الوجوه المبتسمة على العدسة
بقلم/ ياسر عبد الباقي
نشر منذ: 13 سنة و 6 أشهر
الإثنين 27 يونيو-حزيران 2011 09:13 ص

قبل أكثر شهر من كتابة هذا المقال, كنت في العاصمة صنعاء. جلست فيها خمسين يومًا وأنا أتجول في ساحة الحرية والتغيير, حيث تنتصب فيها الكثير من الخيم, الكبيرة والصغيرة الحمراء والصفراء, تستقبلك يافطة كبيرة كتب فيها "مرحبا بك في كيلو متر مربع حرية".

الشارع الرئيسي الذي كان يؤدي بي إلى الجامعة والشوارع الفرعية مغلقة.. عند مدخل كل حارة يتم تفتيشنا من قبل شباب التغيير, الشارع من بدايته إلى نهايته مزدحم بالمارة. نساء ورجال وأطفال يلتفتون إلى كاميرتي ويشيرون لي بالنصر, وأحيان يصرخون: ارحل.

أحدهم وقف أمامي.. وأخذ يصرخ بصوت عال يطالب صالح بالرحيل, تجمع حولي الكثير, الجميع اعتقد أني أصور لقناة تلفزيونية معارضة للنظام.

الكل هنا يبتسم للكاميرا.

يدرك الكثيرون أن الصورة وسيلة سهلة لإيصال الحقيقة.

يصدح صوت النشيد الوطني في الساحة, فجأة وبشكل مذهل يقف الجميع احتراما لهذا النشيد.. هناك من يضع يده على قلبه, وآخر يرفع العلم عاليا, وأب يحمل ابنه على كتفيه, وآخر يقوم بتحية عسكرية, الشارع يتوقف عن الحركة, بمجرد ينتهي صوت النشيد, يعود كل شيء إلى طبيعته.

ساحة التحرير في صنعاء ليس مجرد ساحة للغضب على النظام, أنها أيضا ساحة للتعارف, والفن والأدب , ساحة للبيع والشراء , ساحة للطعام , وبيع الصور والميدليات.

يقف فتى في الثانية عشر من عمره أمام خيمة كبيرة لأحد القبائل, وأمامه كرتون فيه علب الماء , ويلوح بعلبة عاليا ويصيح: ماء .. ماء.

نظر إليّ وابتسم, وترك عينيه مصوبة نحو عدسة, وهذا المرة كان صوته أعلى.

توقفت أمام عربة صغيرة لبيع الشاي, لم يكن الشاي مصنوعًا جيدا , لكن البائع الشاب وجدها فرصة للكسب المالي, كان يضع على رأسه عصبة كتب فيها ارحل.

من حين إلى آخر يمر من أمامي مجموعة رجال القبائل وهم يغنون بصوت عال متناغم:

"حتما سنموت.. فلماذا الخوف". هي عبارة كتبت في ذراع أحد المصابين التقيت به ممددًا في أرضية مسجد الجامعة.. قال لي وهو يشهر لي ذراعه: لماذا نخاف.. إذا الموت بآمر الله.

يحدثني صيدلي غاضبًا ومجهدًا في المستشفى الميداني, بأن وزير الصحة قد أرسل لهم أدوية منتهية الصلاحية أو أدوية لمنع الحمل.. كان الصيدلي الشاب غاضب جدا.. أنهى حديثه معي قائلا: ماذا نفعل لأدوية منع الحمل؟

أوقفني شابا نحيل الجسد, علّق على قميصه ورقة صغير كتب فيها "مسعف".

راح يحدق نحو عدسة كايمرتي, تحدث إليّ بلكنة سريعة بأنه أسعف الكثير من الشباب المعتصمين في ساحة التغيير, وأن الرصاص الذي أطلق عليهم في أحداث يوم الجمعة الدامية كانت موجهة نحو الرأس والرقبة.. بدأ صوت الفتى يضعف ويتهتك, كأن شريط الأحداث السابقة تمر أمامه.. كأن هذا المسعف سيبقى يتذكر صور القتلة طوال حياته.

في زاوية من ساحة التغيير, يمسك ابن المدينة أحمد العسيري جيثاره, بينما يلتف حوله شباب القبائل وبصورة مدهشة كانوا يرددون خلفه أغنيته الظريفة:

أنا جالس جالس/ حتى يسقط النظام/ وأنا رايح جم الجامع حتى يسقط النظام/ زبادي .. زبادي حتى يسقط النظام/ لحمه .. لحمه حتى يسقط النظام.

