الجامع الكبير : ُبني بوحي من الله .. منجم للآثار وللمخطوطات القرآنية
بقلم/ إبراهيم الحكيم
نشر منذ: 16 سنة و 10 أشهر و 20 يوماً
الثلاثاء 11 ديسمبر-كانون الأول 2007 05:23 م

* يتواصل منذ عام ويزيد، اكتشاف مخطوطات قرآنية أثرية بين متون جدران وثنايا أسقف وباطن أرضيات جامع اليمنيين الأول وثالث مسجد يُبنى في الإسلام بعد مسجدي «قباء» و«المسجد النبوي»؛وسط توقعات علمية بأن تلقي هذه المخطوطات المكتشفة وتلك المرجح اكتشافها، الضوء على تاريخ الخطوط العربية والزخارف الإسلامية، وتحسم اختلاف الباحثين في تفسير فرضية «نزول القرآن على سبعة أحرف قبل تدوينه في مصاحف».لم تكن الإثارة تنقص «الجامع الكبير» في صنعاء، فهو يحظى بمكانة دينية رفيعة في نفوس كل اليمنيين، لدرجة تسميته «المسجد النبوي الصنعاني»، كونه بُني بوحي من الله لرسوله خاتم الأنبياء والمرسلين تجلى في تضمن توجيهه عليه الصلاة والسلام لموفده إلى صنعاء -ودون أن يكون قد زار اليمن- تحديداً دقيقاً لموقع تشييد الجامع «في بستان باذان ما بين الصخرة المُلَ مْلَة إلى غُمدان»، ولمعلم اتجاه قبلته «جبل يُقال له ضيْن» كما في الحديث الصحيح.يُعد الجامع سجلاً حياً لتاريخ اليمن على مر الزمن، ويضم في عمارته معالم وشواهد أثرية، تبدأ من عصر «حمير» آخر ممالك اليمن القديم (125 ق. م-525م)، مروراً بعصر بزوغ الإسلام والعهد النبوي والخلفاء الراشدين، ثم الخلافتين الأموية فالعباسية، فعصر الدويلات اليمنية المستقلة:الزيادية، فالنجاحية، فالحاتمية، فالزيدية، فاليعفرية، فالصليحية، فالأيوبية، فالرسولية، فالطاهرية، فالعثمانية، فالمتوكلية، وصولاً إلى عهد الجمهورية.وقد خضع جامع صنعاء في عهد كل دولة من هذه الدول لأعمال توسعة وترميم، غيرت هيكل عمارته الأولى التي كانت عند تأسيسه سنة 6 هجرية (627م) وفق مصادر التاريخ على شاكلة تخطيط المسجد النبوي في المدينة، مُربعاً بمساحة (12 متراً مربعاً)، وله باب واحد من الناحية الجنوبية، و12 عموداً فيما بينها ثلاثة أروقة، ضم الرواق الشمالي منها "المحراب الأصلي" الذي لم يبق منه حالياً سوى عقده (طاقيته) عقدة.

لكن الجامع الذي استمد تسميته من إقامة صلاة الجمعة فيه دون غيره، شهد منذ مارس 2006م تدشين أعمال مشروع ترميم وتحسين، يُصنف «الأهم والأكبر في تاريخ الجامع» الذي بات اليوم يأخذ شكلاً مستطيلاً بمساحة (5872 م2) وصار له 12 باباًً، سُدت ثلاثة منها وتتوزع بقيتها على أربعة أروقة تضم 183 عموداً أسطوانياً تصلها عقود من حجر «الحبش»، وتنفتح على صرح (شماسي) يتسع وحده لألفي مصلي.يحظى المشروع باهتمام سياسي وثقافي وشعبي كبير، فهو ينفذ بقرار جمهوري ويشرف عليه مجلس أمناء يرأسه نائب رئيس الوزراء اليمني، وحُشد له تمويل ضخم بلغ (7 ملايين و873 ألف دولار)، تساهم الكويت عبر الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بمنحة قدرها 500 ألف دينار كويتي (4 ملايين و729 ألف دولار)، وتتكفل بالباقي الحكومة اليمنية عبر وحدة التراث الثقافي بالصندوق الاجتماعي للتنمية.

