الجبة السوداء تلتهم النجمة الحمرء.. ايران واليسار والعلاقة الملتبسة
بقلم/ د. ثابت الأحمدي
نشر منذ: سنتين و 4 أشهر و 16 يوماً
الإثنين 20 يونيو-حزيران 2022 10:40 م

ما مِن علاقةٍ مثيرة للتساؤلاتِ والدهشة بين طرفين اثنين كالعلاقة الرابطة بين كل من إيران من جهة، واليساريين من جهة أخرى. ولمتسائل أن يتساءل: هل العلاقة تاريخية متأثرة بالمزدكية الفارسية القديمة؟ أم أن العلاقة سياسية متأثرة بروسيا القيصرية وإيران الصفوية؟ أم أنها فكرية متأثرة بطبيعة الفكرة الثورية في الفكر الشيعي التي تلتقي بالفكر الماركسي؟ لكن بالمقابل: المزدكيّة فكرة فارسيّة دينية/ مرتبطة بمؤسسها مزدك الذي ادعى النبوة، فيما اليسار فكرة فلسفية اقتصادية حديثة؟ أيضًا الخمينية فكرة كهنوتية رجعية إقطاعية بالتعبير الثوري اليساري، فيما اليسار قيم تحررية وعدالة ومساواة..! في الواقع العلاقة ملتبسة ومثيرة للتساؤلات حقا. وسنتطرق هنا إلى طبيعة هذه العلاقة الملتبسة بشيءٍ من التفصيل، بناء على الفرضيّات التالية: 1ــ فرضيّة التاريخ يرى البعضُ أن كارل ماركس قد تأثر ابتداءً بتعاليم مزدك وفلسفته التي تُعتبر "الشيوعية القديمة" أو اشتراكية القرن السادس الميلادي. قُتل مزدك في 528م. في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الميلادي قاد مزدك ثورة شبابية من العاطلين والمتفلتين والعامة ضد الزرادشتية، ودعا إلى المشاعية في الحياة العامة والخاصة، ومنها المشاعية في الأموال والمشاعية في النساء، مع أن المشاعية رأي قديم منسوب لأفلاطون. رأى مزدك أنّ الناسَ سواسية، ولما كان المال والنساء من أهم ما يفّرق الناس كان ذلك مما تجب فيه المساواة والاشتراك حد زعمه..! ووفقًا للشهرستاني، صاحب الملل والنحل: "أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيه، كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ". لاقت الفكرةُ قبولا كبيرًا في أوساطِ الشّباب والعاطلين آنذاك، وانتشرت سريعًا، حتى تم إجبار الملك الفارسي قباذ بن فيروز على اعتناقها؛ لكن كُهّان فارس ونبلاءها وكبار القوم رفضوا الفكرة، وتواصلت فكرة الرفض حتى الملك أنوشروان، نجل قباذ الذي تخلى عن هذا المذهب، وقتل مزدك، ونكل بأتباعه، ولا أستطيع الجزم هنا بالقول أن قرامطة العراق والبحرين والأحساء أواخر القرن الهجري الثالث فما بعده قد تأثروا بهذه الدعوة، لتداخل الثقافة العربية الفارسية بعد الفتح الإسلامي، وإن كان أحد مؤسسها الأوائل حمدان بن الأشعث من خوزستان في الأحواز؛ علما أن المشتشرق الألماني الشهير ليوليوس فلهوزن يقرنُ كلا من: الخرمية والراونديّة ببعضهما ويعتبرهما امتدادًا فكريًا وثقافيًا للمزدكية، قائلا بالنص: "وهي الشيوعية التي كان مزدك قد دعا إليها من قبل". انظر: تاريخ الدولة العربية، فلهوزن، 489. فهل شيوعية مزدك، ثم بابك وابن الراوندي ــ والثلاثة من بلاد فارس ــ هي البذورُ الأولى لاشتراكية ماركس وشُيوعيته؟! هذا ما تقرره إشارة المستشرق فلهوزن، والذي دمغ "الهاشميّة" قبل هذا