بين فقه الاستيعاب وفقه الاستبعاد
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 15 سنة و 3 أشهر و يومين
الجمعة 25 سبتمبر-أيلول 2009 06:28 ص

لم تستوعب أمةٌ من أمم الأرض غيرها من الأمم والحضارات والثقافات كما استوعبت أمة الإسلام، حيث احتضنت أمة الإسلام كافة الشعوب واللغات واللهجات والثقافات والأعراف البشرية ، بل حوّلت أمتنا الغزاة والمستعمرين والأعداء إلى أحباب وأصدقاء يحملون رسالة الإسلام ونور الهداية إلى العالمين.

وللأسف أنه في عصور التخلف والتقهقر الحضاري، وظهور أنصاف العلماء والدعاة حصل العكس، فلم تستوعب أمتنا الآخرين، بل تحول البعض منها إلى أداة لإخراج واستبعاد من هم في دائرة الإسلام والوطن الواحد، إلى دائرة المعادين والمارقين والمحاربين.

إنني أزعم أنّ عشرات بل مئات من العلمانيين والمتحللين من أحكام الدين، السبب فيما هم فيه ، إنما هي تصرفات البعض من المحسوبين على الإسلام أو الدعوة أو العلم ، والعمائم الكبرى التي تخفي تحتها ألواناً من التعصب المقيت والتخبط وسوء الفهم والإدراك لمقاصد الشريعة الغراء.

الأمر الذي يدعوا إلى معالجة هذا الخلل وبحث أسبابه ومسبباته، في تجرد وموضوعية ومصداقية.

أحسب أيضاً أنّ من النماذج الجديرة بالإشارة والذكر والثناء الحسن في هذا المقام التي تمكنت من ناصية فقه الاستيعاب، وكسب الخصوم والأعداء، والتأثير في المحيط المحلي والدولي، التجربة التركية الرائدة، بزعامة حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وكذا بعض الحركات الإسلامية التي تمكنت من تجاوز الأطر الضيقة إلى الانفتاح على كافة الثقافات والأمم والشعوب المختلفة، فاستطاعت نشر رسالة الإسلام بحكمة وروية، فوصلت دعوتهم إلى كافة أصقاع المعمورة، وفتحت العديد من البلدان والدول ليس بقوة السيف وإنما بقوة الحجة والبرهان والعلم والحكمة، والصبر والأناة، كجماعة التبليغ وجماعة الإخوان المسلمين، وبعض التيارات السلفية الراشدة.

ولعلّ من أعلام الأفراد والشخصيات السلفية المعاصرة التي آتاها الله حظاً طيباً من فقه الاستيعاب، العلامة عبد العزيز بن باز، فقد كان رحمه الله آية في هذا العلم عزّ الزمان أن يجود بمثله، وبمثل علمه وفقهه وحلمه وسعة أُفقه، حيث كان يربي ويدعوا ويعلّم بعلم وفقه، ولندَع هذه القصص المؤثرة عن العلامة ابن باز تتحدث بطبيعتها عن هذا الفقه – أعني فقه الاستيعاب - الذي يفتقده كثير من الدعاة والمربين، فيما الحاجة إليه ماسة سيما في عصرنا.

يروي بعض تلاميذ الشيخ ابن باز، أنه جيء إلى الشيخ، بعامل باكستاني - يعمل في منزل الشيخ - متلبساً بسرقة ستة آلاف ريال، سأله الشيخ ما حملك على السرقة؟ فأجاب العامل الباكستاني، حاجة أسرتي في الباكستان!.

فقال له الشيخ وكم تحتاج عائلتك في الباكستان، قال الرجل ستة آلاف ريال.

فما كان من الشيخ إلا أن زاده ألفا ريال، تكاليف السفر والعودة.

وروي أيضا عن سماحة الشيخ ابن باز أنه وجه بمساعدة لشخص آخر بألف ريال، وكتب على الشيك رقما ثم كتابة ألف ريال، غير أنّ الرجل قام وزاد صفراً على الرقم، بحيث صارت 10.000 ، ولم ينتبه إلى الكتابة بعدها ، ولما وصل الشيك إلى المختص لصرفه، عاد المختص إلى الشيخ وقال له إن صاحب هذا الشيك زوّر في الشيك وزاد صفراً، حيث الرقم عشرة آلاف والكتابة ألف ريال فقط.

فقال له الشيخ ، والله ما فعل ذلك إلا لحاجته، ادفعوا له العشرة آلاف ريال كاملة، ولا تخبروه بشيء، فأخذها الرجل وقضى بها حاجته، ولم يعلم أن الشيخ قد علم بتزويره .

وبعد زمن عاد الرجل إلى الشيخ ليرد إليه المبلغ معترفاً بفعلته، فقال له الشيخ ابن باز، قد علمنا وقد عفونا عنك!!.

وظل ملازماً للشيخ حتى توفي الشيخ رحمه الله.

