متخلفون حضارياً.. مهزومون رياضياً !
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 16 سنة و شهر و 29 يوماً
الثلاثاء 09 سبتمبر-أيلول 2008 02:47 م

لا يمكن أن نكون في مؤخرة العالم حضارياً، ونكون في المقدمة رياضياً. مستحيل، وإلا كانت نتيجة خمسة زائد خمسة تساوي تسعة آلاف ومائتان واثنين وعشرين، وهو غير ممكن حسابياًً. ولو كنت مكان بعض الدول العربية لما أرسلت رياضيين إلى أولمبياد بكين حفاظاً على ماء الوجه، فهل يُعقل أن نورط الأقزام في مبارزات مع العمالقة؟ لا ينفع الندم الآن، فقد فعلناها في بكين.

الأداء العربي الهزيل جداً في العاصمة الصينية يجب أن لا يشكل صدمة لأحد، فما كان بالإمكان أبدع مما كان. فلا يمكن لأي دولة في العالم أن تتطور إلا شمولياً، وأعني هنا التقدم الشامل على كل الأصعدة. صحيح أن فرنسا كانت ذات يوم متخلفة في كل شيء ومتقدمة في مجال الفلسفة فقط، إلا أن هذه الحالة نادرة جداً تاريخياً وليست مقياساً، فكيف للرياضة العربية أن تزدهر وترفع رؤوسنا عالياً في المحافل الرياضية الدولية إذا كان كل شيء لدينا متدهوراًً سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً؟

لقد أصاب نيكولاس كريستوف المعلق في صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية كبد الحقيقة عندما قال إن: "نهضة الصين تتجاوز الميداليات الذهبية.. صحيح أن الصين أبهرت العالم بهذه الطفرة الرياضية العظيمة التي أزاحت الولايات المتحدة لتصبح الفائز بمعظم الميداليات الذهبية، إلا أنه ستكون للصين بصمة أكبر في الفنون والتجارة والعلوم والتعليم.. إن نهضة الصين في الأولمبياد ممتدة إلى كافة مناحي الحياة تقريباً". بعبارة أخرى، فإن الريادة لا تأتي في مجال وتتخلف في آخر. وكم كانت الباحثة والكاتبة في الشؤون العلمية صفات سلامة محقة عندما ربطت بين التفوق الرياضي والتقدم العام لتؤكد على ما ذهب إليه كريستوف.

بعبارة أخرى، فإن الرياضة يمكن أن تكون مرآة المجتمع، فحصاد الدول الفائزة بالعديد من الميداليات في الدورات الأولمبية،"لم يأت من فراغ، فالرياضة منظومة متكاملة، تشمل قائمة طويلة من الموارد، والمعدات والأدوات الرياضية المناسبة، والكفاءات والخبرات، والتدريب الجاد، وجوانب نفسية منها الإصرار والعزيمة والقدرة على التحمل، والعمل الجماعي، والتعلم والاستفادة من تجارب الآخرين، والثقافة الرياضية في المجتمع، إلى غير ذلك، ويأتي على رأس قائمة هذه المنظومة التخطيط الجيد والإدارة الفعالة."

كيف لنا أن نطبق المعايير المذكورة آنفاً على الرياضة إذا كانت غائبة تماماً عن باقي مناحي الحياة العربية. هل وفرنا المعدات والموارد والأدوات والكفاءات والخبرات والتدريب الجاد والثقافة والتخطيط الجيد والإدارة الفعالة لأي من مؤسساتنا التعليمية والصحية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية كي نوفرها للرياضة؟ بالطبع لا، فما ينسحب على التعليم والصحة ينسحب على الرياضة. وقس على ذلك.

