لمن لا يهمه الأمر: من هنا البداية و النهاية !
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 12 سنة و 10 أشهر و 7 أيام
السبت 24 ديسمبر-كانون الأول 2011 04:35 م

أن نجعل الفقر أشد وطأة هو أن نعي آثاره المدمرة، ونزيد عليه وعي إضطهاد أعوانه وأنصاره لأحلامنا، على نحو يصبح الوطن الذي تقطنه قوى التخلف والفقر والجهل في الوعي الجمعي العام جحيماً لا يمكن المكوث فيه .

وتحويله إلى عدو مشترك وإلى مادة للكفر المحمود به، هو شكل من أشكال ذلك الوعي الشعبي المنشود، والذي سوف يجد بأن مأثور القول ”لو كان الفقر رجلاً لقتلته“، هو الطريقة المثلى للتعامل مع الفقر كما يلقيه علينا ميراثنا الحضاري .

وأدوات إغتياله لن تكون سهلة، قطعاً ليس بالندب على حظنا العاثر سنتمكن منه أو من خلال آليات نقدية عقيمة أو بالدعاء عليه فحسب، بل عبر إنتهاج عقيدة رفض تحريضية عدائية وإحتقارية له، قد تمهّد السبيل لإصطفاف شعبي واسع خلف إعلان حالة حرب مصيرية ضد الفقر ومن أجل النهضة، وهي حرب مشروعة إنسانياً وشرعياً وأخلاقياً. وهي أيضاً معركة كرامة ربما سوف تغير بعض من واقعنا البائس .

فقط عندما نكفّ عن مجرد القآء الشكاوي كالعاجزين على قارعات الطرق، وعندما نكفّ عن إستجداء المحسنين، فنقوم على وجه السرعة بحشد الطاقات القصوى للعمل وإستثمار العمل الثوري القائم من أجل التغيير الإقتصادي، جنباً إلى جانب تغيير الواقع السياسي، بنفس الوتيرة ومواقف التحدي والصمود المذهل. فتصبح ثورة الشباب أيضاً سلاحاً للتحرر من براثن الهزيمة والتخلف. وعندها فقط سوف نتمكن من إعمال تغييرات حقيقية وشاملة تكمننا بأدوات الإنتاج والإبداع والفكر من إقتلاع سرطان الفقر من جذوره .

فالحضارة، كما قيل فيها، ليست محض تجريدات لا علاقة لها بالواقع، أو أوعية جوفاء يمكن أن تمتلئ بأي سائل من أي نوع، فهي تولد على يد بشر من أجيال مهيئين تاريخياً وحضارياً وثقافياً لإنتاجها وتطويرها وتنميتها، ولأنها تنشأ في سياق معروف علمياً، فلا يدور بخلدي رغم تواضع أفكاري، أفضل من هذه اللحظة التاريخية الفارقة… لحظة هطول بشائر الربيع العربي على رحاب أرض اليمن الواسعة. وأريد هنا أن اذكر كلمات للفيلسوف مراد وهبة: ”إن جهل العقل يغتال العقل، والشعور الواعي بفداحة الجهل هو الذي يحفّز الإنسان إلى التعلم“، كما احب ان استرجع المقولة الرائعة ”إن كنت تعتقد بأن المعرفة مرتفعة الثمن، فإن الجهل أكثر كلفة “.

فالكثير من مجتمعات التخلف عجزت عن تحقيق أهداف التنمية والنهضة اللواتي نشدتهما عندما فشلت في تأسيس أرضية ثقافية وعقلية وأخلاقية تستوعب الجديد وتستـنبـته، وعوضاً عن ذلك أستغنت عن الجهد المخلوط بالعرق والدموع بالإكتفاء بتملك بعض وسائل العصر الإستهلاكية، وبالمباهاة بها عبر استيرادها جاهزة .

وإذا كان التخلف التقني والصناعي والإقتصادي والزراعي والإجتماعي والإهتمام القشوري الحكومي بالتنمية لأغراض سياسية ودعائية واضحاً للعين المجردة في كل مراحله ومحطاته، فإن التخلف النفسي الوجودي مازال بحاجة إلى جهد كبير لاستجلاء غوامضه .

إن اهدار السياقات الزمنية والبشرية بدعوى الخصوصية الإجتماعية، وادعاءات النقاء والطهرانية وغش الذات بدعوى أن اليمني هو إنسان مسلم متقدم على غيره بمستوى الأخلاق والقيم، هو نوع من تكريس البقاء الرمزي في نفس مربع التخلف. فكما سبق وقلت ذات مرة أن الشعب الذي يعاني من أنيميا جوع مزمنة، يعاني من كل الآثار السلبية، فهو هش متقلب كحال الطقس، ثقافتة ضحلة وبلا منطق، ومناعته ضعيفة أمام أي نعرة تطرف، تسوده الإنتهازية ويزداد فيه التسول والفوارق الطبقية واللصوصية وإنهيار الأخلاق… فقط أنظروا إلى افعال بعض البلاطجة مؤخراً، وموقف الفئة الصامتة من الشعب لترجمة القول، مع إحترامي الشديد .

