ليلة في ساحة التغيير
بقلم/ فكري القباطي
نشر منذ: 12 سنة و 11 شهراً و 28 يوماً
الأربعاء 28 ديسمبر-كانون الأول 2011 08:04 م

لا أتذكر بالتحديد تاريخ تلك الليلة ..

ولكنها كانت في الشهر الثاني من عمر ساحة التغيير ..

كنت في تلك الليلة ساهراً مع أصدقاء النضال في خيمتنا نتجاذب أطراف الحديث عن أمنياتنا وتوقعاتنا الثورية وكان \"القات\" يغمرنا بفيض حنانه وعطائه حتى يستمر صمودنا أمام عنجهية النوم أطول قدرٍ ممكن ..

وكانت في يدي ورقةً أدون عليها إحدى قصائدي التي شغلني الحديث الشيق عن التفرغ لها ..

فجأةً يدخل علينا مجموعة شباب من اللجنة الأمنية ليخبرونا بخبرٍ صاعقٍ مفاده أن النظام يعد في هذه الليلة لعملية إبادة لشباب ساحة التغيير ويخطط لاقتحامها من جميع الجهات ..

أخبرونا أن المعلومات تقول بأن النظام سيحرك لواءً كاملاً لمهمة الاقتحام مدعم بالدبابات والمدرعات والكلاب البوليسية وسيسانده الآف المرتزقة المدججين بالأسلحة والذين تجمعوا منذ المغرب استعداداً لهذه المهمة ..

لم نستوعب الخبر جيداً حتى سمعنا صوتاً جهورياً لأحد القيادات في الساحةِ يقول (( على جميع الشباب الاستعداد للشهادة فهذه الليلة قد تكون ليلة الحسم )) ..

سادت حالةٌ من الصمت في الخيمة بعد هذا النداء قطعها صوت إمام الساحة وهو يدعو الله بصوتٍ باكٍ دعاءً يقشعر له الأبدان وأذكر أنه قال ضمن دعائه (( اللهم إنا نتضرع إليك أن تنصرنا وتجبر ضعفنا .. اللهم إن الأحزاب قد جمعوا لنا فانصرنا يا من لا ناصر غيرك ))..

بدأ شباب الخيمة يعدون أنفسهم للمواجهة وقام البعض للصلاة والدعاء واعترف أني تعاملت مع الأمر ببرودٍ شديد ربما لأني كنت واقعاً تحت تأثير ( الكيف ) ولم أرد أن أقطع \"تخزينتي\"إلا في ساعة الصفر ..

وبعد أن خرج جميع الشباب من الخيمة للمرابطة مع شباب الساحة في المداخل والثغور دخل أمير الخيمة وفي يده زجاجات حارقة وطلب مني أن أبقى في الخيمة لأحرسها فتنفست الصعداء بعد أن أيقنت أن لحظات \"الكيف\" ستطول ..

إلا أن أمير الخيمة عاد وبرفقته بعض الشباب لإخباري أن النظام يخطط لإحراق الخيم وقد كلف عشرات المرتزقة للتسلل إلى الساحة والقيام بإحراق الخيام بالزجاجات الحارقة لحظة الاقتحام ولهذا يتوجب علي أن أحرس الخيمة من الخارج ويا خرمة ما تمت ..

وزاد الطين بلةً تعميم إدارة الساحة على الجميع بوجوب رمي القات لأن الغازات السامة التي سيستخدمها جيش النظام تكون أشد فتكاً على ( المبحشمين ) ..

مرت دقائق بعد صدور هذه التعليمات والتعميمات وأنا أعيش لحظاتي الأخيرة مع ( الكيف ) ثم طويت الورقة التي كنت أدون فيها قصيدتي ..

وهي قصيدةٌ كنت قد وعدت بعض الأصدقاء بكتابتها في الثناء والمديح لصمود تعز الأسطوري وأذكر أول بيت ٍ فيها ..

( وعزُّ الله ما فتئت تعزُّ // برغمِ الظلم يا وطني تُعزُّ ) قمت متثاقلاً من فراشي ورميت القات من فمي وشعرت ساعتها أني ألفظ روحي من جسدي ..

ثم خرجت من الخيمة وفي يدي ( الصميل ) الذي أهداني إياه أمير الخيمة لأحارب به الأعداء القادمين بالدبابات والمدرعات ..

كانت الساحة تعيش حالة استنفاء تام فالجميع يتأهب للمواجهة وكأنني في أحد معسكرات المجاهدين في أفغانستان ..

كان المسنون يلقون على الشباب المواعظ والنصائح ويحفزونهم ويشدون من أزرهم على شكل تجمعات شبابية هنا وهناك وكان ميكرفون الساحة يوزع مهام الائتلافات على مداخل الساحة ..

ورأيت البعض يودعون أهاليهم بالهواتف النقالة ودموعهم تذرف بغزارة ..

ساعتها فقط أيقنت أن الأمر جاد ..

عدت إلى الخيمة وراجعت بعض حركات الكونغ فو التي توقفت عن ممارستها منذ ما يقارب ست سنين وقد بدأت الحماس يدب في عروقي للحظة المواجهة متناسياً أنني سأواجه دبابات وبوازيك لا جاكي شان وجيت لي ..

