قلمٌ… ولا مِمحاة
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 5 سنوات و 5 أشهر و 10 أيام
الإثنين 15 يوليو-تموز 2019 07:24 م

مدونة..

وقلم وورق وبضعة سطور..

عدة دقائق.. وأفكار معدودة..

الكثير من المفردات.. والعديد من الفلسفات..

و… كاتب واحد

كاتبٌ واحد مُنِحَ من العطايا الجَمّة

إلا مِمحاة

ممحاة قد تُمكنه من تعديل ما خطّ من خطايا أو أخطاء

من كبوات.. من عثرات.. من هزائم

فيجد حاله يسير على مهل.. بتؤدة.. وتَرَوِّ..

خشية أن يخطئ فلا يجد من يزيل آثار خطئه

مخافة أن يميل فتظل توابع مَيلَتِه أبدية

فقلم بلا ممحاة.. قلم متردد مرتعش

وزلات بلا نسيان.. بلا غفران.. للا اعتراف.. بلا اعتذار.. ما هي إلا قضبان فكر وزنزانة شعور

قلم ولا ممحاة… هو قدر الكاتب

حدِّثني عن الخطأ الوارد على حروف كل البشر، وأن العصمة للأنبياء وحدهم، فأحدثك عن قارئ صياد، يتكئ على أريكته وهو يفتش بين سطور الكاتب ليستخرج خطأً من ها هنا وسقطة من هنالك، ثم يقفز بها ويذيعها بين الأنام، مثل هذه النفوس لا تعترف ببشرية أحدٍ سوى أنفسهم، ومن سطرٍ أو بعض سطرٍ يُصنِّفون ويصدرون الأحكام، فأنى لهم التماس العذر لزلة القلم.

حدثني عن اختلاف وجهات النظر، وإن تعارض الرؤى ليس بالضرورة أن يعني التضاد، فأحدثك عن اتباع منهج العميان السائد في مجتمعاتنا، ثلاثة من العميان طُلب منهم وصف الفيل، ووضع كل منهم يده على جزء منه، وبسؤالهم عن أوصاف الفيل أجاب كل منهم بشيء مختلف، فهذا يصف الفيل بأنه كالسواري، حيث أن يده وقعت على قوائم الفيل، وهذا يصفه بأنه خرطوم به شعر لأن يده أمسكت بذيله، وهذا يصفه بالجبل الأملس لأن يده وقعت على بطن الفيل، وبطبيعة الحال راح كلٌ منهم يتهم الآخر بالخطأ في التوصيف، لأنه لم يُحِطْ بحقيقة صفة الفيل من جميع جوانبها.

تلك هي الحقيقة، نظرة قاصرة للأمور تُبدد جهد كاتبٍ قرأ وبحث وتأمل وحلّل، فأبدى رأيه، ربما كانت صائبة من جانب، لكن هذا الجانب يتهاوى أمام نظرة القارئ إلى جانب آخر لا ينظر إلى غيره، فيرى فيه التعارض، مع أن العملة لها وجهان، والعدد 8 هو نفسه العدد 7 إذا راعينا اختلاف وضعية النظر.

حلم المدينة الفاضلة الذي طرحه أفلاطون في كتابه «الجمهورية» من أبرز الأفكار الفلسفية التي انتشرت في الغرب، ثم إلى العالمية، لكن «شكسبير» يهزأ بتلك الـ»يوتوبيا» لأن طبيعة الإنسان تجعل قيامها مستحيلًا، ولا بد في ظل أي دستور أن تأكل الحيتان السمك. وكل من الرجلين (أفلاطون وشكسبير) لم يجد في الغرب من يمزق تاريخه ويتهمه بالخبال رغم تباين الرأيين.

حدثني عن المراجعات وتدارك ما فات من الأخطاء الصادرة من الكاتب، أحدثك عن أولئك الذين أوصدوا أمام غيرهم أبواب الرجعة ومسحوا خطوطها، فلا يقبلون مراجعة ولا تعديلا للمسار، فهمهم ينصرف إلى البدايات. لله در الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، إذ يوصي قاضيه على البصرة أبا موسى الأشعري فيقول: «وَلَا يَمْنَعْكَ مِنْ قَضَاءٍ قَضَيْتَ بِهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ، وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ، أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ، وَلَا يُبْطِلُ الْحَقَّ شَيْءٌ، وَإِنَّ مُرَاجَعَةَ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ».

لكن هواة غض الطرف عن المراجعات والمغرمين بنصب المحاكمات على ناصية كل خطأ ولو تمت مراجعته، لا يعترفون بهذا المبدأ، فتراهم يحكمون على الكاتب بالاجتزاء من سياق مسيرته، فلو كتب مصححا لرأيه السابق لما وجد مخرجًا لعودة ولا أوْبة، وأصبح مُلاحقًا بسقطاته، وتُدفن محاسنه وجهوده بدم بارد، تماما كما يصف ديورانت في قصة الحضارة بعض قبائل الأقزام في افريقيا «كانوا يدفنون موتاهم بغير احتفال، فإذا ما فرغوا من دفنهم لم يبدُ عليهم ما يدل على أنهم يهتمون لأمرهم بعد ذلك إطلاقا».

وإذا راق لك الكلام عن ثبات المبادئ وتغيير القناعات، وأن الأولى هي الثابت والثانية هي المتغير، فأجيبك أنه قول العقلاء، الذين يدركون بغير عناء أن تغيير الآراء وفق تغيّر المعطيات هو عين الإنصاف والعدل، لا أولئك الذين يطالبونك بالثبات على قولك، ولو كان كثبات الموتى، فالتهمة المعلبة حينئذ جاهزة، أنت متلون، أنت مأجور، أنت منافق، أنت بلا مبدأ…

قيل إن بوذا قد أوشك على الموت جوعًا، بما التزمه في شبابه من تقشف، لكنه غير قناعته وأكل وجبة كبيرة من اللحم، كادت تودي بحياته، أفلا تركتكم للكاتب مساحة لتغيير آرائه وفق ما يستجد من معطيات؟ قلم الكاتب لا يحتاج إلى وعي جماهيري بكيفية تناول إنتاجه الفكري والثقافي والتعاطي معه فحسب، بل يحتاج أكثر ما يحتاج إلى التعامل وفق المنظومة الأخلاقية التي دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة، إلى إطار قيمي يحمل حسن الظن وحمل الكلام على أحسن المحامل، وعدم المسارعة بالخطأ قبل التحقق منه، وقبول المراجعة والتصحيح من الكاتب في ما زل فيه قلمه، انطلاقا من الأصل العام في قبول توبة التائبين، كما يحتاج القارئ إلى أن يقرأ بإنصاف وتجرد وموضوعية، لا على خلفية انتماءاته وتوجهاته السياسية والفكرية، خاصة أهل الفكر والثقافة الذين يفترض بهم أن يكونوا في الخندق ذاته، لكنهم لدوافع شخصية وحزبية يتصيدون أخطاء الكاتب، ويحملون كلامه على أسوأ المحامل، ويُشهِّرون بقلمه، ويضعونه تحت مقصلة التصنيف. فإن كان الكاتب يحمل قلمًا، فليحمل القارئ ممحاة يمحو بها عثرة الكاتب، طالما كانت عن سوء تقدير أو قصر نظر أو اجتهاد خاطئ، أو حتى تراجع عنها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.