انتصر الضابط... سقط الرئيس!
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 16 سنة و 7 أشهر و 25 يوماً
الخميس 20 مارس - آذار 2008 12:39 م

مأرب برس - خاص

- مقالة إفتراضية في عشية اليوم التالي لرحيل الرئيس - حفظه الله -. في محاولة لإظهار التباين الراهن، بين السيرة والصورة للرئيس - الضابط، والتي لاتزال من أكثر المعادلات المعقدة التباساً في عالمنا الثالث، وليس في اليمن حصراً.

***
البقاء لله...

وداعاً وإلى اللقاء أيها القائد المشير، الآن ترحل الى عنواناً اصبح معروفاً، بعد ان تاه عنا عنوانك في الدنيا.

فجعت اليمن إذ توليت عنها بعد عمر جيلين ونيف من ممارساتك معنا لما يسمى بدعابة المشنقة!

يجب أن لايضعنا الحزن بالجرة، ويجب ألاّ نشق الصدور أو نكسر الفخار بعدك أيضا... فسنة الحياة أنها لا تتوقف، فلا الشمس ولا القمر ينكسفان لموت أحد، كما أوصانا رسول الخلُق العظيم

- نحن محزونون فعلاً، فأنت عزيز علينا - كيفما كنت -... هذا الكلام ليس لطمية، ولا ينطلق من حنين.

إنه مصارحة ووفاء لذكرى ضابط بطل، كانت عينيه تتألق بنظرة تنفذ من زجاج نظارته السوداء... عسكرياً شجاعاً - بل ويقال كان متهوراً - ما كان ليستمر طويلاً في ظل قيادة "غشمية" أو إدارة رشيدة، لولا القدر البهلواني الذي قذف به الى كرسي القيادة.

... وما كان له ان يجرؤ على التفكير به، لولا ضربة حظ.. لسبب واضح وبسيط.. في تلك المرة.. لم يكن ثمة من يحرس الكرسي.

كان ضابطاً لايشق له غبار، فروسيته مشهود لها... هناك كان يسهر على أدواته ليطورها بقدر هائل من المثابرة والصبر والألمعية والإخلاص... كان دائماً حريصاً على أن لا يكون من صورة أمس.. فيومه القادم كان عنواناً لسهره الطويل.

لذلك كان يرى في كل ما يعمله الآخرون، نوعاً من الزاد الذي يعينه على المضي قدماً في رحلته، وهي رحلة اخترقت الزمن، وتركت على كل بقعة منه أثراً لذلك الضابط الذي لعب دور رئيس.

- لم يمنعه أن تتحول فطرية نشأته إلى طاقة هائلة أفلحت في تركيب "جمهوملكية"، حتى أن اليمن كله أصبح إحدى إكسسواراته الشخصية.

ولأن الذكريات على أهمّيتها لا تعفينا من قراءة المتن والبحث في الدلالات، فلربما كان أكثر المواقف غناً في حياة هذا الضابط، هي ملحمة الوحدة اليمنية - بشقيها - سلماً وحرباً، والتي لم يجحدها الشعب الذي ضرب اروع انواع قصص التلاحم التلقائي عندما أدرك خساسة مؤامرة الإنفصال.

- لكن لأن الكيل فاض، - نعم... البعض فرح لرحيل راع ظل متشاغل بمعسكراته عن عذاباتهم.. وجنازاتهم.. ودموعهم.. وجوع أطفالهم.

بالنسبة للمواطن الصبور - الذي رفض قانون اللعبة منذ أمد بعيد -، لا يمكن الإدعاء بأن هذا اليوم لم يكن مُنتظراً بفارغ الصبر، بل ربما يمكن القول - مع بعض المبالغة - انه كان يتمنى هذا اليوم ويتشوق اليه.

فمن يعش ليرى رحيل عسكري عن الحكم، لابد أن تغمره العافية... أنه حدث يزرع أمل فيه نوع من الشفاء.

