اليمن في حقبته الجديدة .. من أين ؟ وإلى أين ؟
بقلم/ د. زيد علي الفضيل
نشر منذ: 16 سنة و 9 أشهر و 16 يوماً
الإثنين 28 يناير-كانون الثاني 2008 08:12 م

مأرب برس - خاص

بوفاة دولة رئيس مجلس لنواب اليمني وشيخ مشايخ قبيلة حاشد اليمنية الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر ، تدخل اليمن بمختلف تفاصيل شرائحها الاجتماعية ، وأطيافها الفكرية ، وتوجهاتها السياسية ، بوتقة عالم التحليلات ، والتكهنات ، ونفق إعادة ترتيب الأوراق ، على مختلف النطاقات السياسية والاجتماعية وحتى الفكرية ، باعتبار عمق حالة تداخل الشيخ عبد الله الوجداني والحركي مع كل حالة مما سبق ، حيث مثل في غالب فترات حياته نقطة ارتكاز محورية تدور من حولها ومن خلالها مختلف تجليات الأحداث السياسية والاجتماعية في اليمن ، لكونه أولا ، أحد أقطاب صناع الدولة اليمنية الجديدة الرئيسيين (الجمهورية) ، ولكونه قد أصبح قطب رحى تماوج الحراك القبلي خلال الثلاثة عقود الأخيرة على مستوى قبيلته حاشد ، وعلى مستوى غيرها من القبائل اليمنية العتيدة ، وبخاصة من بعد فناء عدد غير قليل من مشايخ وأقيال قبائل بكيل في أوائل عقد السبعينات من القرن المنصرم بالقرب من حريب ، الذين كانوا قد أعلنوا موالاتهم ومناصرتهم للنظام الملكي السابق في اليمن ، وتماهي خلفاءهم من بعدهم في صفوف النظام الجمهوري ، تحت لواء قبيلة حاشد برئاسة الشيخ عبد الله الأحمر .

ثم كانت أبعاد تجلياته الفكرية مع مطلع عقد التسعينات باحتوائه لكوادر مشروع الحركة الإسلامية في اليمن سواء التابعين للتنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين ، أو الآخذين بمنهج الفكر السلفي ومنطلقاته العقائدية ، الذين جميعا تكتلوا ضمن دائرة سياسية واحدة ، عرفت باسم حزب "التجمع اليمني للإصلاح" ، الذي ارتضى أقطابه أن يكون الشيخ الأحمر رئيسا عليهم ، وهو ما تحققت من خلاله المصلحة للطرفين ، فالشيخ عبد الله الأحمر وجد في ترأسه للحزب مجالا خصبا ، ومساحة واسعة ، لإضفاء سمة الشرعية المؤسسية على مختلف أدواره ، وجهوده ، وحركته ضمن إطار الوطن ، فخرج بذلك من ضيق المشروع القبلي إلى فضاء المشروع الوطني ، وبالتالي كان نفاذه إلى أروقة ودهاليز السياسة الخارجية في إطارها الإقليمي والدولي .

وفي المقابل فقد حضيت مختلف كوادر العمل الإسلامي - جراء ما يتمتع به الشيخ وقبيلته من نفوذ وقوة - بالحماية والرعاية ، وبخاصة وأنه قد تعمق في وجدانها ، من بعد فشل ثورة الدستور في اليمن سنة 1948م ، أهمية توفير الدعم القبلي لتحقيق أي نجاح ملموس على سطح الأرض تهدف إليه ، وبنجاح هذا التحالف بين الطرفين ، أضاف الشيخ الأحمر إلى نفسه صفة حامي الحركات الإسلامية ومشروعها السياسي في اليمن على وجه الخصوص .

وخلال مدة ترأسه للحزب التي استمرت طوال فترة حياته ، تمكن الشيخ عبد الله من أن يواجه أي تمدد سياسي لقوى حزبية مناهضة له ، أو شخصيات وجاهية ، وعسكرية ، وإدارية عليا ، عملت على تحجيم دوره الاجتماعي ، والتقليل من مكانته السياسية ودائرة تأثيره في اليمن ، لكونه – من وجهة نظرها - مجرد شيخ لقبيلة منضوية تحت إطار أركان وأجنحة الدولة ، وهو ما يعني تضاءل حجمه السياسي ودوره الفاعل ضمن إطار الحركة السياسية على المستوى الإقليمي والدولي ، مقابل ما يمكن أن يتناما من دور سياسي ، وتأثير استراتيجي فاعل لمختلف أولئك الوجهاء والعسكريين وكبار موظفي الدولة داخليا وخارجيا ، انطلاقا من تلبسهم لجلباب مشروع الدولة بمكنوناتها المادية والمعنوية ، التي تشكل الداعم اللوجستي لقراراتهم ، بمنحها الشرعية الدستورية لهم . فكان بانخراطه في العمل المؤسسي ، وترأسه ، من ثم ، لقبة البرلمان ، أن وفر له الشرعية الدستورية المطلوبة للانفتاح على أفاق العالم السياسية . 