التاريخ بتهمة كبيرة، حد المبالغة كما يظهر، أو أنه تلاعب بالمصطلح الذي أظهره في غير سياقه، كما يبدو، "يفضل العودة إلى الكتاب" ص: 490. لكن ما هو محلُّ تساؤلٍ فعلا: أن يعتنقَ كلٌ من الإباحي بابك الخرمي والزنديق ابن الراوندي الفكرَ الشيعي، إلى حد أن يؤلف ابن الراوندي كتابا خاصا في الإمامة، وإن كان عدل عن الإمامة ــ كما تذكر بعض الروايات التاريخية ــ إلى الإلحاد..! وعلى الأرجح فإن كلمة "خرمان" المستخدمة في سياق إيحائي ما قد جاءت من هذا الأصل، نسبة إلى بابك الخرمي..! المهم.. إذا صحت الفرضية التي تقرر أن ماركس استلهم فكرة مزدك، فإن مجتمع ماركس الغربي نفسه الذي نشأ وتنقل فيه لم يتبنّها؛ بل تبناها المجتمع الروسي بعد ثورة البلاشفة، كرد فعل على إقطاعية القياصرة، وهناك لقيت رواجها، كما انتشرت إلى أرجاء العالم. 2ــ فرضيّة الجيوبوليتيك نتوقف هنا عند الفرضيّة الثانية، والعلاقة التاريخية بين روسيا القيصرية في عهدها الامبراطوري، ثم في عهدها الاتحادي لاحقا، بعد الثورة البلشفية سنة 1917م. ثم في مرحلة ما بعد انتهاءِ الحربِ الباردة، وحتى اليوم. الحضورُ الإيراني في الذهنيّة الروسيّة قديمٌ قدم البلدين لاشك؛ لكن حضورَ الجيوبوليتيك السّياسي في العصر الحديث يعودُ إلى فترةِ بطرس الأكبر الذي حكم روسيا فيما بين عام 1682 و 1725م، خلفا للقيصر فيودر الثالث. كان بطرس يدرك أن الجيوبوليتيك الروسي ينتهي على حدود بحر قزوين الذي تطل عليه إيران، وأن إيران المنفذ الرئيس، إن لم يكن الوحيد الذي يمكن أن يصل بروسيا إلى "المياه الدافئة" على مشارف الشرق الأوسط؛ بل إنها جسرُ العبور بينها وبين المحيط الهندي، الذي سيحفظ المصالح التجارية المتبادلة آنذاك، فإيران هي القلبُ الجغرافي للمنطقة الأوراسية والتي ستضمن تحقيق المصالح الكبرى لروسيا في حال تشكل حلف روسي إيراني؛ خاصة مع تزايد الأطماع الروسية الخارجية، أو مع تزايد الخطر القادم من "الأطالسة" على روسيا؛ لهذا قام بحملة عسكرية سنة 1722م لضمان المصالح الروسية على بحر قزوين الذي تشرف عليه كل من: روسيا، كازاخستان، أذربيجان، تركمانستان وإيران. وكانت روسيا شبه مسيطرة على ما حوله، وأيضا لردع الخطر الأكبر الذي هدد روسيا القيصرية آنذاك من تركيا العثمانية التي طالما تغولت في شرق أوروبا، ووصلت إلى وسطها..! وفي نفس الوقت كانت إيران الصفوية آنذاك ترى في تركيا العثمانية عدوا لها؛ على الرغم من كون الامبراطوريتين مسلمتين، فكانت إيران تتعاون مع الروس ضد تركيا العثمانية على الداوم، وأنه كلما تغول الأتراك العثمانيون في فتوحاتهم باتجاه شرق أوروبا فتحت لهم إيران معارك خلفية، لتشغلهم عن تلك الفتوحات. خلال تلك الفترة كانت حاجة روسيا إلى إيران أكثر من حاجة إيران لروسيا؛ لذا ظل الاهتمام الروسي بإيران كبيرا، حتى نهاية الإمبراطورية العثمانية، وكلما ضعفت إيران زاد التدخل الروسي أكثر، وقد تساءل السلطان/ الخليفة عبدالحميد، آخر سلاطين/خلفاء بني عثمان في مذكراته، في سياق حديثه عن العلاقة بين إيران وروسيا: لا ندري من يحكم إيران؟ الشاه أم السفير الروسي؟ صحيح أن العلاقة بين روسيا وإيران ليست سمنًا على عسلٍ على الدوام، لقد وصل الأمرُ بينهم إلى الحروب؛ لكنها في اللحظاتِ الاستثنائية سرعان ما تعود إلى التحالف، لقد كانت إيران من أوائل الدول اعترافا بالثورة البلشفية بعد سقوط القياصرة، ولعل هذا ما دفع سلطة ما بعد الثورة البلشفية إلى تقديم عدة امتيازات لإيران، منها إسقاط الديون التي عليها، وإفساح المجال للسفن الإيرانية للملاحة في بحر قزوين، كما كان الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف بنظام الثورة الخمينية عام 79م، ردا على سياسة الشاه محمد رضا بهلوي الذي أسقطته الثورة وكان قد اتخذ سياسة الانفتاح مع الغرب. وقدم حكام الثورة البلشفية مساعداتٍ كبيرةٍ لإيران في تطوير صناعتها. وتأسست في إيران عدة مستودعات للحبوب بما فيها مستودع طهران الكبير ومطاحن طهران الكبيرة. وتم في عام 1924 تأسيس المصرف التجاري الروسي الفارسي، وتأسيس الجمعية الروسية الفارسية التجارية، وتعاونية القطن الروسية الفارسية، وجمعية التصدير والاستيراد الروسية الفارسية. ولعل الفترة التي ساءت فيها العلاقة الروسية الإيرانية هي فترة ما بين 1980 إلى العام 1990م؛ حيث دعم الاتحاد السوفيتي فيها العراق في حربه ضد الخميني، كرد فعل على الخميني الذي نكل باليسار الإيراني بعد الثورة، ولأن حدة السابق على المياه الدافئة آنذاك قد توقفت بين الأقطاب المتصارعة؛ لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، شهدت العلاقات الإيرانية الروسية عودة سريعة على كل المستويات، وسرعان ما بدأت إيران في شراء الأسلحة من روسيا. ولم تحل منتصف التسعينيات إلا وكانت روسيا قد وافقت بالفعل على مواصلة العمل على تنمية البرنامج النووي الإيراني، مع خطط لإنهاء إنشاء مفاعل بوشهر الذي تأخر إنشاؤه لما يقارب 20 عامًا. العلاقة من ثم جيوبولوليتكية، سياسية، تاريخية. وإنها إن ساءت حينا تحسنت أحيانا أخرى. وأن إيران لن تفعل مع "الأطالسة" إلا ما تفعله الزوجة مع صديقها، سرا فقط، محافظة على علاقتها الشرعية مع الشريك الأساسي. ونختتم حديثنا هنا بما قاله المنظّرُ السّياسي المشهور الكسندر دوجين: "إنّ محور موسكو ــ طهران هو أساس المشروع الجيوبوليتيكي الأوراسي، والإسلام الإيراني هو الصورة الأفضل للإسلام من أجل الدخول في حلف قاري، وهذه الصورة بالذات يجب أن تحظى بأفضلية الدعم من موسكو". انظر: أسس الجيوبوليتيكا مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، 292. هكذا يقول المرجعيّة السياسيّة الأولى للرئيس بوتين، وما أثبتته الأحداثُ الأخيرة من حرب أوكرانيا أكد على أهمية المحور الأوراسي، مضافا إليه الهند والصين في مواجهة أوروبا الأطلسية التي يبدو أن الأصل بينها وبين الروس هو العداء لا السّلم. 3ــ فرضيّة الثوروية الفكرية لا نحتاج لمزيد من التأمل حتى نكتشفَ أن المذهب الشيعيَّ مذهبٌ سياسي ثوري فوضوي بالمقام الأول، قبل أن يكون مذهبا دينيا، نتكلم هنا