دردشة مع عصفورة مصرية
بقلم/ سلوى الإرياني
نشر منذ: 13 سنة و 5 أشهر
الإثنين 13 يونيو-حزيران 2011 07:36 م

وقفت عصفورة عند شرفتي في الصباح الباكر جداً قبل أن تلهب الشمس بأشعتها شوارع القاهرة المزدحمة بالناس، زارتني هذه العصفورة و هي ليست عصفورة عادية. أنها عصفورة مصرية. رأسها بني غامق و في بطنها لون اصفر . وقفت فوق قضبان الشرفة المطلة علي النيل و حراسة على جانبية من النخيل أمامي مباشرة في الدور الخامس. أرتفع رأسها الصغير و أنخفض بشكل سريع و متتالي ، كأنها كانت تستكشف ما خلفي ،ما فوقي، ما على يميني و ما على يساري. تأملتها بود كبير ، جمدت حركتي كي لا تطير.

ابتسمت لها بإعجاب و حسد،فتوقفت هي عن التلفت و هدأت تماماً. كانت تنظر إلي بوضوح. تعجبت لجرأتها في التأمل و التمعن كأنها بشر أمامي. ترى ماذا كان يدور في رأسها الصغير؟ فيما كانت تفكر و ما كل ذاك التأمل؟ ما أحلاها ! تطير في الدنيا لا شأن لها لا بثورة و لا حرب و لا أحباء تتذكرهم. تطير و لا تدرك أهمية لشيء في الدنيا بأسرها سوى أجنحتها. تطير متى تشاء. تحط متى تشاء. تأكل متى تشاء، تنام و تصحو متى تشاء.تغرد و تسكن متى تشاء. تتزاوج و تحب و تعشق متى تشاء. تبيض و ترعى صغارها كيف ما تشاء.و تموت أخيراً عندما الله يشاء. يا عصفورتي الزائرة في شرفتي مثلك أنا أموت عندما الله يشاء لكن كل ما عدا ذلك لا أشاركك فيه. لا أنعم مثلما تنعمين أنت بلذة الحرية. فهل فهمتي لماذا أحسدك أيتها المخلوقة الحلوة ؟؟

ما هي إلا دقائق حتى حط بجانبها فوق قضبان الشرفة عصفور آخر يشبهها جداً، يكاد يماثلها لكنه كان أنحف و أرشق و خمنت أن يكون الذكر. وقف بخفة ملاصق لها. فابتسمت للحرية. ثم رفعت أنا حاجبي بدهشة، مال عصافير مصر تتجمع فوق قضبان شرفتي؟ مالها لا تخاف مني؟ ألست إنسانة و هم عصافير و الإنسان قد قتل أخيه الإنسان؟ قد سفك دمه، قد أهدر شبابه، قد ضيع عمره، قد أضطهد أخيه مستغلا احتياجاته، قد أستغل نقاط ضعفه و ذل الإنسان بعضه البعض؟ الإنسان مقزز النوايا و مجرم الأخلاق ، ألم يرسل صواريخ ليقتل ناس و يفجرهم شظايا؟ و من أجل ماذا؟ اشعر بالحياء يا عصفورتي أن أبوح، لا لم يكن من أجل الوطن، بل كان من أجل الكرسي....رأيت العصفورين يرفعان عنقيهما إلىَ باستنكار، أجل ، أجل ،من أجل الكرسي. ألا يجدر بالإنسان أن يبق إنسان و لو في مسيرة ثورة؟؟ فالثورة فضيلة و كان يجب أن تبق كذلك وهي لا تبيح المحظور.