بيد أن فريق خبراء المشروع «اليمني-الإيطالي-الفرنسي» المُكلف بتنفيذ «أعمال ترميم وصيانة وإعادة تأهيل شاملة لمنشآت الجامع بما يليق بمكانته في العالم الإسلامي»؛وجد نفسه مضطراً لإضافة مهمة «تنفيذ مسح وتنقيب أثري لكل متر مربع في الجامع»، بعد أن ظلت المصادفة تقود لكشوفات أثرية متتالية طوال المرحلة الأولى للمشروع، وعلى نحو يؤكد أن الجامع لم يكن مجرد دار عبادة وجامعة علمية ومرسم حر.

منجم آثار

أكدت هذه الكشوفات أن جامع صنعاء منجم آثار ومخطوطات لم ينقب بعد. فأثناء حفر مجسات لفحص أساسات الجامع مطلع نوفمبر 2006م، فوجئ فريق مشروع الترميم الذي يترأسه المهندس عصام عواد المسئول عن ترميم المسجد الأقصى في فلسطين بآثار بناء قديم. وأعلنت خبيرة الآثار الفرنسية «د. ماري لين» أنه «تم العثور بالمصادفة على سراديب وأثار لبناء قديم تحت الرواق الشمالي، لا تزال قيد الدراسة». وبالمثل أثناء قيام الفريق منتصف مارس الماضي، بإزالة طبقات جص عمليات التجديد المتعاقبة عبر السنين لإظهار أصل جدار الرواق الغربي للجامع أسفل المئذنة الغربية الملاصقة لما يُعرف بـ «ضريح النبي حنظله بن صفوان» قريباً من المحراب الأصلي للجامع؛ تبدى عقد (طاقية) لنافذة داخلية أو ما يُعرف «نافذة مصمتة» سُدت بجدار رقيق معمور بطوب الياجور (الأجر المحروق)، وبمحاولة إزالتها، كانت المفاجأة الكبرى، حيث ظهرت خلف الجدار خزانة كبيرة بشكل نصف دائري طولي مليئة بما وصف يومها أنه «كنز مخطوطات وقطع أثرية نفيسة». فشكلت لجنة من الجهات المختصة لفرز المخطوطات المكتشفة التي كانت متلاصقة وحصرها وتصنيفها. تبين لها أن المخطوطات من الرق وتضم مصاحف مكتملة وأخرى شبه مكتملة ما يُعرف بـ «السلطانية» والمتوسطة، إضافة لجملة مخطوطات وثائقية أخرى.

كانت نتائج الفرز مذهلة، فأعلنت اللجنة لاحقاً، أن «عدد المخطوطات التي فُرزت وصل إلى 4500 مخطوطة رقية قرآنية، و800 قصاصة رق ومخطوطات ورقية قديمة». وقال عضو اللجنة ونائب رئيس فريق مشروع الترميم المهندس عبد الحكيم السياغي: «تبين أن أغلبية الرقوق مخطوطات قرآنية تسمى بالملازم، ومصاحف تسمى مخطوطات معقربة متلاصقة ببعضها بطريقة شديدة لم يتم التعرف على محتوياتها».

أظهرت نتائج التحليل لخامات المخطوطات المكتشفة وخطوطها، أنها «تعود للقرن الأول وحتى القرن الثالث الهجري». وعَدَّها أمين دار المخطوطات بالجامع الكبير وأحد أعضاء اللجنة عبد الملك المقحفي «كنزاً سيضيف الكثير لتاريخ اليمن والثقافة الإسلامية». وقال:«معظم هذه المخطوطات الجلدية لآيات قرآنية ومصاحف على الرق بالخط الكوفي غير المنقوط وبعضها وثائق نتوقع أن تظهر معلومات تاريخية مثيرة».

بينما أكد مدير الترميم والصيانة بدار المخطوطات أحمد المفلحي أن «الاكتشاف الجديد يضم حوالي 12 مصحفاً شبه مكتملة ومخطوطة قرآنية وأخرى تاريخية ووقفية ورسائل مِنْ والى الخلفاء، بالإضافة لمجموعة من الأغلفة الخشبية والمجلدات المحبوكة التي سنتعلم منها اليوم طريقة التجليد والحباكة لدقتها». وتابع:«هذه المخطوطات فريدة لاحتفاظها برونقها رغم أنها من القرون الأولى للهجرة، فمعظمها بحالة جيدة».

