«حلّل يا دويري»…هدية آخر العام للخبير العسكري
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 10 أشهر و يومين
الأربعاء 03 يناير-كانون الثاني 2024 06:42 م
 

ما زلت أسيرة ذلك الأثر الذي تركته رسالة أتتني قبل شهر من قطاع غزة، تزف إليّ نبأً لم يكن يدور بخلدي، أن أبطال المقاومة يتابعون ما أكتب عنهم وعن صمود شعب غزة، حينها اهتز وجداني بل تزلزل، ورأيتها منّة من الله، وإن لم أكن بها جديرة.

إذا كان هذا حال من مرت عيون الأبطال على كلماتها، فليت شعري من يصف لنا مشاعر اللواء فايز دويري، الذي استمع وشاهد، اسمه يخرج على لسان أحد المناضلين في الميدان هاتفا «حلل يا دويري»، فدارت الكلمة في أرجاء المعمورة.

قبل أيام، نشرت كتائب عز الدين القسام، مقطعا مرئيا يظهر استهدافا لقوة إسرائيلية بقذيفة مضادة للتحصينات في منطقة جحر الديك وسط القطاع، إذ نجح مقاتل قسامي في قصف المنزل الذي تحصن به جنود الاحتلال، فاحتفى على الفور بالعمل البطولي وهو يقول: «حلل يا دويري»، ليبدأ الناشطون على موقع إكس (تويتر سابقا)، بعمل وسم #حلل_يا_دويري، الذي انتشر كالنار في الهشيم وتصدر قائمة الترند في العديد من الدول العربية. في الشدائد تظهر معادن الناس، والمحنة تعلي من رجال وتخفض آخرين، وهذا ما بدا منذ السابع من أكتوبر واندلاع طوفان الأقصى، فكم أسقطت أحداث غزة أسماء من مسؤولين ومفكرين وكتاب وناشطين ومثقفين ودعاة، كانوا بالأمس القريب لامعين يشار إليهم بالبنان، فغدوا منبوذين جماهيريا بسبب مواقفهم السلبية والمتخاذلة حيال الحدث العظيم، وأذكر على سبيل المثال أحد المفكرين ـ ولا أسمّي- يتمحور حول الطعن في المقاومة، فما إن يكتب قادحا فيها، حتى يتلقى سيلا من الشتائم والنقد والاتهام بالخيانة والعمالة والمأجورية، فأفل نجمه من بعد سطوع.

هناك دعاة كان الناس يشيرون إليهم بالبنان ويعملون بفتاواهم ووعظهم، سرعان ما لفظتهم الجماهير بسبب مواقفهم وخذلانهم وتخذيلهم، والحال نفسه مع عدد من الكتاب المتخاذلين الذين يتنصلون من القضية الفلسطينية ويولونها ظهورهم. وفي المقابل، ارتفع ذكر آخرين بسبب تأييدهم للقضية وحق الفلسطينيين في مقاومة المحتل، ابتداءً من داخل القطاع، كالصحافي وائل الدحدوح الذي ينقل لجماهير الأمة المشاهد من تحت أزيز الطائرات ومن قلب الدخان والنار والركام، وفقد عائلته وتعرض للموت ولا يزال صامدا من أجل نقل الحقيقة، فمن ذا الذي لا يعرف الآن وائل الدحدوح، الذي أصبح بطلا من أبطال الأمة. ومن كان يعرف الشيخ خالد نبهان، جد الشهيدة ريم (روح الروح)، من كان يسمع به؟ كان رجلا بسيطا من عامة أهل غزة، لكن صموده وصبره الذي ظهر في الأحداث صار مثلا سائرا بين الأنام، وأصبح حالة إنسانية عامة، يبث إليه الناس في مختلف دول العالم مقاطع تهنئة بيوم ميلاده الذي يوافق ميلاد حفيدته التي ارتقت في القصف الوحشي على غزة، حتى «عبود» الصبي الصغير الذي يؤدي دور المراسل من قلب الأحداث، وهو يطل على الجماهير بابتسامته التي لم تطفئها أصوات القصف القريبة والصواريخ التي تمر من فوق رأسه، صار قدوة للكبار في الصمود والشجاعة، وصار الطفل الصغير مادة خصبة لأقلام الكبار. ومن خارج غزة كذلك الكثير من الشخصيات التي ارتفع ذكرها وقدرها لدى الجماهير بسبب تعاطفها وتفاعلها الإيجابي مع أحداث غزة. فالسيدة لولوة الخاطر وزيرة الدولة للتعاون الدولي بوزارة الخارجية القطرية، لم يكن يعرف بها سوى المهتمين بالشأن القطري، لكنها غدت أشهر من نار على علم، بعد زيارتها قطاع غزة فترة الهدنة، وتفقدها لأحوال المرضى في المستشفيات، باعتبارها المسؤول العربي الوحيد الذي زار القطاع أيام الحرب.

