الضربة السورية "تأجلت" لهذه الأسباب
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 11 سنة و شهرين و 9 أيام
الجمعة 30 أغسطس-آب 2013 05:12 م

في صيف عام 2003، وبعد بضعة أشهر من الغزو، ومن ثم الاحتلال الامريكي للعراق، كنت مشاركا في ندوة اقامتها كلية الحقوق في جامعة هامبورغ الالمانية وكان "خصمي" فيها ريتشارد بيرل (امير الظلام) رئيس لجنة مستشاري الرئيس جورج بوش الابن للشؤون الدفاعية، واحد ابرز مهندسي الحرب على العراق.

النقاش كان ساخنا جدا، حيث جادلت بشدة حول عدم قانونية او شرعية هذه الحرب الامريكية، واستنادها الى اكذوبة اسلحة الدمار الشامل، ووجدت تجاوبا من المئات من الخبراء والدبلوماسيين الذين حضروا الندوة من مختلف انحاء البلاد، ليس لوجودي، وانما لمشاركة خصمي، ومكانته في الادارة الامريكية، والرغبة في التعرف على آرائه.

في حديث جانبي خاص، وبعد انتهاء المحاضرة، قال لي بيرل ان الادارة الامريكية كانت تعرف بخلو العراق من اسلحة الدمار الشامل، وأنها أدركت ان المفتشين الدوليين بقيادة هانز بليكس سيقدمون تقريرا الى مجلس الامن يؤكدون فيه هذه الحقيقة، الامر الذي سيجبرها على رفع الحصار عن العراق، وخروج صدام حسين بطلا شعبيا، اقوى مما كان عليه، وبما يمكنه من اعادة بناء برامجه من اسلحة الدمار الشامل في غضون خمس سنوات لوجود علمائه الذين يملكون خبرات كبيرة في هذا الصدد.

تذكرت هذه الواقعة، مثلما تذكرت ايضا منظر كولن باول وزير الخارجية الامريكي الاسبق وهو يلوح امام جلسة خاصة لمجلس الامن قبل الحرب بأيام، بصور قال انها لمعامل كيماوية وبيولوجية عراقية متنقلة (شاحنات) لتبرير قرار بلاده بشن العدوان لاطاحة نظام الرئيس صدام، واحتلال العراق، تذكرتهما وانا اشاهد واراقب ادارة الرئيس اوباما وحلفاءها الانكليز والفرنسيين وهم يقرعون طبول الحرب في المنطقة مجددا، استنادا الى ادلة دامغة لديهم حول مسؤولية النظام السوري عن استخدام اسلحة كيماوية ضد ابناء شعبه في الغوطة الدمشقية.

***

الاستعدادات لتوجيه حمم الصواريخ والقنابل الامريكية على اهداف سورية بدأت، والمفتشون الدوليون يقومون بمهامهم على الارض، ويجمعون الادلة والقرائن، لتحديد نوعية الاسلحة المستخدمة اولا، والجهة التي استخدمتها، مما يؤكد ان الرئيس اوباما لا يريد لهؤلاء ان يكملوا مهمتهم بعد ان سمح لهم النظام بالقيام بها، لأنه يملك الادلة الدامغة.

عندما بحثنا عن هذه الادلة لدى الرئيس اوباما وحلفائه في لندن وباريس، قالوا لنا انها اسرائيلية، وان اجهزة امن دولة الاحتلال الاسرائيلي رصدت مكالمات بين ضباط سوريين تؤكد استخدامهم لهذه الاسلحة.

نحن لا نبرئ نظام الرئيس الاسد الذي تتهمه المعارضة باستخدام هذه الاسلحة مثلما اتهمت المعارضة العراقية صدام بامتلاكها وتبين كذبها وفبركتها، ولكننا نريد تحقيقا دوليا محايدا، لأننا لم نعد نثق بكل اجهزة الاستخبارات الغربية ولا حتى بالسياسيين الغربيين، او معظمهم، خاصة من امثال توني بلير اكبر سياسي كاذب ومزور في التاريخ الحديث.