وهو ما لم تدركه بقية الزعامات القبلية في اليمن ، التي وعلى الرغم من عظم حجم تأثيرها المادي في الداخل ، سواء في الإطار العسكري أو الاجتماعي وبالتالي السياسي ، إلا أنها قد ضلت حبيسة لموقعها القبلي الضيق ، كما وضح صغر حجمها التمثيلي ، وبعد تأثيرها الفعلي في أروقة ودهاليز الحراك السياسي على النطاق الإقليمي أو الدولي ، باعتبارها مجرد زعامات قبلية ، لا تملك أي غطاء دستوري مؤسسي ، منبثق من مشروعية الدولة بمؤسساتها الرسمية والأهلية ، في الوقت الذي اهتمت تلك الشخصيات الفردية فعليا ، المعزولة اجتماعيا ، الفاقدة لأي تأثير حقيقي على تكوين الشارع المحلي ، بالتحصن بجلباب مؤسسات الدولة الرسمية ، المعترف بها ضمن سياقات المجتمع الدولي ، مما أضفى عليهم سمة الشرعية الدستورية ، التي تخولهم التخطيط ، والعمل ، والتنفيذ بقوة الفصل السابع من قرارات مجلس الأمن إن لزم الأمر ، في حال مواجهة الزعامات القبلية ، القوية التأثير ، مستقبلا لمشاريعهم . 

وعلى كل ، ودون الخوض في مدى نجاح مشروع الدولة في اليمن مقابل مشروع القبيلة ، ومدى تحقق مبادئ الدولة القوية ، العادلة ، الديمقراطية ، المؤمنة بحتمية تداول السلطة ، فإن السؤال الذي يفرض نفسه حاليا هو : كيف ستتشكل الخارطة اليمنية من بعد وفاة الشيخ عبد الله الأحمر ؟ وهل سيرث أحد من أبنائه ، أو من غيرهم من الزعامات القبلية ، مشروعه السياسي ونهجه التكتيكي ؟ أم أن ذلك قد أصبح مستحيلا في ظل تفتت الزعامات القبلية ، وخلو ساحتها من شخصية محورية تاريخية ؟ وإلى أين سيتجه مشروع العمل الإسلامي بعد وفاة الشيخ عبد الله ؟ هل ستعمل كوادره على إيجاد مظلة قبلية بديلة في المنظور القادم ؟ أم أنهم سيركنون إلى قوتهم التنظيمية والحركية في مواجهة الدولة المدنية الفارغة من أي نسق قبلي قوي ؟ وإلى أين أيضا سيتجه النظام القبلي في حاشد من بعد وفاة الشيخ عبد الله ؟ هل سيكمل مسيرة شيخه في تعزيز التماهي بين القبيلة والحزب ؟ أم أنها ستعود أدراجها مرة ثانية صوب مسارها التاريخي ضمن المنظومة اليمنية ؟ وبالتالي فما هي أوجه نجاحاتها في تعزيز تكاملها مع غيرها من القبائل اليمنية ؟ لتعمل على خلق جبهة توازن جديدة ضمن منظومة الجمهورية الجديدة أيضا ؟ وكيف سيكون مآل مختلف القبائل اليمنية ، وحجم تطلعاتها المستقبلية للتواصل مع المحيط الإقليمي ، لاسيما من بعد زوال غيم الحجاب الحاجز على بوابة اليمن الشمالية بوجه خاص ؟

أسئلة عديدة يمكن أن يطرحها المهتمون والمراقبون لتطور الحراك السياسي والاجتماعي والفكري في اليمن خلال الوقت الراهن ، وأجزم أنه بمقدار تعدد تلك الأسئلة ، فإن إجاباتها ستتعدد وتتنوع بحسب منطلق كل منها ، وزاوية النظر للمشكلة اليمنية ، وعمق معرفتها بخبايا الأمور وتطوراتها . وبالتالي فإن الباب سيظل مفتوحا على مصراعيه لمختلف التكهنات والتحليلات السياسية المنظرة في هذا الباب أو ذاك ، والعقدة في تصوري تكمن في مدى ملامسة مختلف المراقبون لحقيقة وجوهر الأشياء في اليمن ، وحجم فهمهم للظاهرة اليمنية بكل تجلياتها الاجتماعية والفكرية وحتى السياسية .