الرياضة في بلداننا، وللأسف، هي بنت السياسة العربية، فإذا كانت سياساتنا فاسدة، فلا يمكن إلا أن ينعكس ذلك الفساد السياسي على الرياضة والرياضيين. فالرياضة هي إحدى ممتلكات النظام الشمولي العربي، مثلها في ذلك مثل مصلحة الصرف الصحي والفلاحة وجمع الزبالة والصناعة والسباكة والطبابة والثقافة والفن والعلم والتجارة والقضاء والتعليم وبقية القطاعات. ولا عجب أبداً أن من بين أسماء الحاكم العربي الحُسنى اسم "راعي الرياضة والرياضيين". فحتى الرياضة التي تعتمد بالضرورة على القدرات الجسدية هي تحت إمرة النظام العربي الرسمي ومن فضاءاته السلطوية.

لا يمكن لرياضيينا أن يتفوقوا لا داخلياً ولا خارجياً إذا كانت الرياضة عندنا تدار بعقلية الواسطة والمحسوبية والانتماءات الضيقة. فالمؤسسة الرياضية في الكثير من البلدان العربية هي مؤسسة حزبية أو سلطوية أو عائلية. ولا عجب أن ترى على رأس بعض المؤسسات الرياضية العربية أشخاصاً مؤهلهم الوحيد أنهم قريبون من السلطة أو متحزبون أو مخبرون، ويفهمون بالرياضة كما أفهم أنا بالانشطار النووي ما بعد الحداثي. فكيف للرياضة العربية أن تزدهر إذا كانت مسيسة من رأسها حتى أخمص قدميها ومدارة بعقلية قبلية أو عائلية أو طائفية أو حزبية أو حتى عشائرية؟

صحيح أن بعض الدول الخليجية استثمرت مشكورة في الرياضة، وأنفقت الملايين على النهوض بالمجال الرياضي عربياً وعالمياً من خلال استقدام رياضيين عالميين للعب والتدريب، إلا أن هذا هو الاستثناء وليس القاعدة.

البعض قد يقول إن الرياضة جزء من المؤسسة السياسية في الصين الشمولية. وهذا واقع، لكن شتان بين الشمولية الصينية والشمولية العربية. صحيح أن الحزب الشيوعي الصيني حزب شمولي يُحكم قبضته على كل مجالات الحياة في البلاد، لكنه يختلف عن الأحزاب العربية المشابهة بأنه حزب وطني بامتياز يناضل بشكل فعلي من أجل الصين وشعبها وإعلاء كلمتها في المحافل الدولية. فهو يستأثر بالسلطة، لكن ليس من أجل مصالح حفنة من الحزبيين السفهاء والسفلة وعائلاتهم وأقاربهم وأبناء عمومتهم وبلدتهم ومن لف لفهم. إنه حزب لكل الصينيين الموالين منهم والمعارضين.

إنه حزب الصين العظيم وليس حزب هذه المقاطعة الصينية، أو تلك أو هذه الفئة، أو العائلة أو الطائفة أو القبيلة أو العشيرة أو الطـُغمة أو تلك. إنه حزب كل العمال والفلاحين والكادحين. إنه حزب الجماهير بكل انتماءاتها. وحين يقول للصينيين "إنني طليعتكم القائدة وممثل طموحاتكم وآمالكم، ولا بد أن أحمل مشعل القيادة" فهو لا يكذب عليهم، بل يجّسد فعلاً هموم وتطلعات السواد الأعظم من الشعب الصيني الذي ارتضى أن يكون الحزب الشيوعي المعبر عن مصالحه والمسير لأموره في الداخل والخارج . ولا داعي لسرد ما أنجزه الحزب الشيوعي الصيني على الصعيد الدولي اقتصادياً ورياضياً، فالمنتجات الصينية التي تغزو أمريكا ذاتها خير برهان على ذلك. وقد جاء الفوز الصيني المدوي بمعظم الميداليات الذهبية في أولمبياد بكين ليزيد الصورة الصينية إشراقاً وجمالاً.

لا رياضة مزدهرة من دون ريادة حضارية شاملة!