إثارة متنامية

لكن فريق ترميم الجامع لم يلبث أن أعلن في الثالث من إبريل. اكتشافاً آخر لمخطوطات رقية قرآنية بالخط الكوفي تعود لبدايات العصر الإسلامي. وقال نائب رئيس الفريق المهندس عبد الحكيم السياغي:«لاحظ أحد عمال نظافة الجامع ملامح شِوال تبرز داخل فتحة صغيرة أعلى احد جدران الجامع، وبعد توسيع الفتحة فوجئنا بشوالين من الخيش مليئين برقوق قرآنية، وبجانبهما رقوق مخطوطات متناثرة».

لم تفاجئ المخطوطات المكتشفة هذه المرة فريق مشروع الترميم بقدر ما حفزته على تجاوز الارتهان لمصادفة الاكتشاف، وبداية السعي لاكتشافات جديدة، بإضافة مهام المسح والتنقيب الأثري لمهمات المشروع، فأعلن المهندس السياغي، أن:«أعمال الترميم ستشمل كل ركن ومساحة داخل الجامع، ولن يظل هناك شيء حبيس المخازن المجهولة والسرية شريطة أن تتعاون الجهات المعنية مع المشروع». وبالفعل، لم تكد تنقضي أربعة أشهر، حتى أعلن خبير الآثار الإيطالي «كريس» المختص بحفريات مجسات فحص الأساسات، منتصف أغسطس الماضي أن عشرة مجسات أرضية حُفرت على أعماق بين 95 سم إلى 6. 5 أمتار في الرواق الشمالي الشرقي للجامع «قادت لاكتشاف بقايا أساسات وسواقي وبئر عميقة توضح نتائج التحليل الأولية أنها من العصر الحميري، وأن الأساسات تعود للعصر الأموي، أما المساقي فشُيدت لاحقاً».

ويتوقع الباحثون أن تكون هذه البئر العميقة المبنية بأحجار مهندمة دقيقة، هي «بئر الكرامة» المذكورة في مصادر التراث، وأنها حتى القرن الثالث الهجري كانت تقابل أول باب من أبواب الجامع الكبير في صنعاء من ناحية الشرق، وتُعرف في المصادر التاريخية الأقدم باسم «بئر غمدان»، التي ينقل الرواة والمؤرخون الأولون أنها «أول بئر تحفر بعد الطوفان»، وأن حافرها هو نفسه باني صنعاء المدينة وغمدان قصرها المنيف الأسطوري «سام بن نوح» عليهما السلام.

سوابق كشفية

تاريخياً ليست المرة الأولى التي تُكتشف فيها مخطوطات أثرية في جامع صنعاء الكبير. ثمة سوابق قديمة، أولها في 1965م في جدار الحرم الشمالي للجامع، وبلغ عددها وفق خبير العمارة الإسلامية المعروف د. عفيف بهنسي «عشرة آلاف مخطوطة تتألف من مصاحف شريفة تعود إلى القرن الهجري الأول وحتى القرن التاسع مكتوبة على الرق بالخط الكوفي الحجازي وبأحجام مختلفة، ومنها ما هو مكتوب بالخط النسخي».

ينظر د. بهنسي هذا الاكتشاف بانبهار، لهذه المخطوطات؛ويتحدث عنها في كتابه عن الجامع الكبير في صنعاء، قائلاً:«لقد أكدت هذه المخطوطات المكتشفة على مدى أهمية الكتب التي كانت تحويها مكتبة الجامع، وروعة الخط الذي كتبت به،.. وهي تمتاز بحسن الخط والتذهيب والتزويق، فمنها عدد من المصاحف ومنها ما كان موضوعه فقهياً أو نحوياً أو بيانياً، ومنها ما كان علمياً في الطب والفلك والتشريح».

أما ثاني وأكبر اكتشاف مخطوطات في جامع صنعاء، فكان أثناء أعمال مشروع مولته السعودية لترميم سقف الرواق الغربي للجامع إثر تخربه بفعل أمطار 1972م، عندما اكتشف العمال بين السقف الداخلي والسقف الخارجي للجامع، مخبأ سرياً أخرجوا منه آلاف القصاصات والكتب والرقوق الجلدية كتبت بخطوط عربية قديمة جداً، غير منقوطة ولا مُشَكلة ولا مرقمة، وقد ملأت 20 زكيبة حفظت تحت سلم منارة الجامع.

