في عدد مجلة «الشؤون الخارجية» الأميركية الصادر مطلع يناير (كانون الثاني)، كتب ثلاثة من الكتاب مقالاً مشتركًا تحت عنوان «الوقت أزف للوقوف بصرامة أمام نظام طهران»، يناقش المقال التراخي الأميركي في ملف التقنية النووية الإيرانية، ولفت نظري فيه نقطتان؛ الأولى، أن نظام الملالي في إيران، مثله في العمق النظام السوفياتي السابق، كونه قائمًا على آيديولوجيا، فمصيره الفشل! والنقطة الثانية أن الولايات المتحدة لم تفهم طبيعة النظام الإيراني، حيث محاولاتها للتوافق معه سوف تذروها الرياح، لأن التوافق من وجهة نظر النظام الإيراني يقوده إلى انهياره في نهاية المطاف. يفضل النظام إبقاء الصراع منخفض الوتيرة، يجعله في موقع أفضل للتحكم في جماهيره، بعد أن أفاض عليه بالشعارات المعادية للآخر، لذلك فإن هذا النظام لن يتوافق دوليًا، مرة أخرى مثله مثل الاتحاد السوفياتي، بل سيظل يستهلك الآيديولوجيا حتى الرمق الأخير.
ليس من المهم أن نوافق أو لا نوافق التحليلات التي يبديها بعض المراقبين الأميركيين، خصوصًا في الموضوع النووي، ولكن حجر الزاوية هنا هو فهم طبيعة النظام الإيراني، فهي عملية مطلوبة لنا نحن العرب، ومن خلال فهم تلك الطبيعة يمكن بناء استراتيجية شاملة وموحدة لدرء أخطاره المحتملة.
غني عن البيان أنه ليس كل الإيرانيين يرغبون في مواجهة مع العرب، كما أن ليس كل العرب الشيعة موالين لإيران، التعميم هنا يُعمي البصيرة، ويقود إلى سياسات قصيرة النظر. إنما على الجانب الآخر، تأتي الأهمية القصوى لتحديد طبيعة النظام في إيران، هل هو نظام «ثوري» أم هو «نظام دولة»؟ الخلط الواضح في إيران اليوم بين «الدولة» و«الثورة» هو ما يجعل الأمور تشكل ضبابية مدمرة ومغامرة، فإن كان هناك جماعة ترغب في الاعتدال، فإن جماعة أخرى صاحبة نفوذ ومصالح لا تسمح لها بذلك، المعركة الحقيقية في ساحة إيران بين فريقين، يلبس كلاهما قناعًا للثورة وقناعًا للدولة، وقد تطول هذه المعركة قبل الوصول إلى فضاء الدولة، التي تعني تغييرًا في طبيعة النظام. ولكن تداعيات ذلك الصراع لا يصيب الجوار العربي بالرشاش، بل وأيضًا بالرصاص، ويعرض ثوابت الاستقرار للمخاطر، وتدفع المنطقة برمتها ثمنًا غاليًا جراء صراع الأجنحة بين الثورة والدولة، وهو ثمن استهلك الكثير من الطاقة والبشر في لعبة تبادل الأدوار الإيرانية التي يبدو أن لا نهاية لها.
واضح أن ثمة معادلة في طهران ترى أن الدولة كي تستمر تحتاج إلى الثورة، وأن الثورة كي تتمدد تحتاج إلى الدولة، فهناك شبه تناغم بين الاثنين يجب الإبقاء عليه، تبدو للبعيدين أنها تناقض وهي تناغم! وقد وقع البعض في وهم أن هناك إصلاحيين وهناك ثوريين، وقال البعض دعونا نتعامل مع الإصلاحيين لربما استطاعوا أن يتغلبوا في نهاية المطاف على التشدد؟ وهذا هو الخطأ الأكبر، لأن التجربة من خلال عصور مختلفة للإدارة الإيرانية منذ قيام الثورة، ثبت أن الدعوة إلى التعايش وقبول بعض التعديات على أنها فورات قد تُلجم، قد شجع التمدد والتدخل الإيراني في الشؤون العربية، وأثار موجة ضخمة من الاقتتال في كل من العراق وسوريا، كما أثار توترات كبرى في النسيج الاجتماعي لأكثر من دولة عربية، وتبين أن تفسير ضبط النفس العربي، عندما يُترجم إلى الفارسية، يقرأ على أنه: تراجع وخوف!
على مقلب آخر الشيعة العرب، سواء كانوا عربًا أم تعربوا (لأن العربية هي اللسان)، خلطوا بين الدعوة والرغبة في حقوق مواطنة متساوية في بلدانهم وبين (تبعية ما إلى إيران) أقول بعضهم، إلا أن هذا البعض هو الأعلى صوتًا، ولا أتجاوز الكثير منهم الذين تبين لهم خطيئة هذا الخلط ونتائجه المدمرة على النسيج الاجتماعي. أصحاب الصوت الأعلى اندمج لديهم تبعية الولي الفقيه بالتخلي عن مواطنتهم، فأصبح الولاء للوطن، على غير طبيعة الأمور، ثانويًا، والولاء للفقيه أولى! ليس بعيدًا عن أسباب ذلك الخلط الإغراء الآيديولوجي والمادي والشعاراتي، وليس بعيدًا عنه الجهل أو التوظيف السياسي. فنجد أن السيد حسن نصر الله، على رؤوس الأشهاد يُبلغ من يريد أن يسمع، أن ولاءه الأول والأخير للولي الفقيه! ولم يكن بعيدًا عن ذلك بعض الساسة العراقيين، وأمثالهم من متعاطي السياسة في بعض بلدان العرب.