رغدة جمال صحافية جميلة, وناشطة فيسبوكية (فيس بوك).. تجدها في الموقع الاجتماعي مشاغبة جدًا وساخرة جدًا, لكن في حفل توقيع كتابها الأول كانت خجولةً جدًا, الخيمة الذي استضافت حفل التوقيع اكتظت بجميع فئات المجتمع في ساحة التغيير, تم تعريف رغدة جمال بأنها أول شاعرة يمنية تصدر ديوان شعر كتب باللغة الانجليزي, عنوانه:

" lost in a fairy tale ".

خلف المنصة الرئيسة للساحة يجلس شاب معه فرشه ألوانه, ويصطف حوله مجموعة من الأطفال. يبدع الشاب في رسم الأعلام على وجوه الأطفال, ولا ينسي أبدًا أن يكتب على اليد أو على الوجه الكلمة المشهورة "ارحل".

يتقدم مني رجل في منتصف الأربعينات ويطلب مني أن أصور ذراعه, وشم الرجل جلده بالنار وكتب بخط عريض ارحل يا سفاح.

يبتسم للكاميرا طفل جميل جالس على حافة الرصيف وقد لوّن وجهه بالعلم الوطني وكلمة ارحل, أشار لي بعلامة النصر وهتف : "ارحل لكي أكبر وأعيش".

ما يميز ساحة التغيير هنا في صنعاء الأطفال, تجدهم في كل مكان, زائرين مع عائلاتهم أو هاربين منهم, أو مع أصدقائهم, أو لبيع الصحف وأشياء أخرى.

تقول نبيلة الزبير وهي روائية يمنية مشهورة: "إن الساعات القادمة هي ساعات حاسمة, ساعة القرار في المغادرة, هذه هي الثورة الشعبية الذي ينبغي على الجميع أن يدعمها".

أحد الناشطات بدأت أكثر حيرة وقلق من المستقبل, حيث راحت تتساءل: "ماذا بعد سقوط نظام صالح هل ستبقى لنا الكلمة (تقصد الشباب) هل سيكون لنا دور مشارك بعد التغيير أم سنجهض؟.

عدت لعدن وهي مدينتي.. مدينة عدد سكانها أقل من العاصمة صنعاء ومحافظة تعز, لكن عدد ساحات التغيير فيها أكثر, تقريبا خمس أو أربع ساحات , كل ساحة لها أراء وتوجه معين, لكن الهدف هو واحد: إسقاط صالح ونظامه.

لكن في عدن أيضًا هناك توجس وتذمر من المجهول, أحيان تسمع أن الانفصال أفضل, ويرى البعض أن تبقى الوحدة لكن أن تسترجع للجنوبيين حقوقهم المنهوبة.. والغريب أن صوت الانفصال يرتفع بين جيل من الشباب من مواليد ما بعد1990م وهي السنة التي تم تحقيق الوحدة بين اليمن الجنوبي مع اليمن الشمالي, في مظاهرة طويلة في أحد شوارع عدن, حيث ترى بوضوح العلم السابق لليمن الجنوبي يحمل في أيادي كثيرة, ومعظم من يقود المسيرة هم من الشباب والمراهقين.. سألت أحدهم وكان يحمل مزماراً, فتى في السادسة عشر من عمره, نحيل الجسد, كان العرق لامعًا في وجهه: لماذا تريد الانفصال؟

نظر إلي فاحصًا, ثم انفجر صائحاً.. صاح: سئمنا من علي صالح.. وجربنا الوحدة.. كانت مرّة.. ونشتي جنوب حر.

وعاد راكضًا للمسيرة.

يصور المخرج الشاب عمرو جمال فيديو كليب أغنية قديمة لفنان عدني مشهور, مشكلة عمرو إنه سريع الإحباط والقلق, أو كما يقول "القلق الذي يدفعك إلى تحقيق شي جيد في المستقبل". خلال بداية التغيير في اليمن كان جمال من أوائل الشباب في عدن يطالبون بالتغيير, وكان نشاطه ملحوظًا في الفيس بوك. استعار كاميراتي في تصوير بعض مشاهد الأغنية.. قال وهو يحضنها: "إن عدن.. هي الجنة ".

الآن..

 صوت الرصاص والقذائف تدوي بصنعاء..

بالتأكيد ليس هي الجنة التي يحلم بها اليمنيون..


*رئيس تحرير مجلة "جدارية" الثقافية الالكترونية.