عن الفكر الشيعي بشكل عام، بصرف النظر عن رؤية العقيدة الاثناعشرية هنا، المتعلقة بالخروج. خروج الشاب الارستقراطي الحسين بن علي ضد الخليفة يزيد بن معاوية، في حالة من الحنق تلبست الشاب بلا وعيٍ سياسي، أفضى الأمرُ إلى قتله، كانقلابي متمرد على شرعية الدولة القائمة سنة 61هـ، كما هو الشأن مع الشاب زيد بن علي الذي قُتل في عهد الخليفة هشام بن عبدالملك سنة 122هـ، كانقلابي متمرد على شرعية الدولة أيضا. وتلاحقت الانقلاباتُ والثورات الشيعية، ذات الطابع العلوي، بعد ذلك، إلى حد أن أفرد الأصفهاني مؤلفا خاصًّا بها سَمّاه "مقاتل الطالبيين". ولا يزال هذا الفكر إلى اليوم يمثل حالة فوضوية قائمة على تهويمات وفرضيّات تاريخيّة عتيقة لا علاقة لها بالدين، ولا بالشعارات المرفوعة؛ إذ يسعى الشيعة إلى إزاحة ظالم وتنصيب أظلم منه بدلا عنه؛ وربما ثاروا على خليفة/ أمير/ رئيس عادل ليأتوا بآخر ظالم، فقط أن يكون مؤهله الرئيس من آل البيت.! فيما يتعلقُ بالفكر الاشتراكي لا خلاف على صدق ونقاء ثورويته؛ لأن الماركسيّة ضد الطبقية، وضد الإقطاعية، وضد العنصرية، فيما فكرة "آل البيت" التكريسُ الأسوأ للطبقيّة والعنصرية والإقطاع المتوحش. لكن كيف انطلت الخديعةُ على مفكري وأنقياءِ الماركسيّة على الأقل؟ شتان بين ثورةٍ وثورة، وفكر وفكر. الثوروية اليسارية لا تشبه الثوروية الشيعية إلا في المسمى فقط؛ أمّا الأهدافُ فكلٌ منهما على النقيض من الآخر. لقد نبعت فكرة الثوروية الشيعية من قصور الارستقراطية العلوية سابقا، كحقٍ إلهي سماوي، يجب أن يعودَ إلى أهله حد زعمهم، يغذي هذه النزعة الخُبث الكسروي الساساني، المتقد غيظا وحنقا بعد الفتح الإسلامي، فيما الثورويّة الماركسية متحدرة من عرق الفلاحين وتنهدات البروليتاريا التي استبد بها الإقطاع القيصري. هذا هو الفرق بين الثورتين، وهو فرق جوهري وكبير وشاسع. لكن ما الذي جمع الطيب بالخبيث؟ هنا الالتباس حقا؛ وبالتالي فلا صحة لهذه الفرضية، إلا في مظهرها فقط. قد يكونُ الصّراع الفكري بين الإسلاميين ــ السنيين تحديدا ــ مع اليساريين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهو صراع حاد بطبيعة المرحلة، وجزء من الحرب الباردة قد ألقى بظلاله حين تحالف "الأطلسيون الرأسماليون" ضد "الوارسيين الشيوعيين"، وكل من الطرفين قد استعان بحلفاء له من الإسلام السني والشيعي على حد سواء، خاصة وقد رفع مهندس السياسات الأطلسية هنري كسينجر مبدأه القائل: "ليس للشيوعية إلا الإسلام، وليس للإسلام إلا الإسلام". 4ــ فرضية الاحتماء بالبديل عقب قيام الثورة البلشفية على القياصرة الروس في أكتوبر 1917م، استعار البلاشفة ــ وهم شبابٌ متحمسون ــ الفكرةَ الثوريّة الرائجة آنذاك، لتطبيقها؛ كرد فعل مباشر ضد الإقطاع القيصري، ومن ثم تنامت الفكرة وتعملقت بصورة غير متوقعة، مع تنامي الدولة ذاتها التي تحولت إلى امبراطورية، وتم تصديرها إلى أكثر من دولة من دول العالم، بما في ذلك دول لا يربطها بالفكرة أيُّ رابط، فقط استعارة فكرة معلبة، ومحاولة