مثل هذه الأصوات بجانب التقدم الإيراني في ساحات العراق وسوريا، تركت انطباعًا لدى طهران من شقين؛ الأول أنها مسؤولة عن كل الشيعة، خاصة العرب!! لأن هناك شيعة في بلدان أخرى مثل طاجيكستان وأوزبكستان وألبانيا وغرغيزستان، لتسمية البعض، لم يطلهم هذا التدخل في أوطانهم. والثاني أن أعلامها ترفرف منتصرة! وهو أمر بالغ الخطأ في الفهم والتحليل وقريب من التمنيات لعدد من الأسباب؛ أولها، رفض شعبي في العراق مثلاً للتشبه بولاية الفقيه التي تمارس في الحكم نظامًا شبه فاشي. تلك حقيقة مشاهدة. أما الثاني، فإن الشعور العربي ينفُر من استبدال مستعمر بمستعمر آخر، حتى لو كان الولي الفقيه، كما أن التعاطي السياسي هو أكثر مرونة ومقبولية في الجانب العربي عن ممارسة حكم الفقيه.
يستحق الأمر القول إن هناك مسؤولية على النخب العربية الشيعية، وهو الجهر بأن إيران ليست الناطقة باسمهم، وأنهم مثل مواطنيهم في بلدانهم، لا يستبدلون المذهب بالمواطنة، هذا أمر يحتاج إلى جهد ليس من جانب العرب الشيعة، ولكن أيضًا من جانب العرب السنة، الذين يتوجب عليهم بذل المزيد من الجهد لتأكيد المواطنة المتساوية وقلع أية شكوك أو ارتياب يتعلق بهذا الأمر، وهو مركزي يتمحور نحو خطة شاملة للمواطنة، وتأكيد أن هناك طرقًا مختلفة للإصلاح ليس من بينها التسليم بالتبعية إلى آخرين خارج الحدود.
من جانب آخر، فإن متخذ القرار في إيران لا يريد أن يتعرف على طبيعة المجتمع العربي المختلط، فله طبيعة مقاومة للنفوذ الإيراني أو قبول ولاية الفقيه كنظام حكم، تلك أضغاث أحلام على النخب الإيرانية أن تعيها، عدا أن النموذج الإيراني منفر لا يرغب عاقل في استيراده، حيث الاستبداد يضغط على العقول فيفسدها، وحتى بين أعضاء في حزب الله تسمع خلف الأبواب امتعاضًا لا ريب فيه من سلبيات الإلحاق الذي تفرضه القيادة التابعة على منتسبي الحزب وأصحاب الرأي المستقل. طبيعة المجتمع العربي تأبى الوقوع في حكم الملالي، كما أن العرب قد خبروا، خصوصًا من التجأ منهم إلى إيران أو تعاملوا معها، زاوية النظر السلبية للعربي، سواء كان سنيًا أم شيعيًا! وهو موقف قومي يلمح فيه المتعمق موقفًا عنصريًا.
كان طبيعيًا، والأمر ذاك، أن تتخذ السعودية وحلفاؤها خط المواجهة، بعد أن جربت كل المُسكنات فلم تُحدث أثرًا حتى طفح الكيل. إلا أن الغريب ردود الفعل من بعض المحللين، غربيين وعربًا على حد سواء، تتلخص تحليلاتهم في أن الخطوات التي اتخذت لمواجهة التمدد الإيراني سوف تُعقد المسألة في سوريا! والسؤال هو: هل كانت إيران باتجاه حل المعضلة السورية؟ الجواب لا. وكذلك في اليمن نخرج بالجواب نفسه، أما أن تقدم لنا المبكيات مضحكات، فكان تصريح حسن نصر الله حيث قال إن تصعيد المواجهة مع إيران سوف يتسبب في تعطيل تسوية لرئاسة الجمهورية اللبنانية! وهل كنتم في وادي التسهيل أصلاً؟!
ما حدث يحتاج إلى إكمال، هو التفكير في خطة شاملة وجماعية للمواجهة السياسية والإعلامية وحساب كل الاحتمالات بما فيها احتمال إيقاظ بعض الخلايا النائمة، أو أكثر من ذلك، لقد رُفعت الأقلام وجفّت الصُحف!!
آخر الكلام:
الضحية الأكثر دفعًا لفاتورة إيران التوسعية هي كثير من العرب، الذين تحاول ماكينة إيران إلى دفع مصالح إيران القومية من خلالهم، ويصبحون وقودًا للتعصب