تناقل التربويون – بشغف - السيرة الذاتية لمعالي وزير التربية والتعليم الجديد الدكتور عبداللطيف الحكيمي عبر مواقع التواصل الاجتماعي وكلهم تفاؤل بأنه سيكون المنقذ للعملية التعليمية من الوضع المتردي الذي تعيشه ، وقائد التغيير المنشود ، خصوصاً وهو أحد الخبراء التربويين ولديه سيرة ذاتية غنية في هذا المجال ، لكن المفاجأة والصدمة كانت مع أول تعميم يصدره معالي الوزير ، حيث كان بعيداً عن كل القضايا التربوية والمشكلات المحدقة بالوسط التربوي والمخاطر التي تفتك بالعملية التعليمية ،ومحطماً للآمال العريضة التي رسمها التربويون وهم يتبادلون التهاني بتعيين وزير تربوي من الطراز الأول .
فقد أصدر الأخ الوزير تعميماً يدعو إلى تجسيد مبدأ الشفافية وضرورة إيضاح كافة الحقائق للطلاب حول الجوانب المالية للمدرسة ، وهو أمر في ظاهره مطلوب ويستحق الاهتمام وجدير بالتطبيق لحاجتنا إليه في كل حياتنا ، بل يجب أن يكون ملزماً في كل قطاعات الدولة وليس في التربية فقط باعتبار ذلك من أهم عوامل الحدّ من الفساد ، وغرس قيم النزاهة لدى جيل المستقبل ، حيث تعد المدرسة هي البيئة الخصبة والأنسب لتعليم السلوكيات الإيجابية والممارسات الديمقراطية إذا توفرت المقومات والعوامل المساعدة على ذلك ،
ولكن هل كل ما ينقصنا في المدارس هو الشفافية ؟! وكأنا قد قضينا على كل المشكلات المتراكمة والأمراض المزمنة التي أنهكت جسد التعليم ، وأصبحنا نمارس الديمقراطية على أصولها ولم يتبق إلا تدريس فنون الإتكيت وفتح أكاديمية لتعليم أصول الشفافية .
نحن – هنا - لانقلل من أهمية التعميم وموضوع الشفافية المالية ، بل نؤكد وقوفنا معه وندعو إلى شفافية حقيقية في التربية ابتداءً من الوزارة ثم المكاتب وفروعها وصولاً إلى المدارس بحيث نعرف أين تذهب مرتبات عشرات الآلاف من المحسوبين على التربية وهم في المهجر أو في المعسكرات أو في البيوت والطلاب بلا معلمين ، ونعلم لماذا البدائل غير المؤهلين ينتشرون في كل المدارس – تقريباً – دون رقيب أو حسيب ، ونكتشف من يقف وراء انتشار ظاهرة الغش في كل مراحل التعليم ، ونستوعب لماذا نسبة الأمية بين اليمنيين تتجاوز 62% بعد أكثر من 52 سنة من قيام الثورة السبتمبرية ، ولماذا يوجد أكثر من اثنين مليون طفل خارج المدرسة ؟
هل يتوقع الأخ الوزير أن الطلاب سيتقبلون الأمر بلهفة وشوق كونه سينقلهم من عالم الضياع والجهل والفساد إلى فضاء الإبداع والحرية وعودة الحقوق المفقودة؟ خصوصاً والطالب بحاجة إلى شفافية أكبر وأهم من عرض تفاصيل صرف مكافأة لحارس أو عامل نظافة أو ضيافة لزائر أو مقابل نقل كتب وأثاث مدرسي من موازنة غير موجودة في كل مدارس التعليم العام .
