ثقافة الاستسلام المخجلة
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 15 سنة و 9 أشهر و 25 يوماً
الجمعة 09 يناير-كانون الثاني 2009 06:13 ص

بعض المواقف التي تتخذها الحكومة المصرية هذه الايام عصية على الفهم، وترفع ضغط المرء في الوقت نفسه، بسبب طبيعتها المغرقة في الاستفزاز، واثارة الاعصاب، مثل اصرارها على منع اكثر من مئة طبيب جاءوا من مختلف انحاء العالم، بعضهم مصريون، من الدخول الى قطاع غزة، للانضمام الى زملائهم في المستشفيات الذين انهاروا كليا من شدة التعب والاعياء، وتعاظم اعداد الجرحى في مستشفياتهم المتهالكة بسبب النقص في المعدات والادوية وحتى الكهرباء.

نفهم هذا القرار المصري لو ان هؤلاء من الحرس الثوري الايراني، او ينتمون الى كتائب مطلقي صواريخ حزب الله، او حتى خبراء في حرب العصابات، ولكنهم ليسوا كذلك، إنهم مجرد مجموعة من الاطباء، من مختلـــف الجنســـيات العالميــــة، هرعوا من كل بقاع الارض من اجل مساندة اشقاء لهم تطحنهم الدبابات الاســـرائيلية، وتحيل صواريخ طائرات الاباتشي و(اف.16) الامريكية الصنع اجساد اطفالهم الى أشلاء متناثرة.

النظام المصري يتذرع بمنع هؤلاء من منطلق حرصه على سلامتهم الشخصية، لان الطرق غير آمنة في قطاع غزة بفعل الحرب، وما شأنه في ذلك طالما ان هؤلاء يريدون التضحية بارواحهم، واعربوا عن استعدادهم لتوقيع تعهد بأنهم يتحملون مسؤولية كل ما يمكن ان يترتب على دخولهم القطاع من مخاطر.

ثم متى كان النظام المصري يحرص على ارواح البشر، ألم يتواطأ مع هذا العدوان الاسرائيلي، ويشجع جنرالاته على غزو قطاع غزة، والاطاحة بـ'الامارة الاسلامية' فيه؟ ألم يتقدم بمبادرة الهدف منها القاء عجلة انقاذ لمهندسي هذه الحرب من مأزقهم الراهن، ومساعدتهم على تحقيق اهدافهم بالقوة العسكرية وعلى اجساد الشهداء والجرحى، وهي الاهداف التي فشلوا في تحقيقها عبر سياسات الحصار والتجويع؟

في مستشفيات قطاع غزة اكثر من اربعة آلاف جريح، بعضهم ينزفون حتى الموت لعدم قدرة الاطباء على اسعافهم، ولعدم وجود غرفة عمليات او معدات طبية كافية، ومع ذلك يغلق الرئيس المصري حسني مبارك المعبر في وجوه هؤلاء الاطباء المتطوعين الذين لبوا نداء الواجب والضمير الانساني، وكأنه يريد ان يموت العدد الاكبر من الجرحى الفلسطينيين حتى ينتقم شخصيا من ابناء قطاع غزة الذين لا يكن لهم اي ود، ولا يبدي اي تعاطف مع مآسيهم.

ندرك جيدا ان بعض المدافعين عن النظام المصري سيجادلون بأنه فتح المعبر امام مجموعة من الجرحى للعلاج في المستشفيات المصرية، وهذا صحيح، وعمل مشكور، ولكن كم هو عدد هؤلاء، مئة، مئتان، من مجموع اربعة آلاف؟ واذا كان فعلا حريصا على هؤلاء وغيرهم فلماذا لا يتيح المجال لعلاجهم في بلادهم؟ وعلى ايدي الاطباء المصريين والعالميين، الذين تطوعوا لذلك، وتوفير مشقة نقل هؤلاء اكثر من اربعمئة كيلومتر في عربات الاسعاف حتى القاهرة ومستشفياتها، وتأخيرهم لساعات، وربما لأيام امام المعبر قبل السماح لهم بالمرور.