لاحقاً تبين أن المكتشفات تمثل مكتبة قرآنية قديمة، تتألف من 40 ألف مخطوط بينها 12 ألف رق جلدي. وفي 1979م وقع رئيس هيئة الآثار اليمنية آنذاك القاضي إسماعيل الأكوع مع معهد الآثار الألماني في برلين، اتفاقية لترميم المخطوطات بتمويل بلغ 2. 2 مليون مارك. وعند فحصها تبين للخبراء «أن بعضها ترجع لنسخ قديمة من القرآن في القرنين الأول والثاني الهجري، ما يجعلها من أقدم النسخ القرآنية المكتشفة».

وجد فريق الترميم «اليمني-الألماني» أن أقدم الرقوق يمثل الخط الحجازي، المعروف باسم الخط المكي أو المدني، ويُصنفه الخبراء «أول خطوط تدوين القرآن، وتصعب قراءته إلا على المتخصصين، لافتقاده التنقيط». إضافة لمخطوطات قرآنية «خُطت بالخط الكوفي، ورقائق قرآنية دُونت بخط التحسين الصنعائي والخط المكسر وغيرهما من خطوط تدوين القرآن، السابقة لظهور حركات التشكيل وعلامات الترقيم بين الآيات». من هذه الرقوق يذكر خبير الآثار والمخطوطات البروفسور اليمني يوسف عبد الله:«مخطوطة لسورة الإسراء بالخط الكوفي المصحفي بدون نقط وإنما بتشكيلاتٍ للحروف المتحركة عبارة عن نقاط بالحبر الأحمر نهاية الكلمة بدلاً من الفتحة والكسرة، وتعود للقرن الأول والثاني للهجرة، ومخطوطة سورة الناس بخط كوفي تعود للقرن الثاني والثالث للهجرة، ومزينة بلون أخضر وأزرق غامق ويختلف تشكيلها عن طريقة الكتابة الحجازية أو المغربية».

وبعد 14 عاماً (1983-1996م) من العمل استطاع الفريق «اليمني-الألماني» ترميم 15 ألف صفحة قرآنية من جملة المكتشفات، لكنه لم يستطع جمعها في مصاحف متكاملة، لتباين الفترات وأنواع الخطوط وطرق التدوين وأساليب الكتابة ومقاسات المخطوطات بين (14×32) و(16×33) سم. واكتفى بعرضها أمام الزائرين في دار للمخطوطات اليمنية تأسست خصيصاً سنة 1979م مقابل الجهة الجنوبية للجامع.

دواعي الإخفاء

لكن في المقابل:ما هو ما داعي إخفاء هذه المخطوطات في خزائن مسدودة بجدران الجامع الكبير في صنعاء أو بين مصندقات أسقفه؟. يسرد المتخصصون سببين، الأول:خوفاً من تعرض المخطوطات وبخاصة الفقهية والفكرية الاجتهادية للإتلاف والإحراق بفعل اختلافها ورؤى واجتهادات مذاهب أخرى، بالذات في خضم صراعات تنازع السلطة بين الدويلات اليمنية المستقلة، التي كانت تقوم على أساس مذهبي.

أما السبب الثاني، فنستشفه من نتائج دراسة الفريق «اليمني-الألماني» للمخطوطات المكتشفة بين أسقف الجامع سنة 1972م. فقد تبين أن عشرات الآلاف من القصاصات القرآنية، «قد تراكمت عبر قرون طويلة من أجزاء مصاحف قرآن عديدة كان المشرفون على تدريس القرآن في الجامع يقومون بحفظها عند تلفها أو تمزقها من المصاحف في خزائن أو زكائب خاصة تكريماً لها. إذ لم يكن من الممكن تركها أو التخلص منها». وهذا ما يذهب إليه خبير العمارة الإسلامية د. عفيف بهنسي، محللاً وظيفة الجامع الكبير في صنعاء التي جعلته «مُتحفاً يضم روائع الخط كما ضم روائع الزخرفة الملونة» حسب وصفه، ويقول:«لم يكن الجامع معبداً فقط، يؤمه الناس لإقامة الصلاة، بل كان معهداً للتدريس، ومازالت حلقات التدريس قائمة حتى يومنا، ويتحلق طلاب العلم حول مدرسهم، يدرسون على يده القرآن الكريم والحديث وأصول الفقه والتشريع ثم هم يلجأون إلى مكتبته يستزيدون المعرفة مما حوته من أمهات المخطوطات». ظل الجامع أهم خمس جامعات علمية إسلامية قامت في أقدم مساجد اليمن تشييداً، بجانب جامعة مسجد «الجند» في تعز الذي شيده الصحابي الجليل معاذ ابن جبل (8 هـ)، ومسجد «الأشاعرة» في زبيد الذي شيده الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري (8 هـ)، والجامع الكبير في «تريم» بمحافظة حضرموت الذي شيده الصحابي الجليل زياد بن لبيد البياضي الأنصاري (10 هـ)، والجامع الكبير في ذمار (100 كم جنوب صنعاء).