وفي هذا الإطار ، فيمكن القول بأن مشروع دولة النظام الجمهوري في اليمن ، القائم منذ بدايات عقد الستينات ، قد أخفق ، في بعض مسارات خطه البياني بشكل عام ، في تحقيق المواطنة العادلة ، والنمو المتوازن ، والاستقرار الداخلي ، لكونه قد اعتمد سياسة تركيز خيوط السلطة في جانب معين من شرائح المجتمع اليمني وبخاصة ما كان منتميا منها لقبيلة حاشد بوجه عام ، في مقابل إعمال وتكريس حالة الإقصاء لفئات عديدة من الشرائح الاجتماعية الأخرى ، كما هو الحال مع فئات عديدة من قبائل بكيل ، ومع شرائح عديدة من الفئات الاجتماعية في المحافظات الجنوبية منذ نهاية حرب الانفصال سنة 1994م ، علاوة على ما تعرض له الهاشميون بوجه عام ، من إغفال لدورهم الكبير في قيام النظام الجمهوري والدفاع عنه سنة 1962م ، بل لقد تم في سياق تكريس تلك الحالة من الإقصاء ، ربطهم بصورة مجملة بدائرتي موضوع الإمامة والزيدية ، بحيث كان من السهل تشاكلها في ذهن المستمع والقارئ ، لتتداعى تلك الصور الثلاث دفعة واحدة حين الحديث عن أحدها .

فمثلا إذا جاء الحديث عن الإمامة تداعت إلى الذهن مباشرة صورتي الهاشميين والزيدية ، وإذا تم الحديث عن الزيدية برزت صورتي الإمامة والهاشميين ، وهكذا لتشكل هذه الموضوعات المتنوعة ، ثلاث دوائر متشاكلة ، في منحى غير سوي ، الهدف منه تحجيم دورهم ، تلبية لغايات مختلفة ، منها ما هو متعلق بحالة التطرف الفكري الواضح في ثنايا أفكار التيار السلفي الجهادي على وجه الخصوص ، الذي لم يقتصر هجومه على المذهب الزيدي وحسب ، بل امتد ليشمل بلهيبه كل المذاهب والأفكار المخالفة له بشكل عام ، سنية كانت أم شيعية ، ومنها ما هو مرتبط بالتضارب المصلحي مع هذه الشريحة من قبل فئات بسيطة من بعض الشرائح الأخرى .

وهو ما تبلور مؤخرا في روح ونفس العديد من الكتابات المنشورة ، خلال التأزم الأول لأحداث مشكلة الشباب المؤمن في اليمن بقيادة السيد حسين الحوثي مع الدولة (الحرب الأولى) ، تلك الأزمة التي وبالرغم من أن تنفيذ فعالياتها القتالية لم تكن حكرا على بعض الهاشميين بقيادة السيد حسين الحوثي وإخوانه ، بل شاركهم في قيادتها وتحريك مجرياتها العديد من بعض القيادات القبلية كعبد الله عيظة الرزامي وغيره ، ومثل كثير من أبنائهم عمود ارتكاز فتيلها خلال ذروة المعارك القتالية مع الدولة ، إلا أنها قد حركت الراكد ، وكشفت عن حجم البركان المشتعل في نفوس البعض ، الذين راموا تحقيق أهدافهم المقيتة ، بتحريضهم العنصري والطائفي الغير مبرر ، وترويجهم على الصعيد الإعلامي والتعبوي ، فكرة اختزال حركة الشباب المؤمن لكل توجهات التيارات الهاشمية المختلفة ، وتمثيلها الحصري للأفكار والشخصيات الزيدية في اليمن ، على الرغم من أن ردة فعل عديد من الهاشميين في مختلف أرجاء اليمن قد اتسمت بالحيادية والتفاعل السلبي معها ، بل ووقف بعض منهم في موقف المؤيد والمناصر لقوى الدولة ، وهو ما يصب في خانة تأصيل الفرقة ، وليس في خانة تكريس عرى المحبة والوحدة والاتفاق.

