الإمام الزنداني ... علو في الحياة وفي الممات
بقلم/ د.عسكر بن عبد الله طعيمان
نشر منذ: 6 أشهر و 10 أيام
الخميس 25 إبريل-نيسان 2024 07:03 م

في بواكير التحصيل كانت سيرة الشيخ عبد المجيد تستقل مركز الذاكرة، رأيت فيه أمثلة وتجارب، وعشت معها حوارا ماتعا لا يحده خيال، رسمتُ في صفحاتها مشاهد الماضي وأماني الأيام الخضر، ونسيت هذه اللحظة. الفراق المهيب المصبوغ بدموع الوداع.

لم أدون في الذاكرة شيئا يشبه التوقع ولا حتى التخيل، ولم أكن أعلم أن الكلام سيعجز عن الكلام. رحل الإمام وفي قلب الذكرى صورة لا تمحوها الأيام لخاشع في ناشئة الليل، طالما حقرتُ صلاتي إلى صلاته، وما عرفت معنى أزيز الصدر الذي وصف به الصحابي الجليل عبدالله بن الشخير رسول الله صلى عليه وسلم أنه رآه وهو يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء= إلا لما شرد بي بكاؤه ، صليت مرة خلفه صلاة الظهر، وسمعت أزيز صدره ، ارتعش جسمي كله عندما تذكرت الحديث..، ثم رأيته بعد ذلك ما لا أحصي ولكن كانت تلك أول صلاة أراه فيها عن قرب. 

وما رأيته يستمع للقرآن الكريم إلا ويبكي وفي بعض الأحيان بكاء شديدا أشفق عليه، وكنت أقول: بهذه الخشية بلغ الشيخ ما بلغ، وإنما العلم الخشية كما قال السلف رحمهم الله. عمتي زوجة الشيخ الأولى من العابدات الخاشعات، أحسبها كذلك ولا ازكيها على الله، قالت لي مرة ما رأيته يوما من الأيام مهموما من أجل الدنيا قط، وإنما همه قضايا المسلمين، وأما همته فحدث ولا حرج فشواهدها نابضة تنطق بالحق وقد أثمرت وأينعت ، كتبا ومحاضرات، ومراكز وجامعات، ومناهج تعليمية ومؤلفات تربوية، وعلماء وعالمات ودعاة وطلبة علم في أصقاع الأرض، ومؤتمرات في الإعجاز العلمي ونصرة قضايا الإسلام، في غيرما دولة، إلى غير ذلك ..

وهب الله الشيخ صفات الشخصية القيادية المؤثرة، كان رحمه الله فصيحا مهيبا قوي التأثير على الجماهير، مكينا في عرض الحجة، مؤيدا في جمع الكلمة .. سمعت قبل أكثر من سبعة عشر عاما أحد علماء الشام الأذكياء يقول: لو أن التيار الإسلامي في اليمن استثمر شخصية الشيخ عبدالمجيد لكان لهم أكثر مما كان أردوغان لتركيا.، وحدثني أحد الثقات عن قيادي كبير في الحزب الناصري، أن أقوى شخصيتين في اليمن لديهما كاريزما تمكنهما من تحريك الجماهير هما الرئيس السابق علي عبدالله صالح والشيخ عبدالمجيد، ثم يقول: ولذلك تم استهداف الشيخ من الداخل والخارج إعلاميا ودعائيا حتى يضعفوا تأثيره.، وما علمت أحدا من الدعاة المعاصرين أجلب عليه شياطين المنظمات والسفارات وذباب المخابرات وبعض سفهاء الجماعات بخيلهم ورجلهم كما تعرض الشيخ عبدالمجيد رحمه الله...

وودِدْتُ لـو أَنـي فـداكَ مـن الـرَّدَى

والكـــاذبون المُرْجِــفونَ فِــدائي

النــاطقونَ عـن الضَّغينـةِو الهـوى

المُوغِــرُو المَـوْتَى عـلى الأَحيـاءِ

مــن كــلّ هَــدَّامٍ ويَبنـى مجـدَه

بكـــرائم الأَنقــاضِو الأَشــلاءِ

مـا حَـطَّموكَ, وإِنمـا بـكَ حُـطِّموا

مــن ذا يُحـطِّم رَفْـرَف الجـوزاءِ؟!

اُنظُـره, أَنت كـأَمْسِ شـأْنُكَ بـاذخٌ

فـي الشـرقِو اسْـمُكَ أَرفعُ الأَسماءِ

خــلَّفْت فــي الدنيـا بيانًـا خـالدًا

وتــركْت أَجيــالاً مــن الأبنــاءِ

وغـدًا سـيذكرك الزمـانُ ولـم يَزلْ

للدِّهــرِ إِنصــافٌ وحسـنُ جـزاءِ

كان رحمه الله مؤهلا للقيادة، قال أحد قيادات الدعوة الكبار قديما: إن الله أنعم على الشيخ عبدالمجيد فملّكه ناصية الكلمة، وهذا مدح ووصف مكثف يحتوي على معان بعيدة الأثر، ويكفي لتأييد هذا الوصف شهادة أحد أقاربي أنه حضر محاضرة للشيخ استغرقت ثلاث ساعات متواصلة، ويقسم أنه طوال هذا الوقت لم يعدل من جلسته من شدة تركيزه وانجذابه مع المحاضرة، وقال الأستاذ الإعلامي الكاتب الكبير نصر طه مصطفى في وصف الشيخ يوما: هذا الرجل مؤهل للعيش تحت الأضواء. وهذا وصف عميق دقيق يجلي معنى الشخصية القيادية المؤثرة.

أخيرا أكرم الله الشيخ عند مماته ولا نزكي على الله أحدا، بأكثر من مائة ألف مسلم صلى عليه صلاة الجنازة وهو غريب عن بلده وفي بلد غريب، وضج المسلمون في أصقاع الأرض بالترحم عليه والدعاء له، وصُلي عليه صلاة الغائب في كثير من بلدان العالم، وصدق إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله حين قال : ( قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز) وقد وصلني ما لا أحصي من مشاعر تأثر لا توصف حتى من أشخاص لم يعاشروا الشيخ رحمه الله عن قرب، وهذا والحمدلله من علامات القبول الذي يضعه الله في الأرض لمن أحب من عباده. رحم الله الشيخ وأعلى مقامه في عليين وإنا لله وإنا إليه راجعون.