وقد تخرج من جامع صنعاء عدد كبير من أعلام وأئمة العالم الإسلامي، لعل أبرزهم:الإمام الشافعي الذي خرج إلى اليمن في أيام الرشيد ودخل صنعاء وأخذ العلم عن هشام بن يوسف قاضي صنعاء، وعن مطرف بن باذان، وهما من كبار أصحاب ابن جرير، كما أخذه عن إسحاق بن راهوية، وعن عبد الرزاق بن همام الصنعاني، والأخير من رواة الحديث الثقات، روى عنه أحمد بن حنبل وتوفي سنة 111هــ. كما تخرج ودّرَّس في الجامع الإمام الشوكاني.

الأمر الذي أكد مركزية الدور العلمي للجامع الكبير في صنعاء، وأمام ازدهار أعداد الدارسين في الجامع وأعداد الخطاطين والناسخين للمصاحف والمؤلفات العلمية عبر القرون الهجرية المتعاقبة؛شيدت بصرح الجامع (الشماسي) قبة بارتفاع ستة أمتار، لغاية حفظ المخطوطات القرآنية والعلمية النادرة والقديمة ووثائق الأوقاف؛أمر ببنائها وتعمير الصحن ورصفه بالحجر الأسود (الحبش المهذب) الوزير العثماني سنان باشا، سنة 1013 هـ. وأخبرنا مفتي الجامع القاضي العلامة محمد إسماعيل الشامي أن القبة «في أول الأمر بنيت لتكون خزانة سليط (زيت) مسارج الجامع الكبير، واستقبال هبات الخيرين من السليط، وبعد دخول الكهرباء جُعلت مخزناً للبصائر (وثائق الأملاك) والوثائق الحكومية القديمة والمخطوطات النادرة والقديمة في مختلف العلوم». وتابع:«وقد تعرضت القبة منذ جعلها خزانة بصائر لمحاولة سرقة، لكنها كانت تُمنى بالفشل، بقدرة الله».

محفوظات الجامع

حالياً، تحفظ دار المخطوطات اليمنية 13 ألف مجلد مخطوط، علاوة على كمية كبيرة من الرقوق القرآنية، يقول أمين الدار عبد الملك المقحفي إنها «تعتبر من أقدم النماذج في العالم، فتاريخها ينحصر ما بين القرنين الأول والرابع الهجريين. أما المخطوطات الورقية فإن «أقدمها وأندرها بالخط الكوفي وفُرِغَ من نسخها سنة 366هـ، ومن ناحية الأهمية العلمية، الدار تضم ثروة علمية عظيمة في ثلاثين فرعاً وفناً».

كذلك المكتبة الشرقية للجامع التي شيدت سنة 1936م (1355هـ)؛مازالت تحتفظ بأكثر من أربعة آلاف مجلد مخطوط، تحوي ألف عنوان كتاب وبحث ورسالة علمية تُصنف لثلاثين علماَ، أنفسها:مصاحف نُسخت في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومصحف بالخط الكوفي على صحائف الرق يُنسب للخليفة الرابع على بن أبي طالب رضي الله عنه، وأجزاء من المصحف كتبت بماء الذهب في القرن الرابع الهجري.

إضافة لمخطوطات:«مسند الأمام زيد بن علي». وكتاب «الكشاف» للزمخشري، مرجع القراءات السبع، والجامع الكافي في الحديث، «البحر الزاخر»، «الأزهار» وكتب أخرى للشوكاني وابن الأمير، والمجلد الرابع من «الإسعاف في تفسير القران» لسيبويه، وثالث أسفار «الأغاني» للاصفهاني، و«مقامات الحريري» فيها صور إيضاحية ملونة وتمتاز بغلاف خارجي عليه رقائق مذهبة مزخرفة، وديوان صفي الدين الحلي، وكتاب في الطب لابن سينا.