ولاشك فإن المراقب لتطور الأحداث الدراماتيكية لمختلف الأزمات السياسية في اليمن ، سواء كان ذلك في محافظة صعدة ، أو في المحافظات الجنوبية ، أو في المناطق الوسطى ، إلى غير ذلك ، ليدرك مدى صعوبة نجاح أي مشروع إقصائي يهدف إلى تهميش جانب من أي منظومة سياسية ، أو اجتماعية . الأمر الذي يدعوا إلى إعادة النظر في مسألة كيفية ترتيب الأوراق ضمن إطار الدولة المدنية ، التي يتساوى فيها الجميع بحكم القانون والدستور ، ويرتفع فيها الإنسان وفقا لقدراته ، بعيدا عن أي منحى عصبي أو طائفي أو جغرافي .

كما وفي المقابل ، فإن تأزم الصراع السياسي جراء حدة الخلاف الفكري المذهبي بين المذهبين الزيدي والشافعي من جهة ، والفكر السلفي والمذهب الإثناعشري من جهة أخرى ، ليؤكد فشل أي مشروع فكري ، يستهدف تغيير الطبيعة التكوينية الفكرية والمذهبية للمجتمع اليمني الزيدي أو الشافعي ، سواء كان ذلك لصالح التيار السلفي الجهادي ، الهادف إلى إخضاع القبائل اليمنية المحاربة لكامل سلطته العقائدية ، فيكون ذلك مكسبا كبيرا له في إطار مشروعه الجهادي العالمي ، أو كان ذلك في إطار منظري المذهب الإثناعشري ، الراغبين في إحكام تطويق منطقة شبه الجزيرة العربية ، السنية المحتوى بوجه عام ، ليس بهلال شيعي وحسب ، وإنما بدائرة شيعية ، حتى تستفيد منها في تسهيل وتوسيع رقعة مصالحها الإقليمية .

حيث وعلى الرغم من ضخامة المشروع التبشيري لكلا المذهبين (السلفي والإثناعشري) في اليمن ماديا ومعنويا ، في ظل ما يواجهه الفكر الزيدي على وجه الخصوص من ضعف مادي ومعنوي ، وتواجهه الطرق الصوفية الشافعية من عنت ومضايقة ، إلا أن كلا المشروعين لم ينجحا في خلق حالة متماسكة لأفكارهما ضمن إطار المجتمع اليمني ، حيث سرعان ما تعود الأفئدة تدريجيا إلى تكويناتها الطبيعية التي تشكلت ملامحها الوجدانية طوال قرون عديدة ، مع أول عائق جوهري لها ، كانقطاع وشح الأموال ، أو بروز الشخصية المذهبية الوطنية القادرة على لملمة شعث أبناء مذهبها ، كما هو الحال مثلا مع حركة الشباب المؤمن وعديد من الشخصيات الفكرية الفاعلة بصورة محدودة في الساحة حاليا في الإطار الزيدي ، وكما هو الحال أيضا مع جهود دار المصطفى بتريم وجامعة الأحقاف علاوة على كثير من المرجعيات العلمية الفاعلة على الساحة حاليا في الإطار الشافعي .

وهو ما يتوجب النظر إليه بعناية تامة ، والتمعن في أبعاده بروية ، حيث يمثل الفكر الزيدي والمذهب الشافعي ، بعمق تاريخهما الأصيل ، واعتدال منهجيهما ، ووسطية أفكارهما ، وبعدهما عن مسالك التطرف والإقصاء لأي فكر وأي منهج ، القيمة الجوهرية المانعة لتسلط أحد المشروعين التبشيريين على الآخر في اليمن ، وبالتالي الرهان الأكبر على ضمان استقرار منطقة اليمن سياسيا وعسكريا ، والنأي بها عن مكامن الصراع الأيدلوجي في المرحلة القادمة ، التي ستحيل المنطقة بأكملها ، في حال تورط اليمن بشعبه وجغرافيته في ذلك الصراع الدفين بين المشروعين ، إلى بركان ثائر ، يقذف بحممه الملتهبة إلى مختلف الآفاق وبصورة عشوائية ، الجامعة في تكوينها بين سمات وخصائص وملامح كل من الصوملة والعرقنة واللبننة ، وحينها لا ينفع الصوت حين لات مناص .