طردوا العقول والآن يطردون الشباب
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 15 سنة و 6 أشهر و 5 أيام
الإثنين 11 مايو 2009 06:26 م

رب يوم بكيت فيه، فلما صرت في غيره بكيت عليه. فبالأمس القريب كنا نشتكي من هجرة العقول العربية إلى الخارج لتحرم الوطن العربي بذلك من خبراتها وعقولها النيرة، وتتركه فريسة للتخلف والجهل. وليت الأمر ظل محصوراً في هجرة العقول الباحثة عن لقمة عيش نظيفة، وفسحة أمل وحركة في الغرب، فقد أصبحت الهجرة حلم القاصي والداني في بلداننا العربية، وهو أمر مرعب ورهيب وخطير بكل المقاييس. الكل يريد أن يهاجر، هذا إذا لم يكن قد هاجر أصلاً.

ولا أدري إذا كان سيأتي اليوم الذي سيفوق فيه عدد بنات حواء في بلداننا عدد أبناء آدم بعشرات المرات بسبب الهجرة، أو تصبح فيه بعض البلدان العربية في أحسن الأحوال مأوى للعجزة لا أكثر ولا أقل، لسبب وحيد فقط وهو أن العجائز و"العواجيز" لا يقوون على السفر، وإلا ربما كانوا قد فكروا بالموضوع..

قبل أيام ضل رجل عجوز طريقه في إحدى القرى العربية، فراح يبحث عن رجل أو شاب لكي يرشده إلى الطريق العام كي يستقل وسيلة ركوب إلى حيث أتى، فلم يجد في طريقه إلا الأطفال والنساء والبنات، فتردد كثيراً، من قبيل الحشمة والحياء، قبل أن يسأل إحداهن لكي تدله على الطريق. وتساءل الرجل في سره: "هل يعقل أنني لم أصادف شاباًً حتى الآن كي أسأله عن الطريق. يا إلهي، ما الذي جرى لهذه القرية، لماذا خلت من الرجال؟" وبعد طول تفكير، وبعد أن أعياه البحث عن شاب، استجمع الرجل قواه، واقترب من إحدى النساء لترشده إلى الطريق، ففعلت بطيب خاطر. وما لبث صاحبنا الضائع أن سألها:" عفواً يا ابنتي، أليس هناك شباب في هذه القرية، لم أر في طريقي سوى النساء والبنات والأطفال"، فتنهدت المرأة وقالت: "معك حق يا عم، معظم شبابنا ورجالنا مهاجرون".

وقبل أيام أيضاً حدثني أحد الأصدقاء أنه يريد أن يبني منزلاً في أحد الأصقاع العربية، وبعد طول عناء، وجد معلم نجارة في العقد السادس من العمر، لكنه ما زال يعمل بجد، فطلب منه أن يتولى بناء المنزل، فوافق المعلم بشروط. ولما سأله صاحبنا عن تلك الشروط، أجاب: "يسعدني أن أبني لك منزلاً إذا وجدت ما يكفي من العمال في البلدة كي يساعدوني في أمور البناء، فالأيدي العاملة أصبحت في بلادنا العربية إما نادرة للغاية، أو أنها تطلب أجوراً طائلة لا أقدر على دفعها". وراح المعلم يسرد معاناته الشديدة في إيجاد عمال للقيام بمهام البناء، وكيف أن العامل الذي كان يبحث عن أي عمل في الماضي أصبح يفرض شروطه المجحفة على الناس، ويطلب مبالغ لا يمكن أن يجنيها أقرانه في بلاد الغربة، وذلك بسبب النقص الشديد في الأيدي العاملة. لقد غدا العامل ملكاً في بعض البلاد العربية هذه الأيام بعد أن كان يتسول ويتوسل العمل!

في الماضي مثلاً كان الشباب اللبناني يأبى أن يعمل في بعض المهن في بلاده، لهذا كان يسافر إلى الخارج بحثاً عن أعمال أفضل ومرتبات مرتفعة، ويترك أعمال النجارة والحدادة والبناء والتنظيفات لعمال عرب آخرين يقبلون بها وبأجورها. أما الآن فحتى هؤلاء العمال لم يعودوا يقبلون بتلك الوظائف وتلك الأجور، فشدوا الرحيل إلى دول الخليج وغيرها. لقد تحولت بعض البلدان من مصدرة للعمالة إلى مستجدية لها.