بينما المكتبة الغربية للجامع التي شيدتها وزارة الأوقاف في 1986م، تضم 2410 مجلدات مخطوطة وألف مخطوطة. منها مخطوطة نادرة لكتاب «البرهان» عن فلسفة الكون من خلال آيات قرآنية، يرجع لفرقة المطرفية التي تأثرت بالمعتزلة وظهرت في القرن السادس الهجري، ومخطوطة الكتاب الفقهي الشهير «منهج الطالبين» لقاضي القضاة زكريا الأنصاري، عيدت عبر السلطات البحرينية منتصف فبراير 2005م.

وقد دخلت المكتبات الثلاث ضمن مهام مشروع ترميم الجامع المتعلقة بإزالة الاستحداثات الإنشائية غير المتجانسة والمشوهة لنسيج الجامع المعماري، فتم إخلاء مكتبة وزارة الثقافة الجنوبية ونقل محتوياتها إلى دار المخطوطات وترميمها إضافة إلى نقل محتويات مكتبة الأوقاف الكائنة في الجهة الغربية وتفكيك وإزالة مبنى المكتبة، وتفكيك وإزالة بقية المباني المستحدثة مثل دورات وبركة وخزان المياه في الجهة الغربية للجامع.

جدل دائر

إلى ذلك يستعد الآن فريق المشروع لبدء تنفيذ المرحلة الثانية من أصل خمس مراحل للمشروع تشمل بجانب ترميم وتحسين كافة العناصر المعمارية والزخرفية للجامع، استبدال شبكتي الكهرباء والصوتيات والإضاءة الداخلية والخارجية بنظم حديثة، وتزويده بشبكة إنذار مبكر للحرائق والإطفاء، وبدورات مياه جديدة، وصيانة البنية التحتية، وترميم المرافق السكنية لطلبة العلم الوافدين، قبل تغطيته بفرش لائق.

وأفاد التقرير الختامي للمرحلة الأولى فأنه «تم وبشكل نهائي إنجاز ما يزيد عن %57 من أعمال الترميمات والتحسينات للأسقف المزخرفة». وبحسب المهندس اليمني محمد صالح، فإن:«25 أثارياً ومعمارياً يمنياً خضعوا لتأهيل مكثف، أنجزوا ترميم 260 مصندقة خشبية تغطي 450 متراً مربعاً». فيما يتواصل ترميم باقي مصندقات أسقف أروقة الجامع الأربعة المصنوعة من خشب الساج، والمزخرفة بنحو 6000 نقشة غير متشابهة.

وتوقع «مصلح» المسئول عن فريق ترميم هذه المصندقات، أن «ينتهي العمل في الجزأين الشمالي الشرقي والجنوبي الشرقي نهاية العام الجاري». وقال:«تم الانتهاء من ترميم %15 من المصندقات الخشبية التي يتوقع استكمال ترميمها كلياً خلال المراحل الأربع القادمة للمشروع». لافتاً إلى أن زخارف أسقف الجامع وجدرانه حظيت بعملية توثيق دقيقة عبر نسخها بطرق الشف والتصوير الفوتوجرامتري الذي ينفذه الخبير الفرنسي «إيجلس».

أما في جانب أعمال الجصيات (الجبسيات) والحفريات، فأوضح التقرير، أنه «تم تصحيح ميلان ست دعامات خشبية كانت مستندة بجوار المنارة الشرقية، واستخراج زخارف المحراب الغربي للجامع، ونزع طبقات مادة الجص المستحدثة في أكثر من موقع فيه». وتوقع التقرير أن «يتم خلال الثلاثة الأشهر القادمة إزالة كافة كتل البناء المستحدثة التي تشوه الطابع المعماري المميز للجامع».

ويتوقع المعنيون تسجيل مزيد من الاكتشافات الأثرية في جامع صنعاء الكبير خلال باقي مراحل المشروع المستمرة حتى 2011م. بيد أن اكتشافات المرحلة الأولى أثارت جدلاً واسعاً حول جهة الاختصاص بالتعامل مع المخطوطات المكتشفة، لدرجة نشوب خلاف بين وزارة الأوقاف والإرشاد الديني المعنية إدارياً عن المساجد، ووزارة الثقافة التي تتبعها دار المخطوطات. ومازال الجدال والخلاف مستمرين حتى الآن.

* مجلة المجلة