إسقاطها في "حنبلية يسارية" جديدة، كتقليد لبلد المنشأ، دون أدنى تعديل، على الأقل كما فعلت الصين التي تبنت الفكرة، ولكن مع التعديل المناسب. لعقود من الزمن اكتسبت الفكرةُ خبرةَ الحكم؛ لكنها لم تكتسب خبرة المعارضة إلا في الحد الأدنى، على العكس من الإسلاميين الذين تبلوروا في تنظيمات سياسية معارضة بعدها، فاكتسبوا خلال عقود خبرة المعارضة؛ لكنهم ظلوا بعيدين عن خبرة الحكم إلا في الحد الأدنى. وكلا التنظيمين: اليسار واليمين قد فشل كلٌ منهما حين انتقل إلى خارج مجاله الذي ولد فيه، نجح اليسار نسبيا في الحكم، وقدم نماذج مقبولة في حدها الأدنى في بعض الدول التي حكمها، كالجزائر والسودان وجنوب اليمن، وحين خرج من السلطة بدأ في التلاشي، وهي ــ في الواقع ــ طبيعة الأحزاب الحاكمة التي تستعين بأدوات الدولة في بناء نفسها، وذات الشأن مع الإسلاميين أيضًا في كثير من الدول، وقد تصدروا مشهد المُعارضة السياسية، واكتسبوا بخطابهم السياسي الممتزج بالخطاب الديني تعاطفا شعبيا واسعًا في أكثر من دولة؛ لكن حين وصلوا إلى السلطة، أو على الأقل شاركوا فيها "بانت عرجتُهم" وبدا حالهم كحال اليساريين الذين بانت عرجتهم قبلهم حين انتقلوا إلى المعارضة، وكأنَّ قدر اليساري أن يظل حاكمًا أو يموت، وقدر الإسلامي أن يظل معارضًا أو يموت، أو هكذا يقول المشهد..! وعودة إلى اليسار المتصلب الذي لم يستطيع إعادة إنتاج نفسه من جديد في مرحلة ما بعد 90م، ولم يستفد من التجربة الرأسمالية ــ عدوه الاستراتيجي ــ التي تعمل على تجديد نفسها كلما شارفت على السقوط، مرة بعد مرة، بحكم مرونتها الداخلية؛ إذ بدا اليسارُ باحثا عن كافلٍ يكفله، ولا يزال يعيش لهيب سياط الإسلاميين التي جلدتهم لما يقارب نصف قرن، بلا رحمة، إلى جانب سياط السلطات السياسية أيضا، بمن في ذلك إيران الخمينية التي نكلت بحزب "تودة" اليساري، بعد أن نجحت ثورتها على الشاه، كما نكلت ببقية الجماعات الأخرى، إلا أن الأمر كان أهون عليهم، باعتبارها عملية خاطفة، طالت الجميع، ثم لم تلبث أن تركتهم وشأنهم فيما بعد، خلافا لما عليه الحال بالنسبة للوهابية والإخوانيّة الذين اتخذوا منهم موقفا حديا، جزء من هذا الموقف ساهم فيه اليساريون أنفسهم، وجزء منه ضمن صراعات الحرب الباردة وموجّهاتها، والجزء الآخر مُبالغٌ فيه، ولا يستدعي تلك الحديّة الصّارمة. لقد سارعت الأذرع الإيرانية في المنطقة إلى احتواء هذه المجاميع العنقودية المتناثرة، أو على الأقل مُصالحتها، وتقربت بعض الأنظمة السياسية إلى هذه المجاميع حين تنامت أصوات الإسلاميين المعارضة لهم، فوجد الحكام بغيتهم في الأقلام اليساريّة ذات الثقافة العالية، كما وجد اليساريون بغيتهم في هؤلاء الحكام، نكاية بخصومهم الإسلاميين، النقيض الأيديولوجي لهم. ولدينا في اليمن نموذج شاهد، وهو تحالف الإماميين بمختلف تياراتهم مع اليسار اليمني منذ العام 1990م، على الأقل، كما عرفنا، إن لم يكن من قبل. ولا يزال جزء من هذا التحالف قائمًا حتى اللحظة، على الرغم من الجناية الكبرى