وما بين الضابط والرئيس... إسمح لنا أيها الفقيد الغالي بمكاشفة لم يُسمُعها لك المقربون الذي لا خير في كثير من نجواهم ... وتقاعسنا نحن - جبناً - عن قولها لك في حياتك.

عندما أتيتنا تمتطي صهوة مدرعة، لم يظنك أحداً فارسها.. ولم يأخذك الناس على محمل الجد.

كنت أنت تعرف ذلك جيداً... أليس كذلك؟ - ومع هذا - بشطارة الحاوي "مدرب الثعابين" - خيبت ظن الجمع فيك.

ورغم نجاحك في انتزاع الاعتراف بشرعيتك من مجتمع يقطر عذرية، كنت بارعاً في تحريك الخنجر في خاصرة ضحاياك، وعليه اكتشف الناس سريعاً، أنك لم تكن إمتداداً للمسيح الحمدي، بل تجسيداً ليهوذا... الذي باع سيدنا اليسوع بثلاثون فضة. - مجرد إصدار محدث من آمرك السابق الغشمي، لكن بقلب صلب أكبر سعة وذاكرة أكثر إتقاداً، ومعالج يلفظ كل المدخلات ليخرجها أشكالاً واصواتاً إفتراضية.

- نعم أنت بنيت... لكن كامل بنيانك لم يكن سوى أجهزة هضمية تحيل كل سائغ إلى مخلفات إنسانية نتـنه.

إن من يرى اليمن اليوم بعد عقود عهدك يقرأ فيها سيرتك... وكأن سيرتك مكتوبة في صورتها.

وكأن كل ما فعلته إنما كان رسماً يحكي قصة الإخفاق الإستراتيجي لأكبر تجمع بشري في شبه الجزيرة، - بل لم يكن لديك ما تفعله طوال حياتك، سوى إعادة تركيب تقاطعات تلك الصورة، - التي تشبه إلى حدٍ بعيد، احداثيات خطوط وأصباغ غوريللا تعبث في معمل رسام.

- وبهذا التأمل في الصورة يصبح كقراءة السيرة!

استطعت أن تنجز اُسطورتك الشخصية بشعور عظيم من المسؤولية إزاء ما كان يقع إلى جوارك من أحداث. في ظلك، اتسعت مساحة الأرض اُفقياً، وتقلصت عمودياً... لكننا فقدنا مساحات شاسعة من حدائق الكرامة.

إنك ببساطة - رغم إدعاء المعجزات - عجزت أن توقد شمعة على أرض اليمن. - فلقد أقبلت عليها بجحافل الجهل حتى أبتلع الظلام شجرها، وأهلها، وعنفوانها، وأحلامَها.

بدلا ًمن أن تضمّد جراحَ بلد يموت ببطء، شاركت مأجوراً في حفر قبره. لكن عدالة السماء - الماكرة - شاءت إلاّ أن يكون قبرك في بؤرة ذلك القبر الكبير الذي حفرته طيلة حياتك المهنية.

- كضابط.. افتقدت - أيها الفقيد العزيز - إلى النظرة القيادية الحالمة والمستنهضة للهمم، ولم تمتلك التعبيرية الشاعرية التي تنير جمال الوجود، وتستدعي فتنة الطبيعة الساحرة لليمن، هذه البلدة الطيبة السابحة في ألوان رصينة متناغمة، مفعمة بالحيوية والشباب والجمال. - اعتقد ان إحدى عيني الحاكم العسكري تظل مقفلة - كقناص متأهب على الدوام -، لهذا لم ترى جمالها بثلاثية أبعادها قط!

- وكرئيس، الأمر عندك كان كله خدعة في خدعة، وأنت ترى أن كل شيء يذهب إلى عدم، فلا دولتك تعطي الفرد فرصة حقيقية ولا أنت تعير المواطنة اهتماماً، - ذلك في الحقيقة، لم يكن سوى مرايا متشظية لأحلام سكنتك منذ طفولتك المريرة في عهد الإمامة التي انتفضت عليها، لكنها ظلت تلازمك وكانت مثلك الأعلى طيلة حياتك.