النظام المصري يفقد احــــترامه، بعد ان فقد دوره الاقليمي والدولي بسبب هذه السياسات والمواقف المخجـــــلة، فالمــــبادرة التي تقدم بها لوقف الحرب في قطاع غزة قوبلت بالاستهجان والاستهتار من جمــــيع الاطراف، ولم تصمد يوما واحدا، حيث رفضتها معظم الاطراف، لان صاحبها لا يتمتع بأي ثقل، وصاغها بطريقة تخدم اهداف العدوان ودون التشاور مع الطرف المعني، وهو فصائل المقاومة، من منطلق الغرور والعنجهية الفارغة.

ولا نعرف كيف خرج النظام المصري بهذه المبادرة، بالطريقة المفاجئة التي شاهدناها، ودون التشاور مع الأطراف العربية، وأثناء انعقاد مجلس الأمن الدولي بالطلب من هذه الأطراف استصدار قرار ملزم لاسرائيل بوقف العدوان فوراً.

والأهم من ذلك ان السيد أحمد أبو الغيط وزير الخارجية ذهب إلى أنقرة، والتقى رئيس الوزراء التركي لتسليم رسالة تحث تركيا على التحرك دبلوماسياً لوقف العدوان، وفعلاً لبى السيد رجب طيب أردوغان هذه الرغبة المصرية وطار إلى القاهرة ودمشق وعمان والرياض، وفجأة ينقلب الرئيس مبارك على هذا الجهد التركي، ويعمل على إجهاضه والالتفاف عليه من خلال التقدم بمبادرته المذكورة وبيعها للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. فكيف يمكن تفسير هذا التصرف، أو رده إلى أي مدرسة دبلوماسية أو أخلاقية في العصر الحاضر أو العصور الغابرة!

العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة يدخل اليوم أسبوعه الثالث، دون أن يحقق أيا من أهدافه، ففصائل المقاومة لم تستسلم، واطلاق الصواريخ لم يتوقف، بل ازداد اتساعاً، وشاهدنا بالأمس صواريخ المقاومة في جنوب لبنان تتعانق مع شقيقتها في فلسطين، وتضرب الجبهة الاسرائيلية الشمالية.

الحرب التي أشعلتها الانانية الانتخابية الاسرائيلية المتحالفة مع التواطؤ العربي لقتل 'ثقافة المقاومة' في عرين فصائلها بقطاع غزة، مهددة بالتوسع، فدرجة حرارة الجبهة اللبنانية ترتفع تدريجياً، والسيد حسن نصرالله زعيم حرب الله قال إن كل الخيارات موضوعة على الطاولة، وربما يكون هذا هو السبب الذي دفع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة للتقدم بمشروع قرار إلى مجلس الأمن لوقف الحرب.

اسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة، والعالم الغربي الذي يدعمها لا يمكن أن يتحرك إلا إذا أدرك ان مصالحه مهددة، أما مشكلتنا الأزلية فهي في الزعامات العربية وممثليها.. أليس من المعيب ان يبقى السيد عمرو موسى أمينا عاما للجامعة العربية في منصبه دقيقة واحدة بعد رفض السيدة كوندوليزا رايس وجوده ضمن وفد وزراء الخارجية العرب الذين التقتهم لدقائق في الأمم المتحدة؟

أليس من المخجل ايضا ان يتراجع وفد وزراء الخارجية العرب عن مشروع قراره الذي تقدم به الى مجلس الامن الدولي خوفا من 'الفيتو' الامريكي. فليصدر هذا 'الفيتو' وليعرف العالم بأسره حقيقة هذا السقوط الاخلاقي الامريكي.

اسرائيل احتلت قطاع غزة مرتين، الاولى عام 1956، والثانية عام 1967، وارتكبت خلالهما مجازر لا تقل دموية عن التي نشاهدها حاليا، ولكنها خرجت مهزومة ومنكسرة في المرتين، وهذه المرة الثالثة لن تكون استثناء.

يعتصرنا الألم ونحن نرى اهلنا يواجهون آلة القتل الاسرائيلية وحدهم، ونتألم بحرقة عندما نرى رضيعا يبكي الى جانب جثث والدته ووالده واشقائه بعد ان مزقتهم الصواريخ الاسرائيلية، ولكن ما يطمئننا ان هذه الدماء لن تذهب هدرا، لانها ستؤسس لمرحلة جديدة، عنوانها المقاومة، واسقاط كل مشاريع الهزيمة والاستسلام.