التي ألحقتها الإمامة بالوطن والشعب قديمًا وحديثًا؛ بل وبهؤلاء المتحالفين معها أنفسهم، وعلى الرغم من أن الإمامة الكهنوتية تنظر إلى كل مَن عداها كأعداء أو خصوم على أقل تقدير، ويأتي الإسلاميون "السنة" على رأس الأعداء الاستراتيجيين للإمامة، وإن تظاهروا اليوم ببعض المرونة السياسية تجاه من يقع تحت سلطتهم. والواقع أنّ ضجيج الأصوات المتطرفة ودخان المعارك السياسيّة من كلا الطرفين قد غطى على أصوات العقلاء منهم، سواء في اليسار أم في اليمين، لعقود من الزمن مع أنّ بعضًا من النخب اليسارية قد بدأت في مراجعة نفسها حتى الآن، فيما لا يزال الكثير منهم في خدمة "الكهنوت الخميني الرجعي". لعلّ هؤلاء المنضوين تحت إبط الإمامة الكهنوتية هم امتدادٌ لأولئك النخبة التي دمغها ماركس في كتابه "الأيديولوجيا الألمانية" بتسميته الشهيرة "البروليتاريا الرّثة" وهم النخبة المنحرفة عن أهداف الشيوعية المثالية، متحالفة مع الإقطاع الظالم، والتي تقف ضد مصالحها ومصالح الغير..! نموذج آخر في المنطقة، وهو الحزب الشيوعي العراقي الذي تماهى مع التيار الصدري، وأصبح يأتمر بأوامره، بزعامة سكرتير أول الحزب رائد فهمي، والذي رشحه مقتدى الصدر رئيسًا للوزراء في العام 2019م، والذي سبق أيضا أن عمل وزيرًا في عهد بريمر..! لقد تماهى شيوعيو العراق مع الشيعة بعد رحيل صدام حسين، وأصبحوا جزءًا منهم، متناسين قِيمَ اليسار التي نادوا بها ورفعوها أكثر من خمسين عاما، إلى حد تآمرهم على وطنهم لصالح إيران وأمريكا، "موقفهم من استقلال كردستان أنموذجا"..! أما في سوريا فالمشهدُ أوضح من أن نوضحه..! في الغالب ــ وباستقراء الجماعات الأيديولوجية ــ عادة ما تتكور هذه الجماعات على نفسها محافظة على مبادئها الكبرى حين تُصاب بانتكاسات أو تفشل في مشاريعها، كما فعل الإسلاميون بعد سقوط الطربوش العثماني، الرمزية الدينية للمسلمين، محتمين بمثالية الفكرة، على طوباويتها، عدا اليسار الذي تلاشى، متصالحا مع البؤس والتراجع، تائها في أكثر من اتجاه، وكأنما انتهت صلاحياته بتفكك حاضنته الرئيسية، وكان بوسعه على الأقل الاستفادة من تجربة الإسلاميين بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية/ الخلافة العثمانية، فمدوا في أعمارهم قرنا من الزمان، حتى اللحظة، وإن كانوا على مشارف التلاشي اليوم، أو هكذا تقول مؤشرات المرحلة. خلاصة القول.. ــ أفضت مسيرة النصف الثاني من القرن العشرين، وما مضى حتى الآن من القرن الواحد والعشرين إلى إخفاق اليسار واليمين معًا في بناء الدولة الوطنية الحديثة. ــ جزء كبير من صراعاتهم الأيديولوجية في الوطن الواحد توظيفٌ سياسي خارجي، في إطار لعبة الكبار. وعليه يجب: ــ إعادة النظر في البناء التنظيمي والفكري من أساسه لكل الأحزاب السياسية في المنطقة "يمين ويسار". ــ الاستفادة من تجربة العقود الماضية، والاتجاه نحو بناء الدولة الوطنية الحديثة، والانتماء للبرامج لا للأيديولوجيات، والتصالح مع الآخر المختلف معه، أيا كان، سواء في الداخل أم في الخارج.