- كما أن الشعب الفقير والجائع، أبناؤه يُحتقرون ويُنظر إليهم بإزدراء، بل وتتأفف منهم بقية الشعوب، وتتعالى عليهم أمم الأرض .

ما ينقص الإنسان اليمني هو تحسن حياته المادية التي لا يمكن للمعونات ولا الصدقات أو المنح أن تحققها. وإحساسة بالعزة والرفعة بوطن منتج يساهم في الحضارة الإنسانية وذلك بسد بعض الإحتياجات الأساسية له وللتبادل النفعي مع غيره، وهي أمور لا يمكن للإستيراد أن يسد مثل هذه الثغرة، والتي سوف تظل عقدة نقص نفسية تؤرق ضمير كل مواطن حر، فتضعه في كوابيس تتكسر على صخورها خواطر كرامته كلما تذكر إلى أي بلد ومجتمع ينتمي. -أي تلك المشاعر المشحونه بإحساس واقعه المرير والذي ينضح بالتقهقر وبالدونية... والحالة الأخيرة، - وهذا ليس إنتقاصاً من قدر أحد -، تنطبق حتى على ابناء الشعوب الخليجية النفطية الذين إن غصت في أعماقهم، ستجد في ثنايا الصدور، بإعتراف مفكريهم، أنهم كذلك مثقلين بعبء عبثية وجودهم، لإحساسهم ضمناً بأنهم ليسوا سوى مجتمعات من الحيوانات الإستهلاكية .

ففي حديث سابق أشرت إلى أن قصة نهضة الوطن تختصر ببساطة في مستوى دخل المواطن والناتج القومي للبلاد، وفي الواقع ذلك لايحتاج لعلم فياض، ولا لذكاء خارق، ولا إلى ثراء فاحش. - فسمعة اليمن تأتي من قدرة مواطنيه الشرائية وعلى قدرتهم على العطاء والإبداع والإسهام .

ومتى ما كان المواطن منتج ومثمر في وطن ناهض بإقتصاد صاعد سوف يُحترم ذلك الوطن، والكل يبجل مواطنيه، فتضرب أُمم الأرض لأهله وقيادتهم التحية، ويضرب بذلك البلد الأمثال، ويصبح مرجعية ووجهة تهفوا إليها الأفئدة ويشد إليها الرحال، فيأتي إلى ربوعها من كل حدب وصوب، براً وبحراً وجواً وزحفاً على الركب والأيدي، سواحاً وطالبوا لجوء وعلم ونفع وتجار ورجال إستثمار وأعمال ولهو وبائعات هوى وحتى مروجوا كيف، إلى آخر القائمة .

ولأن قمة جبل الجليد يظل المطمور منه تحت الماء ماهو أكبر وأهول من الظاهر للعيان، فإن دراساتنا الإجتماعية والإقتصادية ظلت أكاديمية قاصرة عن إدراك خصائص وجوهر المهمة التي أرادت الشعوب انجازها عبر كل ثوراتها الإنسانية، وهي: مجابهة تخلف مجتمعات التخلف .

- أي إنتاج معرفة بواقع التخلف حتى يكون المجتمع قادر على إمتلاك مفاتيح التغيير علمياً ومعرفياً، وحتى يسود نوع من الترابط المتداخل في بنية الكل الإجتماعي، وخلق نوع من التظافر البنيوي بين المادي والثقافي والنفسي. ولذلك فإن ذلك الجبل الجليدي يطفو إلى السطح فيتجلى لنا المخفي منه تحت المآء، بالتحديد، عند الحديث عن النهضة، والتي لن تستقيم فكرتها، ولا يمكن لصورتها الإفتراضية أن تكتمل إلاّ إذا أعطينا الحلول المنطقية مكانتها المستحقة . فنحن، كدولة ومجتمع وشعب، نعيد تكرار أخطاء شعوب ظلت قياداتها العاجزة تجرها من فشل لآخر، يؤكد ذلك إنتظار بعضنا معجزات من عطارين السياسة على صنع "المستحيل"، أي عندما نتوقع منهم إصلاح كل ما افسده الدهر وبعلاج كل زوايا جسد ومفاصل الوطن دفعة واحدة، وذلك هو عين المستحيل. لربما سوف يفنى هذا الجيل قبل أن يرى أحلامه تخرج إلى النور. والصحيح هو التدرج الأفقي مع البدء الفوري رأسياً بإنشاء محافظة/منطقة نموذجية جديدة وعصرية مستحدثة، على هيئة منطقة حرة، مدروسة ومخطط لها جيداً بنظرة مستقبلية لقرن من الزمن على الأقل. تتمتع بالولاية المطلقة على شؤونها ماعدى السيادية منها، وبالإستقلال الإداري التام من مركزية وعبثية النظام والمجتمع أيضا. - على أن تدار بطريقة رئيس ومجلس إدارة شركة مستقلة، دستورها ودينها وعقيدتها ولغتها هو الإقتصاد والأرقام والعمل والإنتاج والإنجاز وجني الأرباح ونمو رأس المال ولاشيء غير ذلك .

فالخزائن المكدسة بالفوائض الإقتصادية والعائدات للبلدان هن اقصى مرتبات الشرف في هذا العصر، والإقتصاد القوي هو مصدر عزة وكرامة أي دولة، والمعرفة والخبرة هن سبب إحترام مواطنيها… وهن مجتمعات: اللسان لمن أراد فصاحة، وهن السلاح لمن أراد قتالا .

إن عزل المحافظة الوليدة عن كل مايعكر صفو إنطلاقتها وإستقرارها من الفوضى والتفاهات والثأرات التي يتمتع بها السياسيون والنخب الإجتماعية وبعض أفراد شعبنا بكل أسف. من شأنه إبقاءها بعيداً عن الصناديق والإنتخابات المزوقة حزبياً والمشبعة عقائدياً، فتبقى محصنة من دغدغة الساسة للعواطف وإنفعالات الشارع إلى درجة فساد الخلطة أو الطبخة .

وبما أنها يجب أن تكون نموذجية، يجب أن يستقطب لها من المهارات القيادية والإدارية والفنية القادرة على إجراءات الإدارة الرشيدة بحسابات دقيقة وعقل بارد وإرادة قوية سواءً من الداخل او من الخارج، او حتى من كوكب آخر، وبذلك يتم نقل تجاربها الناجحة تدريجياً إلى الداخل، وإستخدامها كمنطقة للهجرات الداخلية المنضبطة، وكذلك كمنطقة تلقيح للمهارات لأبناء بقية المناطق اليمنية مع أقرانهم من النابغين اليمنيين ومن كافة جنسيات أهل الأرض، بالتطبيق العلمي والعملي والإداري في أقصر وقت ممكن .

وبوضع سياسة تشجع بقية مناطق البلاد التي قد ربما تتمتع ببعض الديمقراطية التي نطمح إليها بأشكال النجاحات وربما الفشل والفوضى المتوقع حدوثهما أيضاً، فإننا نعمل على عدم خلط الإقتصاد بمماحكات الساسة وبالدين وبالأيدولوجيات وبالحزبية والنزاعات القبلية والمناطقية، وذلك الفصل سوف يؤدي إلى ظهور الحاجة التي تفرضه علينا ضرورة إطلاق حرية التنافس بين مناطق اليمن الأخرى على إنشاء جزر إنتاجية زراعية وصناعية وجيولوجية في عموم المحافظات والمدن والقرى لتوفير متطلبات محافظتنا الوليدة المستقلة من المواد الخام وعمليات التجميع والصناعات التحويلية والزراعية والتنقيب للأغراض التصديرية أو غيرها .

في الواقع نحن وصلنا إلى مانحن عليه عندما قللنا من ضرورة الإعتراف بقيمة العلوم التطبيقية وتجاهلنا أهمية العمل الصالح الذي قرن بالإيمان في كل ذكر حكيم، وتناسينا عظمة المبادرة الفردية، وبالتقاعس عن دعم أفكار أفرادنا الخلاقة، وبعدم تشجيع رأس المال الإستثماري المخاطر، وإنتفاء توفير فرص التمويل للمشاريع ذات الجدوى الإقتصادية، وبتجاهل إعطاء الأولوية وحماية الحقوق المادية والفكرية للمنتج الوطني، أي المحلي، واسقاط حقوق الفرد والمجموع في حرية العمل والإبداع واطلاق النشاطات الإقتصادية دونما ترخيص بالمفهوم التقليدي، بمجرد الإشعار الرسمي والإشهار القانوني فقط .

وعندما فوضنا أمر قِطاع "صناعة الحياة" لمن أكبر همهم النقاط والحواجز والمداهمات لإقتسام ماتيسر من الدخل تحت إسم الرسوم والتحصيلات المشبوهة أكثرها أو بإسم فضيلة مزعومة. بدلاً من إعطاء كل النشاطات الإقتصادية فرص الولادة والنمو الطبيعيين ومنحها الإعفاءآت والتسهيلات كتلك التي تمنح للمستثمر الأجنبي - بل وأكثر - حتى تتمكن من المنافسة والتطور، وإستثناءها من الجباية الرسمية لفترات زمنية معقولة، وحماية رواد المشاريع الإستراتيجية من الدائنين في حالة الفشل، إذا كانوا غير ملطخين بفساد أو شبهة، عملاً بحكمة ونستون تشرشل المأثورة "يكمن النجاح من الإنتقال من فشل إلى فشل، بعدم فقدان الأمل ".