بل لم تمتلك إطلاقاً صفة الزعامة الأبوية الحانية، التى تجعل قلوب الناس تخفق على نحو واضح، يخجلون من لطف الزعيم، - خجلاً هو أيضاً نوع من الخوف.

ادرنالين السلطة، وخمرة نصر حرب الإنفصال اسكرتك ودفعتك الى جنون القوة مثل تنّين آسيوي أسطوري.

- الأرقام هي الوحيدة التي تتقدس، بينما الكلمات تتكدس، - ألم نقل بأن كامل بنيانك لم يكن سوى أجهزة هضمية تحيل كل جميل إلى قاذورات؟

لم يدخل في إطار دروس الميكافيلية التي تشربتها منذ المفرق، عبارة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي البليغة، وهي أن الشريعة هي العقل من الخارج، وأن العقل هو الشريعة من الداخل.

كنت ضابطاً فذاً، نظراتك المتقدة تشوش على ملتقيك - حتى أنك تراه بوجهين مرة واحدة -، تترجم.. وتجذر.. وتصنف الآخر إنطلاقاً من أن في رأسه شيء خطير... يصير الإنسان أمامك إلى اختيار صعب ليستيقن أنك من المؤكد ستوصله إلى لا شيء. - نظرة محقق شمولية كاملة تلغي الزمن فيصبح الماضي حاضراً، والحاضر ملغياً والمستقبل مشبوه. - بتشبع بوليسي لمخبر يرسم خياله مايرى ولا يرى، مايسمع وما لايسمع.

أيضاً كنت الرئيس الذي لايخضع لمرجعية، سوى لحاسة حدس ضابط أمن رئيس الذي لايصلح أن يكون زعيماً،- تلعب دور الإثنين معاً -، يتغلب عليك شخص الضابط، وينضح من خلال تحول مزاجي نفسي، فترى شيئاً وتعمل شيئاً آخر.

طوال فترة جثومك على كرسي الرئاسة، لم تكن اليمن أفضل حظاً من ذلك الوزير السعودي السابق الذي سجن في قبو مظلم قرابة عقدين من الزمان حتي فقد بصره، فكامل البلاد قبعت في قبوك المظلم أكثر من ذلك، حتى إهترئت وفقدت بصرها وبصيرتها.

جمعت بين وصف المعري قديماً "اثنان أهل الأرض، صاحب عقل لا دين له، وصاحب دين ليس له عقل". في حياتك لم تزلزل قلاع بيزنطة عند سماعك ملايين المرات "وامعتصماه" - ولم يطلب احداً ذلك منك -، لكن الضابط في عقلك الباطن، يزلزل الأرض ومن عليها عند التشكيك بشرعية خلافتك.

"كل نفس ذائقة الموت" - اليوم ترحل عنا عارياً، فقيراً، كما أتيت - تتركنا وجذع شجرة كبرياء الوطن مبتورة والأغصان ممزقة، فإذا كنت تعتقد أن القوم يصدقون ما يهرف به إعلامك الكسيح من هراء، - فأنت بذلك - فقط - تؤكد مجدداً أن الضابط الذي يحكم يصاب بأكبر من عمى القبو بكثير.

- ما أشبه الليلة ببارحة رحيل آمرك الغشمي، فاليأس في كل العيون ينصب خِيَمِه، والخوف يعتصر القلوب. - ولكن هذه المرة على أنين الجوع والظمأ والحيرة والضياع، وماذا بعد!؟

مع أنني أختلف مع الرأي السائد بأنك كنت بذلك السوء، - وأثمن لك مواقفاً كثيرة - رغم أنك ظليت مجرد ضابطاً طوال فترة لعب دور رئيس، ليس أكثر، ورغم يقيني أن صوتي لن يصلك بعد اليوم، كنت احبك حباً طبيعياً، لامبالياً... لكن ما العمل، حيث لا مناص، لقد هلل الشعب - إنصافاً لك - عند رحيلك:

- انتصر الضابط... سقط الرئيس!