فبالله عليكم ما جدوى توضيح الشفافية أمام طالب يعرف أن والده الموظف المحترم يتقاضى راتباً شهرياً لايتجاوز المائة ألف ريال بينما يصرف في الشهر أكثر من مليون ريال ويوفر أضعاف المبلغ في البنوك ، بل ماذا تعني الشفافية لطالب لايجد الكتاب ولا الكرسي ولا المعلم ولا الوسيلة ولا صالة الألعاب ولا دورة المياه ؟
وما الفائدة التي يجنيها طالب يخرج من مدرسته – إن أكمل يومه الدراسي – إلى الورشة أو سوق القات أو الجولة ليبحث عن لقمة عيش كريمة يرى أن اللصوص الكبار قد سرقوها منه ؟ وهل ستكون دروس الشفافية بديلاً عن أصول القراءة والكتابة وتوفر للطالب الحقوق المفقودة وترفع عنه الظلم والقهر والعنف المدرسي والأسري والاجتماعي وترسم له طريق المستقبل المحاط بالبارود والعقول الصدئة ؟
هل معرفة الطالب لمصادر دخل المدرسة - المنعدمة أصلاً - ومصارفها ستعوضه عن الوسيلة التعليمية والتقنية الحديثة وتغرس لديه قيم الفضيلة والأخلاق والولاء الوطني ، وتحصنه من أفكار الجماعات الضلالية التي تحوّله إلى عدو للحياة والوطن ؟
ثم هل نتوقع من مدير المدرسة أن يتكلم أمام طلابه أن دخل المدرسة لايكفي لتسديد فواتير الكهرباء والتلفون – إن وجد- وراتب الحارس وعاملة النظافة المتطوعين من سنوات طويلة في خدمة المدرسة على أمل الحصول على وظيفة تم مصادرتها لأولاد وأقارب المؤلفة قلوبهم من أصحاب القرار ؟
هل يمكن لمدير المدرسة أن يكاشف الطلاب بما يخفيه عن أقرب الموظفين إليه من وكيل ومشرفين ومعلمين ؟
وهل يحصل الطالب على تفسير وتوضيح مفيد من المدير الذي يمارس الاحتيال على الطلاب وأولياء أمورهم لجمع مبالغ مالية تحت مسمى شراء كرسي أو قرطاسية أو مستلزمات ثم يسجلها مصروفات رسمية للمدرسة ؟
وماذا يمكن أن تقدم المدرسة الأهلية من فوائد للطلبة إن هي عرضت عليهم مصارف الرسوم التي تأخذها منهم مقابل زي مدرسي وشراء كتب من السوق السوداء وكتب إضافية ورسوم واجبات وضرائب وبلدية وترخيص واسهامات مجتمع ورسوم تعميد شهادات ومرتبات وإيجار وأنشطة وماء وكهرباء وحفل تكريم ، وبدل ( ابتزاز وتحايل وتهبيش) ؟ دون أن تقدم الدولة لتلك المدارس أي خدمة .
الحقيقة أن هذا التعميم تجاوز الواقع الذي نعيشه وقفز بنا إلى عالم الأحلام ، ونقول لمعالي الوزير أن أغلب المسؤولين لايعلمون ماهي الشفافية ، ومن يعلمها لايؤمن بها ، وأن 200% من الممارسات في الوظيفة العامة بعيدة عن الشفافية ، والوضع اليمني لايسمح بالشفافية في ظل الأوضاع الحالية إلا بالحدود التي يمكن خلالها تصوير ريبورتاج إعلاني ممول عن ممارسة الشفافية وتطبيق التعميم الصادر من قبلكم في المدارس ، وما عدا ذلك فهو من الممنوعات .
مرةً أخرى نقول إن الشفافية ضرورية لكن الجسد التعليمي مصاب بكثير من الأمراض القاتلة التي هي بحاجة إلى معالجة ومكاشفة ، قبل الانتقال إلى عالم الطموح والأحلام الوردية ، وهناك أولويات نأمل من معالي الأخ وزير التربية أن يبدأ بها ، ومنها :
1- إعادة النظر في التقويم المدرسي الذي يوهم الناس أن أبناءهم يدرسون بينما لاتتجاوز أيام العام الدراسي الفعلية مائة يوم موزعة بين تعارف وغياب معلمين ومرض وعرس وموت واختبارات شفهية وتحريرية وتوقف للدراسة بسبب تحول المدارس إلى ثكنات عسكرية أو وجود معارك حربية وأوضاع غير مستقرة ، إضافة إلى الإجازات والعطلات الرسمية .
2- تفعيل معايير اختيار القيادات التعليمية على كافة المستويات الإدارية وبعيداً عن الحزبية والمناطقية والوساطة والمحسوبية .
3- تفعيل القرار الجمهوري رقم (191) لسنة 2010م الخاص بإنشاء مركز القياس والتقويم التربوي لما له من أهمية .
4- إعادة النظر في أساليب القياس والتقويم الحالية ومنها الاختبارات الوزارية التي أصبحت مهزلة بكل ماتعنيه الكلمة من معنى .
5- وضع آلية مجدية لتوزيع الكتاب المدرسي ومحاسبة العصابات التي تقف وراء غياب الكتاب عن المدرسة وظهوره في السوق السوداء .
6- السعي إلى سن تشريعات صارمة قابلة للتطبيق لمعاقبة كل من يغش أو يساعد على الغش لأنه يدمر دعائم المستقبل .
7- البدء بتفعيل مبدأ الشفافية لدى القيادات العليا في التربية حتى تتوفر القدوة لمن هم في الميدان فيسهل التطبيق في المدرسة .
وأخيراً نعم للشفافية نعم للمساءلة نعم لتأسيس دولة النظام والقانون ، نعم لحقوق الطلاب والمدرسين وجميع التربويين ، نعم لقرارات قوية ومبنية على أسس سليمة تنقذ العملية التعليمية من واقعها المظلم .
والله من وراء القصد