إن الأولوية القصوى والفورية يجب أن تعطى لإنشاء المحافظة/المنطقة النموذجية إختزالاً للزمن، وماعداها برأيي يمكن أن يأتي تدريجياً، بحيث تشارك كل محافظات اليمن في تأسيسها وبإنتداب مجلس إدارة شؤونها المستقلة، بعيداً عن الرقابات العسكرية والفكرية والعقائدية وحتى العادات التقليدية التراثية البالية والتي عفى عليها الزمن، بل في إطار سلس وواضح تنظمه لوائح ونظم مدنية مستلهمة من تجارب أمم لها سبق مماثل، والتي يجب أن تهدف أولاً إلى تحقيق رفع مستوى الذوق العام بغية تحقيق السعادة والأمن والطمأنينة لكل شرائحها، كجزئيات من منظومة متكاملة من الحقوق والحريات والحرمات التي لاتجيز لفضولي أو متطفل أو فاسد التدخل أو عرقلة أي مشروع أو شخص يطمح إلى تأسيس وإطلاق أي نشاط إقتصادي أو تجاري أو فكري أو ترفيهي أو ثقافي، طالما لا يشكل نشاطه ضرر بالحدود المادية الملموسة على طرف آخر، بشرط لجوء المتضرر نفسه الى قضاء نزيه معد خصيصاً للفصل في مثل هذه القضايا .

- أي محاكم لديها من الخبرات القادرة على التفريق بين ”الضرر“ المادي وحقوق الملكية و ”الضرار“ المقصود به ”الحجر“ بواسطة طعون هلامية من نوع تلك الترهات المرتبطة بهواجس أمنية وإقتصادية متخيلة، أو هوس دعاوى الحسبة الفكرية والعقائدية، أو خبث حيتان الإحتكارات الحصرية، أو اطماع مجاميع النهب والفيد وبسط اليد، ما ظهر منهن وما بطن .

  لدي إيمان قوي، بل وبعض التصورات المبدئية حول جدوى مثل هذا الطرح لبلد في وضع وإمكانيات اليمن، ببيانات تشير إلى قابلية تطبيقه على أرض الواقع... ومعذرةً، إن بدت الفكرة من الوهلة الأولى ضرب من الشطح والخيال، فذلك إنما هو بسبب أن كل الأعمال التاريخية العظيمة للبشرية دائماً تبدوا كذلك في بداية الأمر . - وما على المشكك إلاّ أن يغمض عينيه ويسترجع مايمر على ذهنه من إنجازات بشرية عظيمة موجودة اليوم أمام ناظريه. - ثم يسأل نفسه، كيف كان شكل تلك الفكرة قبل خمسين سنة فقط أو أقل؟

- وقبل الإستشهاد بأمثلة حية موجودة على أرض الواقع، لأن توصيفها ودلالاتها قد لا تتسعها هذه الصفحة، علينا دوماً تذكر قول حكيم الهند العظيم المهاتما موهانداس كارماشند غاندي: ”كل أرض بها مايكفي إحتياجات كل إنسان عليها، لكن لا يوجد عليها مايكفي جشعهم .“

وأنا أيضاً لا أتحدث هنا عن إقتراح شكل أو جوهر معين لتلك المحافظة أو سمها ماشئت، فذلك أمر متروك لأهل الإختصاص كلٌ في مجاله، بقدر ما أرمي إلى رمزية الهدف الذي يسعى إلى نسج لوحة رائعة منطلقها الإنسان بأحلامه وهمومه كموضوع قيمي ومقدّس، وذلك بإنشاء واجهة عصرية حديثة عامرة بإنتصار الإرادة اليمنية، وبالفرح وبالإنجازات، فتمثل للخارج الأيقونة المبهرة التي تضيء وجه اليمن، والتي نرسم من خلالها كرنفالاتنا الإحتفائية، الإبداعية والإنتاجية والثقافية. وتمثل بالنسبة لنا أيضاً معمل ومختبر متطور يمدنا بمخرجاته من أدوات وآليات وثقافة الإنتصار على الفقر والتخلف، وفي تحديد مسارات ولوج اليمن إلى عصرها الإقتصادي الواعد بالخلاص من الفقر ورفع سقف الحريات .

في الختام، وكعادتي المسكونة بنفس السؤال: إن لم تكن النهضة عمل وإنتاج وبناء وإقتصاد، قولوا لنا إذاً ماذا تكون؟

abdulla@faris.com