة استرضائها، لم يناقش قضايا الناس بعد، ولم يقم بأي خطوة تتعلق بما له علاقة مباشرة بالناس أو بحياتهم.. وتعييناته الأخيرة تظهر خطين متلازمين أحدهما (أبيني)، والآخر إصلاحي، ليشي ذلك بطمأنينة الرجل إلى أبين، وخشيته من جبروت الإصلاح، أو على الأقل تحالفه مع هذا الحزب القوي... هذا الحزب القوي سيد التحالفات والصفقات، والورقة الرابحة للضغط على صالح وإضعافه في هذه اللحظة، سيبدي عدائه للحوثيين، والحراك، وسيحتال ما شاء النرجس على شركائه في المشترك، كما احتال على الثورة، سيرفد التحركات السياسية بمسيرات والبركة في الخيام والساحات... ومفردة الثورة، والشباب المطيعين للغاية... وهادي يحافظ على الساحات وحده يستفيد منها، وهذا لا يتناقض أبداً مع حفاظه على خطاب نظام صالح ومفردات تشير إلى (الحوثيون والحراك والقاعدة) بوصفهم العدو الافتراضي الذي يعيش عليه... ولن ينسى هادي أن يتحالف مع "السعودية" ويحسن علاقاته معها... هو يعرف جيداً ماذا تعني السعودية!!

وهادي رجل بارع وذكي للغاية، وإنني لأصاب بالذهول وأنا أرى المؤتمريين يعملون لخدمته (رغم بعض الحنق) والمشترك يدور في فلكه (رغم بعض عدم الرضى)، والقوى القبلية تتقرب إليه، والصحف الرسمية ما زالت رسمية، والإعلام المعارض غدا رسمياً، ويحب هادي بعنف، وإنني أشارف على الجنون وأنا أرى الثورة أجل الثورة، تنوي أن تسير مسيرة صوب منزل صالح، وفي اليوم التالي تسير مسيرةً مؤيدةً لقرارات هادي...، هذا الرجل داهية حتى الثورة التي لم تكن يوماً من الأيام راضيةً به صارت تهتف باسمه يا له من رجلٍ غامضٍ ومخيف... حتى الساحة "بركة الماء الآسنة" -بتعبير نبيلة الزبير- تتحول إلى نهرٍ جارٍ يصب في جيب هادي...

وحتى القوى الحداثية والليبرالية والشبابية والمستقلة ترى في هادي الوسيلة الوحيدة لتفكيك القوى التقليدية التي جنت على الشعب ومن ثم جنت على الثورة... وسيظهر خطاب لا ينمو إلا في رحم السلطة _ربما بشكل تلقائي_ مضمونه (الوحدة، الالتفاف حول الرئيس). والرئيس لا أحد يعرف نواياه، ولا رؤيته، ولا فكره سوى أن المؤشرات _كما يطرح هذا المقال_ تقول أنه يسعى للبقاء في السلطة، تخدمه الظروف ويحاول أن يحسن استخدامها، ويستمر في غموضه، ويعقد تحالفاته، ويفرش درب التمديد، ويلعب على رؤوس الثعابين التي قد يقضي عليها يوماً ما، أو يضطر للعب معها حتى "آخرة المحنش للحنش".

لا يمكنني أن أبرئ ساحة هادي من هذه النوايا وهو الذي اقتنص (فرصة حرب 94م) وفجأة صار نائباً للرئيس ثم همد بعدها ولم ينبس بكلمةٍ، لقد ظل وراء الجدار، حتى صار محل سخريةٍ من كونه النائب الذي لا ينوب، والشخصية السياسية التي لا تهش ولا تنش، لكنه في نفس الوقت ظل يحافظ على مكانه، لم يغضب علي صالح، لم يتدخل في شيء لم يظهر أي قوةٍ يمكن أن تكون سبباً للتخوف، أو مصدراً للتوجس منه...

على مدى أكثر من خمسة عشر عاماً قضاها هادي في منصب نائب الرئيس، بدا خلالها كما لو كان الشخص الذي أنهى حياته ورضي بما كتب له، فيما عدا بعض الفعاليات التي كان يحضرها، أو المشاريع التي يفتتحها... ظل يحدث نفسه ويفكر وحيداً، بلا رصيد بلا عداوات بلا ضجيج، أفكر في غموضه: كيف كان له أن يظهر فجأة كشخصية محل توافق، بعد أن كان محل سخرية؟ وكيف للقوى المتصارعة أن تجتمع حوله بعد أن كانت تجمع كلها على أنه شخص "لا يهش ولا ينش"؟! لم يكن يحلم بالرئاسة ربما، لكن من يقول لي أنه لا يخطط للبقاء في المكان الذي لم يكن يحلم به مطلقاً. وبهدوء تام وببرود أيضاً، يقابل هذا الرجل قلقنا واختناقنا بهواء هذه البلاد، وقال أحدهم لعبد المجيد التركي: التدخين يا أخي موت بطيء، ورد التركي (وهو الشاعر الساخر) لست مستعجلاً... وأخالني أصرخ في وجه هادي: أنت تقتلنا ببطء يا أخي... فيرد لستُ مستعجلاً!!

ah-arami@hotmail.com