نعم هناك اكثر من مئة الف قتيل، نسبة كبيرة منهم سقطوا بقصف النظام وغاراته، والبقية برصاص قوات المعارضة المسلحة وقصفها ايضا، بأسلحة حصلوا عليها من دول عربية، والمملكة العربية السعودية وقطر على وجه الخصوص، ولكن نحن الآن امام غزو واحتلال لبلد عربي ربما يؤدي الى اشتعال حرب اقليمية وربما دولية تؤدي الى مقتل مئات وربما ملايين الاشخاص. لان ألسنة لهب هذه الحرب لن تتوقف عند حدود سورية.

البرلمان البريطاني هزم ديفيد كاميرون رئيس الوزراء الذي ارسل بوارجه الحربية وطائراته المقاتلة الى قبرص استعدادا للمشاركة في الضربة، هزمه لأنه غير مقتنع بمبررات هذه الحرب القانونية والانسانية، ولا بالأدلة التي تدين النظام السوري باستخدام الاسلحة الكيماوية. وهناك أكثر من ستين بالمئة من الامريكيين يتبنون الموقف نفسه.

الرئيس اوباما الذي بات اسير خطوطه الحمر بدأ يتراجع تدريجيا، واول الغيث في هذا الصدد اعلانه أمس انه لم يتخذ قرارا بعد ببدء الحرب، واطلاق الصواريخ لضرب اهداف سورية، لعله ادرك انه بات محاصرا بالشكوك بنواياه وصدقيته.

لقد ولى الزمن الذي كانت تحسم فيه الضربات القوية المفاجئة الحروب في العالم، وتدفع بالمستهدفين الى رفع رايات الاستسلام على غرار ما حدث في حرب عام 1967، والحروب السهلة بالمعايير والمواصفات القديمة انقرضت ايضا.

***

امريكا والغرب خاضا ثمانية حروب في دول عربية واسلامية على مدى الخمسة عشر عاما الماضية ربحتها جميعا، ولكنها انتصارات كلفتها اكثر من خمسة آلاف مليار دولار وما يقرب من سبعة آلاف من جنودها، بالإضافة الى سمعتها كدولة غازية معتدية. وما الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تعيشه الا نتيجة لهذه الانتصارات!

نتحفظ كثيرا على نظرية الضربات المحدودة هذه التي تروج كأحد خيارات اوباما واكثرها ترجيحا، مثلما نتحفظ على العناوين الانسانية لتبريرها، فجميع الحروب السابقة بدأت تحت الذرائع نفسها، وتطورت الى احتلالات او تغيير انظمة، ولنا في العراق وليبيا وافغانستان ثلاثة امثلة، وسورية لن تكون استثناء.

اوباما خائف ومتردد لأنه سمع كلامنا وغيرنا في هذا الإطار من قبل، خائف من النتائج لان سورية ليست وحدها، وحلفاؤها يدركون جيدا ان هذه الحرب لن يكون بعدها اخرى، ستكون آخر الحروب في المنطقة، وسقوط سورية يعني سقوطهم ايضا، مثلما كان سقوط العراق سقوط لأنظمة عربية اخرى، وتعزيزا للهيمنتين الامريكية والاسرائيلية.

الشاب الجبوري الذي "فبرك" او فبركت له المخابرات الامريكية اكذوبة المعامل الكيمياوية والبيولوجية العراقية المتنقلة، وخدع باول نفسه ودفعته الى الاعتذار عن هذه الاكذوبة علنان، يعمل حاليا خادما في مطعم "بيرغر كنغ" في احدى المدن الالمانية، واعترف بأكذوبته التي كلفت شعبه مليون شهيد وخمسة ملايين من الجرحى، ودمرت بلاده ونسيجها وتعايشها الاجتماعي امام عدسات التلفزة العالمية.

هل سنكتشف دورا اسرائيليا، او فبركة امريكية لاحقا، وهل سنتعرف مستقبلا على "جبوري سوري"؟ ولكن بعد خراب سورية ومقتل مئات الآلاف من ابنائها وربما ابناء الدول المجاورة؟