قد يعزو البعض هذا الهجرة الجماعية للشباب إلى الجشع. لكن السبب، في واقع الأمر، ليس ذلك. فلو كان الشباب قادراً على تأمين نفقات الزواج لتزوج على أقل تقدير، فالارتباط الزوجي قد يقلل من إمكانية الهجرة، لكن الحاصل أن السواد الأعظم من الشباب في بعض الدول العربية لا يستطيع تأمين ثمن خاتم الخطوبة، وهو أضعف الإيمان، فما بالك بتأمين منزل الزوجية وإنجاب أطفال. هل نلوم الذين يعبرون البحار بقوارب الموت في دول المغرب العربي من أجل الوصول إلى أي بلد بحثاً عن لقمة العيش؟ هل سنستورد أيداً عاملة من الهند والفلبين في المستقبل القريب، كما هو حاصل في بلدان الخليج؟

لقد ارتفعت معدلات سن الزواج بشكل مذهل في العالم العربي، وارتفعت معها نسبة العنوسة في أوساط الشباب والشابات على حد سواء بشكل يهدد التركيبة الاجتماعية لتلك البلدان.

هل هناك سياسة تهجير قسرية مستترة في بلداننا؟ ألا يكفي أن حكوماتنا طردت خيرة العقول؟ لماذا يفرغون البلاد الآن من العمال وصغار الكسبة، وخاصة الشباب منهم؟ الجواب أمني بامتياز، كما هو الحال مع كل القضايا العربية الداخلية، فقد بات الحل الأمني بلسماً لكل أمراضنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الديموغرافية، فبسبب ارتفاع نسبة الشباب في العالم العربي باتت الأنظمة تخشى من أن يؤدي ذلك إلى حراك داخلي، أو ربما إلى انفجارات اجتماعية خطيرة، لهذا تستبق الأمور وذلك بتسهيل هجرة الشباب تخفيفاً للاحتقان، لا بل تزيـّنها لهم، درءاً للانتفاضات الشعبية.

لا شك أن بعض الأنظمة العربية سعيدة جداً بهجرة الشباب، حتى لو توقفت الحركة في الأوطان، المهم ألا يعكر أحد صفو تلك الأنظمة التي استمرأت "الاستقرار" المزيف، حتى لو أدى ذلك إلى وضع المجتمعات في ثلاجات وإفراغها من قواها الحية التي لا يمكن لأحد غيرها أن يبنيها. من قال إن حكوماتنا عاجزة عن إيجاد حلول ناجعة لمشكلة البطالة وارتفاع عدد السكان؟ ألم تسمعوا باستراتيجية "التطفيش" العربية الشهيرة؟

وكم حزنت في أحد المؤتمرات عندما سألت مسؤلاً عربياً إذا كان لدى حكومته استراتيجية لاجتذاب العقول المهاجرة بمختلف أنواعها، فأجاب: "الله يبعدهم ويسعدهم".

وقد برر مباركته لهجرة العقول والشباب بأنهم أيضاً ينفعون وطنهم في الخارج. يا سلام!

إن الفرق بين الدول التي تحترم نفسها، وتريد مصلحة أوطانها وبين الدول العربية، أن الأولى تحاول تأمين الكثير من الأمور للجيل الصاعد كي يكون قادراً على بناء الأوطان والنهوض بها، بينما تعمد الحكومات العربية إلى طرد شبابها كي لا يشكلوا أي تهديد لسلطاتها.

ليس المهم بناء الأوطان بسواعد الشبان في عالمنا العربي، بل الحفاظ على السلطة من خطر الجيل الصاعد الذي يشكل في بعض البلدان حوالي خمسة وسبعين بالمائة من عدد السكان.

لقد نادى كارل ماركس ذات يوم: "ياعمال العالم اتحدوا". أما الأنظمة العربية، على ما يبدو، فتقول:" ياشباب العالم العربي انتحروا، وفي أحسن الأحوال انصرفوا!"