ثم خرجت إلى الساحة -قرب الخيمة- لأفرض وجودي بين حشود الثائرين المتأهبين للمواجهة وقد كانت المناظر التي شاهدتها تثلج القلب فالشباب يحملون \"الصمل\" والزجاجات الحارقة ويتسابقون للمرابطة في مداخل الساحة بحماس لمواجهة الموت القادم بعد سويعات ..

تذكرت أن هذه الليلة قد تكون آخر ليلةٍ لي فأخذت جوالي لأودع أهلي وأوصيهم بدفاتر أشعاري وكراريس مقالاتي وخواطري غير أني تراجعت ..

شعرتُ أن الأمر سيكون سخيفاً إن لم أمت ..

مر شريط ذكرياتي مستعيداً أحب الأصدقاء إلى قلبي وفكرت أن أرسل لهم رسائل وداعية ولكني تراجعت لأن الأمر سيكون بذات السخف إن لم أمت ..

شاهدت بعض المسنين وكبار السن يودعون أهاليهم بالهواتف وسمعتهم يوصون أبناءهم أن يكونوا رجالاً من بعدهم ..

بعض الشباب كانوا يودعون زوجاتهم والدموع تنهمر من أعينهم بشكلٍ مؤثر ..

كانت أطول وأعظم ليلةٍ مرت في حياتي ..

تذكرت أني لم أصل العشاء فتوضأت وصليت وكانت المرة الأولى التي أذرف فيها دمعة خشوع وتضرع في الصلاة ..

كان الجميع متحمساً ومتفحزاً للمواجهة على الرغم أننا لم نكن نملك غير العصي ولكنها روح الله يبعثها للمستضعفعين كلما حانت لحظة القتال ..

فجأةً ينقطع صوت الدعاء الباكي من ميكرفون الساحة بتكبيرة من مدير المنصة يقول فيها (( الله أكبر ... مجاميع من قبائل خولان تنضم الآن للساحة )) ..

ضجت الساحة بالتكبير ..

بعدها بقليل سمعت تكبيراً في الساحة وعندما استفسرت علمت أن مجاميع من قبائل همدان وأرحب والحيمة وصلوا إلى الساحة ..

مر وقتٌ قصير قبل أن أسمع هزيج زاملٍ مدوٍّ في الساحة لمجاميع القبائل التي وصلت وقد كان الزامل كالتالي :

بلغوا السفاح وكل البلاطج // من يريد الموت يدخل علينا

من دخل فينا ماهو بخـارج// نحرقه بالنار وقدهو عشانا

الله أكبر ..

اشتعلت الساحة بالتكبير والتهليل احتفاءً بهؤلاء الرجال الذين غادروا قراهم في منتصف الليل لمساندة إخوتهم في الساحة..

سمعت بعد ذلك المتحدث بالميكروفون وهو يصرخ بصوتٍ مبحوح مكبراً ومهللاً ثم قال : أبشركم أن أعدادنا تجاوزت أضعاف ما كنا عليه فشباب الوطن ورجاله يقبلون بالآلاف من القرى والمديريات والحواري للدفاع عن ساحة التغيير ..

فارتفعت أصوات التكبير في الساحة ..

لم أستطع أن أحبس عبرتي ..

أدركتُ وقتها أن التاريخ سيسجل لهذا الشعب ملاحماً لن تُنسى في هذه الثورة ..

شعرت بالفخر لأني أنتمي لهذا الشعب الذي وضعه النظام في خانة الشعوب المستضعفة ..

ضجت الساحة بالتكبير بعد أن وصلنا خبراً يفيد بأن الآلاف من رجال صادق الأحمر قطعوا

الطريق على حشود البلاطجة من جولة عمران ..

ثم وصلنا خبرٌ عبر ميكرفون الساحة بعد أن كبر وهلل المتكلم -كـ عادته- فأخبرنا أن قبائل عمران تحاصر الآن المعسكر الذي كان مقرراً له اقتحام الساحة ومنعهُ من التحرك ..

رأيت الكثير يبكون من الفرحة ..

بعدها بقليل علمنا أن النظام قرر إلغاء خطته الجهنمية لاقتحام وتدمير الساحة .. فجاءت البشرى بتفرق الأحزاب وعودة حشودهم إلى أوكارهم ليأتينا الخبر اليقين بأن الله نصرنا من دون أن نخسر قطرة دم ..

كان الشباب يتعانقون ويهنئون بعضهم بالنصر ودموع الفرح لسان حال الجميع ..

لتنتهي أطول وأعظم ليلة في حياتي بسلام بعد أن أيقنت أن هذه الثورة منصورةٌ لا محالة ..

في تلك الليلة أدركت كم أن هذا الشعب عظيم وأدركت أن عزة هذا الشعب قادمةٌ لا محاولة ..

عدت إلى الخيمة لأرى الجميع قد سبقوني إليها -وأنا المكلف بحراستها والبقاء بجانبها- وقلت لهم : اليوم فقط أيقنت أن ثورتنا حقيقية فضحك الجميع ..

ثم قعدت لأكمل قصيدتي التي أكملتها على مشارف الفجر .. ولكن الورقة ضاعت مني بعد صلاة الفجر ...

لأدرك ساعتها أن علي عبد الله صالح لن يكون الوحيد الذي سيفقد لذة النوم في تلك الليلة ..