هذه الصور المشرقة لفقه العالم ومراعاته لظروف الحال، واحتماله المعاذير، وتلمس المعالجات الهادئة والحكيمة، جعلت من العلامة ابن باز مرجعاً لكل الجماعات الإسلامية ولكل طلبة العلم والعلماء، على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم، وكان مجلسه يرحمه الله، فيه كل الأطياف الإسلامية والشخصيات العلمية من كل التيارات على الساحة الإسلامية، بما آتاه الله من سعة صدر وعلم وفقه، وإن كان من أخطاء فهي صادرة من بعض تلاميذه ومحبيه.

وبالمقابل انظر إلى الصورة العكسية من الفقه البدوي- على حد تعبير العلامة الغزالي- في التعامل مع النفس البشرية والنصوص الشرعية، وكيف جنى على أمتنا، وكم تسبب من كوارث ومشكلات، وكم نفّر عن الدين والملة السمحة.

ولكي تتضح الصورة أسرد هذه القصة المأساوية من أسفار فقه التنفير والاستبعاد، وصناعة الأعداء والخصوم، ما كنت لأذكرها لولا أنها صارت ظاهرة ومشكلة كبرى تؤرق العمل والعاملين في حقل الدعوة الإسلامية المعاصرة، وليست حالات فردية يمكن غض الطرف عنها.

أحد المفكرين والأدباء والدعاة الإسلاميين المشهورين، كانت عليه علامات النبوغ والفطنة والشجاعة منذ دراسته الجامعية، كان شاعراً وأديباً إسلامياً ومثقفاً رائعاً، ولبقاً جداً، غير أن الدنيا لم تتركه فساءت حالته المادية أثناء دراسته الجامعية، وتراكمت عليه الهموم والأزمات، لدرجة أنه امتدت يده إلى بعض صفحات المصحف الشريف فقطعها!!.

لم يكن هذا الجرم الشنيع بالتأكيد عن قصد، وإنما كان نتيجة حالة نفسية سيئة بلغها الرجل، فلطالما كتب الرجل دفاعاً عن الإسلام وله ديوان من الشعر دفاعاً عن دعوة الإسلام، بل له مواقف كثيرة جدا في الدفاع عن الإسلام جاد فيها بدمه، كل هذه المواقف لم تشفع له لدى زملائه المجانين، الذي يسمون أنفسهم ب\"طلبة العلم\" كانوا يسكنون معه في سكن واحد، فوثبوا عليه جميعاً ضرباً بالنعال والرفس واللطم..الخ ولم تكد تشرق شمس الصباح حتى صدر القرار السامي بفصل الرجل من الجامعة، وأخرج منها طريداً لا يلوي على شيء، فقد ذهب كل شيء، وذهبت سنون الدراسة والتحصيل، ولم يمنح الرجل ولو ثلاثة أيام عساه يتوب وعساه يرجع إلى صوابه، لقد أغلق عند القوم باب التوبة، ولا مجال لفتحه أبداً كما جرت العادة كثيراً!!!.

هكذا أغلق باب التوبة، دون الرجل، وعاد إلى قريته بغير الوجه الذي خرج به، وازدادت حالته النفسية سوءاً، وانعكست هذه الحالة على كل أفراد أسرته وأهله ووالديه وأقاربه وذويه، واشتدت عليه المحنة وعظمت وكبرت، وزاد من هول المأساة أن الرجل لم يكن قد أخذ حظاً من التربية الإيمانية الكافية، فترك الصلاة، ثم ترك الصوم، لدرجة أنه كان يجاهر بالفطر في رمضان عياذاً بالله، وبنفس الطريقة لدى أئمة الفقه البدوي وثب عليه سكان القرية فأشبعوه ضرباً ورفساً ولطماً...الخ.

ولمّا أن ضاقت رحمة أهل الأرض بالرجل، تداركته رحمة الله، وانتقل إلى ربه، وكان في ريعان شبابه، قبل نحو عام أو عامين، كما بلغني، ولست أدري على أي وجه لقي الله!!.

مثل هذه المعالجات القاتلة في معالجة الأخطاء والانحرافات السلوكية والعقديه، والتي تتفطر لها القلوب والأكباد، قذفت برجل من أهل الإسلام إلى هذه النهاية المأساوية، كان الفتى محباً للإسلام ومدافعا عنه، وطالباً للعلم، بل كان طالباً متميزا في ثقافته وتحصيله ودعوته، وكان صوّاماً قواماً، ذاكراً لله تاليا لكتابه غدوة وعشياً.

وهذه – كما ذكرت - ليست قصة واحدة، بل هي غيض من فيض، عشرات ومئات من الأخطاء التربوية القاتلة، كانت نهايتها مثل هذه النهاية، أو أشد.

ضاق علم المشائخ – بالهمز- فضاقت عليهم الرحمة بما رحبت، وكان يسع الجميع قول الله تعالى عن نبي الله موسى {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}الأعراف150.

قال علماء التفسير: {وَأَلْقَى الألْوَاحَ} أي التي فيها التوراة وكان حاملا لها، فألقاها على الأرض من شدة الغضب.

والله من وراء القصد،، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،

Moafa12@hotmail.com