أردت أن أغير وضعية جلوسي على الكرسي البلاستيكي الأبيض غير أني خشيت إن فعلت أن أفزع العصفورين فيطيرا. فإذا بهما، كأنما قرأَ أفكاري و أفسحا لي المكان ، تحركا فوق القضبان إلى جهة اليمين فغيرت وضعية جلوسي و عادا بعدها إلى مكانهما أمامي مباشرة، فأعجبت بذوقهما و لطفهما. رفعا رأسيهما و أنزلاهما بشكل متتالي و سريع. فعلاً سررت لهذه الزيارة و خاصةً أنهما لم يخافا مني ، لم أدر كيف أحييهما على هذه الزيارة. فكرت أن أغني، فغنيت أغنية لفيروز. "أنا لحبيبي و حبيبي إلي" متوقعة،من حلاوة صوتي، أن يشرعا في الزقزقة ، غير أنهما تبادلا نظرة واحده حادة بانزعاج و كأنهما يقولان :"هل يعقل أن تكن هذه المخلوقة معتقدة أن صوتها جميل؟" فضحكت ضحكة كتمتها بأصابع يدي كي لا أخيفهما فيطيرا مني. تنحنحت لأعدل صوتي و كدت ابدأ في غناء أغنية أخرى و هي " يا عاقد الحاجبين" أو " أعطني الناي و غني" غير أن العصفورتين تفارقا بسرعة و كأني أزعجتهما، أخفتهما، أقلقتهما..لست أدري. سوى أنني سكت تماما لأنني فضلت رفقتهما. ما أن سكت حتى عادا للتقارب و وقفا أمام وجهي مباشرة فوق قضبان شرفة الدور الخامس المطلة على النيل الساحر و النخيل الحارس في القاهرة.

الآن- ماذا يريدان مني هذان العصفوران المصريان؟ تأملت عينيهما، كأنهما بلورتين زجاجيتين سوداوين؟ تأملت ريشهما اللامع ممزوج فيه اللون البني و اللون الأصفر. تأملت المنقار، القدم... سبحانك يا رب ما أجملك و ما أجمل خلقك. فجأة قفز الطير الرشيق و وقف فوق السطح الزجاجي للطاولة الدائرية. استغربت جرأته في الاقتراب مني بهذا الشكل؟ ألست إنسانة و قد أتهور و أزيحه من أمامي بقبضة يدي؟ ألست إنسانة و الإنسان قد هشم مستقبله و غد أولاده بمعول؟ قد وأد الأحلام في رحم الطموحات و قتلها و هي بعد جنين..هو من جعل الحياة قتال و أغرق نفسه في البحر و الميناء قريب. فكيف هذا الطير لا يخافني؟ أو كما يقول المصريون:"مش مالية عينك و إلا إيه يا باشا؟" ُدهشت فعلا و ُأعجبت بجراءته . سرعان ما أنضم إليه الطير الأول الأكثر بدانة. تأملتهما يرفعان رأسيهما و يخفضانهما، ثم يتفرسان في خيالهما المنعكس على سطح الطاولة الزجاجي.كأنهما راقصين فوق حلبة رقص. ملت بجسمي فقط مقتربة منهما دون أن اقرب الكرسي كي لا يصدر صوت فيخافا، و ابتسمت هامسة:"أنا من اليمن، إزيكو؟؟" رفعا رأسيهما إليَ. كأنني رأيت في المنقار هلال ابتسامة، كأنني رأيت في العينين بريق. تحدثت إليهما قائلة :

-" ثورتنا في اليمن طوًلت! خرجًت عن مسارها. نحن اليوم نخشى من اندلاع حريق." رأيتهما يتبادلان النظرات. كانا قريبان مني و جمالهما مغري باللمس. تحركت نزعة الشر بداخلي و هي موجودة داخل كل النفس البشرية. ماذا لو مددت يدي و قبضت على أحدهما عنوة و الثاني حتماً سيلوذ بالفرار. هل سيسيل الدماء من إبهامي القابض عليه بنقر منقاره الحاد؟؟ لماذا لا أفعل هذا؟ أريد و بشدة أن أمسكه. ألست إنسان و الإنسان شرير؟ قد قتل الإنسان أخيه الإنسان، قد أحرق المراعي...نسف الديار، سكب الأسيد على الأفواه المبتسمة، غير أنني لم أفعل ما لاح في مخيلتي. رائع أن يبق الإنسان إنسان و خلاب أن تظل شلالات الرحمة متدفقة. بصرف النظر عن أي وضع هو فيه و لو كان وضع "ثورة". رائه أن يظل محباً، رحيماً و متفهماً. تأملت العصفورين المتطوعين لتسليتي هذا الصباح في القاهرة. قلت لهما :