وها هو بطل قصتنا اليوم، اللواء الأردني المتقاعد فايز الدويري، هو كذلك لم يكن يعرفه الكثيرون، لأن أحداث غزة، جعلته ضيفا دائما على قناة «الجزيرة»، باعتباره خبيرا عسكريا واستراتيجيا، يعلق على العمليات العسكرية والوضع الميداني في غزة في الحرب الدائرة، لكنه بهذا النداء «حلل يا دويري» صار حديث الجماهير العربية والإسلامية ومحل أنظار العالم أجمع. أتخيل شعور الرجل وهو يُنادى على اسمه من قلب المعارك، والمنادِي هو رجل من هذه الفئة التي أذهلت العالم بإيمانها وعقيدتها وشجاعتها وتخطيطها وإعلامها وحسن إدارتها للمعركة، فكان النداء بمثابة هدية من المقاومة للرجل الذي يثلج الصدور، ويبث الأمل بتعليقاته وتحليلاته. لم يكتسب الدويري هذه الشهرة ولم يستحق هذا النداء لمجرد أنه يحلل الوقائع، فهو أمر قد يحسنه معظم المحللين على الشاشات، لكنه اكتسبها واستحقها، بذلك التأييد والتلاحم مع المقاومة، الذي يبديه في كلماته وانفعالاته، فكأن الرجل يسير حذو المناضلين الذين في غزة، هم بالبندقية وهو بالكلمة، أعطى العالم انطباعا بأن هذا الرجل جندي من جنود المقاومة ليس مجرد محلل عسكري يؤدي مهمته التقليدية على الشاشات.

لقد أعطت المقاومة فايز الدويري وأعطاها، أعطته ما لا يحلم به أي معلق أو محلل، من سيل من المقاطع التي توثق العمليات العسكرية، التي لا يقوم بتصويرها إلا من باع نفسه من أجل قضيته، فكانت مادة خصبة لتحليلاته العسكرية، لأنه يعلق على وقائع موثقة قريبة جدا من الهدف إلى المسافة صفر، وليست تحليلاته وتعليقاته على مجرد أخبار وافدة من هنا أو هناك دون توثيق كحال الاحتلال. وهو بدوره أعطاها مكملًا نظريا لعملياتها العسكرية، فهو الناطق واللسان المتحدث باسم هذه المشاهد، يفصل فيها القول للجماهير، ويقيم المتابع وسط الحدث، ويبث الأمل في الناس بأن المقاومة قادرة على إنهاء الحرب لصالحها

هذا النداء يضيف إلى رصيد المقاومة الغزير مزيدا من الفضائل والمحاسن، فقد أثبت أن المقاومة تحمل السلاح في الحرب، ووعيها يمتد إلى خارج نطاق المعركة، وتراقب العالم من حولها، ترى من يتحدث وعما يتحدث، تبصر مواقف الدول والحكومات والنخب، وترصد ردود الأفعال لما تقوم به على أرض الواقع. لقد تجاوز الدويري الحدود التقليدية التي يقف عندها المحللون عندما يخرجون على القنوات، ولا هم لهم سوى إظهار الحيادية وعدم إبداء التعاطف تجاه طرف دون الآخر، بصرف النظر عن انتماءات ذلك المحلل.

فالدويري يلتزم الموضوعية في ما يتعلق بالجانب المهني، لكنه يتحيز تحيزا كاملا في إيحاءاته وانفعالاته وآرائه الشخصية لصالح المقاومة، لا يُخفي أنه ابن القضية، ويسوق إلى جانب موضوعيته خطابا ديماغوجيا يثير عاطفة الجماهير تجاه المقاومة وشعب غزة الأبيّ، ويكيل المديح لعناصر المقاومة الشجعان ويبرزهم كمثلٍ يقتدى به في هذا الجيل.

هذا هو الواجب في الوقت الراهن، لا مجال لإظهار الحيادية، بل الواجب هو الانحياز الكامل للقضية الفلسطينية، وهذا ما يفعله إعلام الغرب ومحللوه ومثقفوه وكتّابه، لا مجال للحيادية في ما يطرحون، انظر إلى مقدمي البرامج في الغرب كيف يحاولون انتزاع اعترافات من الضيوف تدين المقاومة، وانظر كم ينقلون أخبارا غير موثقة عن الصهاينة تأييدا لهم، ويطنطنون حول ذلك دون خجل، انظر إلى تصريحات المسؤولين الذين يعلنون تأييد الاحتلال في القضاء على غزة. لا أقول أن نلوي عنق الحقائق ونمارس التدليس، بل يكون من خلف إظهار الحقيقة تأييد ودعم للقضية.

ليس الوقت وقت حيادية، بل تعد الحيادية الآن تخاذلا وتقاعسا، إنما هو تكاتف وتعاضد والتفاف حول القضية الفلسطينية، التي أراد الله لها أن ترفع أقواما وتخفض آخرين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون