فرنسا وتدليلها للسيسي
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 4 سنوات و أسبوعين و 4 أيام
الأربعاء 09 ديسمبر-كانون الأول 2020 07:53 م
 

كان من الوارد تأجيل زيارة الرئيس المصري الحالية إلى باريس لو لم يتم إطلاق سراح القياديين الثلاثة لـ «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» وفق ما نقلته صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن مصادر مطلعة، ومع ذلك فإن ملف حقوق الإنسان في مصر لم يلق من الرئيس إيمانويل ماكرون إلا كل معاملة حرصت على عدم إزعاج نظيره المصري أو احراجه.

« لم يحدث أبدا في تاريخ مصر الحديث أن كان فيها هذا العدد من الموقوفين بين المحامين ونشطاء حقوق الإنسان والنقابيين «هذا ما أبرزته صحيفة «لوموند» العريقة كعنوان للرسالة التي نشرتها بإمضاء كل من رئيسة الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان ورئيس الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان مع بهاء الدين حسن مدير «معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان» فضلا عن البيان الذي نشرته 17 منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان تطالب فيه ماكرون بـ «وضع حد للتأييد غير المشروط للحكومة المصرية».

وأمام ضغوط من هذا القبيل ومدى تأثيرها في أوساط الرأي العام، خاصة وسط الأزمة التي تعيشها حاليا فرنسا وهي ذات صلة هي الأخرى بحرية الصحافة والإعلام، لم يجد الرئيس الفرنسي سوى المراوغات اللغوية لتبرير موقفه، فهو لم يكتف برفض ربط تقدم العلاقات مع القاهرة بملف حقوق الإنسان بل سعى للدفاع عن «انفتاح ديمقراطي» و«مجتمع مدني نشيط» في مصر فقط عبر حوار ودي مع رئيسها ليس أكثر.

«كانت لي فرصة أن أثير مسألة حقوق الإنسان، كما نفعل بكل ثقة وصراحة بين الأصدقاء» معتبرا أنه «من الأنجع أن تكون هناك سياسة حوار مطلوب، من سياسة مقاطعة من شأنها أن تمس بنجاعة شركائنا في سعيهم للاستقرار الإقليمي ومكافحة الارهاب».. هكذا قال ماكرون في مؤتمره الصحافي المشترك مع السيسي في باريس، لكن مثل هذا الكلام اللطيف لم يغير شيئا من موقف 20 من منظمات حقوق الإنسان التي دعت إلى التظاهر أمس الثلاثاء أمام البرلمان الفرنسي لدفع فرنسا للانتقال من «الأقوال إلى الأفعال» عبر المبادرة في المقام الأول إلى وقف مبيعات الأسلحة ومعدات الرقابة الإلكترونية إلى القاهرة وإدانة «الشراكة الاستراتيجية» معها، وإلا فإنها مهددة بأن تجد نفسها «شريكة لها في القمع» كما قالت الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان.

لم يمنع وجود زهاء 60 ألف معتقل رأي في مصر من أن تطور فرنسا علاقاتها مع القاهرة حتى أصبحت تتقدم على الولايات المتحدة في مبيعات الأسلحة ومختلف المعدات العسكرية إلى مصر بإجمالي بلغ 1.4 مليار يورو عام 2017 وفق «لوموند».

   من السذاجة، اعتبار أن ملف المعتقلين أو التعذيب أو القتل خارج القانون، ضد كل النشطاء وأطياف اللون السياسي المختلفة في مصر، أمور يمكن أن تؤرق باريس أو تشغلها خارج بعض التصريحات الإعلامية العابرة

 

من الصعب فصل هذه العلاقة المتميزة بين باريس والقاهرة عن السياق الاقليمي وإشكالاته المختلفة سواء في شرق المتوسط، حيث يلتقي الاثنان عند نقطة التصدي للسياسة التركية هناك، أو في ليبيا حيث يقف البلدان مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر رغم نكساته العسكرية المتعددة، حتى أن كلار تالون الباحثة الفرنسية المختصة في الشأن المصري لم تتردد في القول لصحيفة «ليبراسيون» إن «المواجهة مع تركيا هي من قوّت التقارب الايديولوجي بين البلدين» حتى أنها أشارت إلى أن «العلاقة التي باتت ثلاثية بين باريس والقاهرة وأبو ظبي هي من باتت توجّه مجمل السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط».

عندما يفهم هذا السياق ومدى تجذره، من الصعب جدا، وربما من السذاجة، اعتبار أن ملف المعتقلين أو التعذيب أو القتل خارج القانون، ضد كل النشطاء وأطياف اللون السياسي المختلفة في مصر، أمور يمكن أن تؤرق باريس أو تشغلها خارج بعض التصريحات الإعلامية العابرة.

فرنسا لم تعد فرنسا التي عرفناها، بل الأدق هو أننا لم نكن نعرف حقيقة فرنسا أو غيرها من الدول الغربية التي تظل مصالحها الاستراتيجية أهم عندها من أي حديث عن حقوق الإنسان. صحيح أن هذه الدول تفزع كثيرا إذا وقع إلحاق الأذى بأحد مواطنيها، وليس كل مواطنيها بالمناسبة، ولكنها لم ولن تكون أرأف على مواطني دول أخرى من حكومات هذه الدول أنفسها، فهل يمكن أن نلومها على ذلك؟!!

وإن كان ماكرون وصف الغضبة العربية والاسلامية من الإساءة الفرنسية إلى الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وما أعقبها من حملة مقاطعة لبلاده بأنها «حملة كراهية» غذّاها «الجهل والتطرف» فإنه لا يمكنه أن يضع في نفس الخانة ما يوجه إليها حاليا من انتقادات لاذعة حول طريقة تعاملها مع دكتاتوريين معروفين للجميع. ألم تكن فرنسا تعتزم إرسال معدات قمع المظاهرات إلى نظام بن علي مطلع 2011 أياما قبل سقوطه؟!!

لا شيء يُرجى من فرنسا الرسمية أو من غيرها في هذا المجال ليبقى التعويل في المقام الأول على الرأي العام في هذه الدول وعلى إعلامه ومنظمات مجتمعه المدني وشخصياته الفكرية الوازنة فهي التي تضغط فعلا وتصنع الفارق، ولو تدريجيا وبشيء من الصبر. أما الرئيس السيسي الذي تضايق من أسئلة الصحافيين حول حقوق الإنسان في بلاده مجيبا أن تصوير نظامه كمستبد وقاس «لايليق» فإنه لم يوضح على من يعود بالضبط هذا الوصف؟!!