- " هل تعرفان ماذا حدث في بلادي اليمن؟ كنت أعتقد و أجزم بأنني أعرف و ها أنا اليوم حائرة. ماذا حدث في بلادي اليمن؟ تسلطت عليها أياد كلنا نشهد أمام الله ، أنها جائرة! قد قامت ثورة عندنا مثلما قامت عندكم هنا في مصر، و اعتصم الشباب المتظاهرون عندكم و كذا فعلوا عندنا...اعتصمنا مثل ما اعتصمتم، صدقنا مثلما صدقتم، أخلصنا مثلما أخلصتم و ضحينا و استشهدنا مثلما ضحيتم و استشهدتم. غير أن النهايات اختلفت و الختام تباين. نهايتكم كانت ناجحة و قوية و نهايتنا كانت ماسخة و ممطوطة. ميداننا صار فوضى، صارت الساحة دولة، بلد له محكوم و حاكم ظالم له سلطته القمعية، ميداننا صار ميدان للخسران لا غالب فيه و لا مغلوب و الضحية أرض اليمن. كانت ثورتنا لليمن الأفضل تماما مثلما كانت ثورتكم لمصر الأفضل، و كان القائمون بها شباب تماما مثلما القائمون بثورتكم شباب...لكن الفارق أنها ظلت حتى نهايتها شباب، لا راودها فاسدون عن نفسها و لا تولت أمرها و لا امتطتها، أحزاب. من هذه النقطة تفرقت مسارات الثورتين. من هنا نجحتم و فشلنا نحن. من هنا وثبتم و كبونا نحن. من هنا فرحتم و بكينا نحن.من هنا عادت عجلة الحياة لدورانها المعتاد لديكم و تراجعت عجلتنا نحن لسنوات ماضية. رفعت العصفورة رأسها إليَ، كأنها تقول :" قولي ما شاء الله، إيه ده؟؟ على فكرة بئه دا إسمه ئر!!!" فابتسمت لها، همست:" لكن الله شاء لكم هذا و شاء لنا ذاك. نحن أمة مسلمة و مؤمنة بقضاء الله. لكن اسمحي لي ، لا داعي للتفاخر، صحيح أنكم أسقطتم رأس النظام الظالم ، لكنكم فيما عدا ذلك لم تنجزوا بعد أي هدف من أهداف الثورة، فهدف الثورة كان حياة أفضل، كرامة أعلى لا ُتمس، حقوق لا تنتهك، هواء أنظف..كل هذا لم يتحقق بعد. تخلصتم من رأس النظام و تلك خطوة أولى. فمبروك عليكم الكفاح السليم، و الطريق المستقيم و احذروا كل خطأ ظاهر منه و باطن، صغير كان أو كبير. من شخص عادي أو شخص مسئول. "

كان في يدي بقايا خبز من إفطاري، فألقيت بالفتات للعصافير لتأكل غير أنها فزعت و عادت إلى فوق القضبان. لعلهما اعتقدتا انه طعام ممزوج بالسموم. فطمأنتهما ، لا تخافا، عودا إلى سطح الطاولة كي تأكلا. انه خبز حلال زلال. ليس مثل قوتنا نحن بنو البشر نأكله معجون بالهموم. هبطا إلى مكانهما فوق الطاولة الزجاجية و أخذا يأكلان، أنصت إلى التكتكة، إنه صوت ارتطام منقاريهما بسطح الطاولة. مددت يدي إلى موبايلي فوق المقعد المجاور لي. أخذته لأصورهما، فعلا أنهما عصفورين جميلين. من أرسلهما إليَ ليكونا لي نديم؟ من سمح لي أن أحاورهما و هما عصفورتي هذا الحوار الحميم؟ من ملئ قلبيهما بالطمأنينة بحيث يأكلان أمامي هكذا دون أي توجس؟ أخذت موبايلي و تسللت يدي فوقهما و التقطت صورة، ما أن لمع الفلاش حتى تطايرا بفزع حتى خلت أن كل جناح من جناحيهما ذهب في اتجاه. حزنت لهروبهما و عضضت شفتي ندماً على ما اقترفت. رفعت رأسي للسماء فوجدت أنهما قد عاودا الالتقاء في الفضاء.هاتان العصفورتان المصريتان، لم أعد أراهما، تبخرا في السماء. لم يمهلاني أشرب الشاي و ها هو قد برد. لكن مثلما عادا للسماء، كذلك سأعود أنا و غداً بالتحديد إلى صنعاء.