صنعاء القديمة: إبداع يزين الزوايا ويقاوم الاندثار
بقلم/ متابعات
نشر منذ: 15 سنة و شهر و 10 أيام
الخميس 24 سبتمبر-أيلول 2009 08:13 م

اقتضت ضرورات الفن المعماري في مدينة صنعاء القديمة ‏أن تنشأ منظومة من الحرف اليدوية التي ساهمت في رسم ‏ملامح الجمال الفائق لهذه المدينة الموغلة في التاريخ..

وقد ‏تضافرت الكثير من العوامل التي ارتقت بهذه الحرف التي ‏كانت علامة مميزة في تاريخ المدينة التي جعلت منها أيادي ‏الفنانين المهرة تحفة آسرة الإبداع.. ولعل الزائر لمدينة ‏صنعاء القديمة والمتجول في دروبها المضمخة بالأسرار ‏يلمح بسهولة العديد من مظاهر الفن الذي ميز المدينة وجعل ‏منها لوحة تشكيلية رائعة شارك في رسمها آلاف الفنانين ‏على مر العصور..

ومن أبرز أطياف ذلك الوهج الفني الرائع ‏والمتناسق تبرز بقوة الأعمال الخشبية التي زينت البيوت ‏الصنعانية من الداخل والخارج والتي كانت نتيجة لتراكم ‏وتفاعل مدرسة يمنية في فن النجارة تمكنت من تطويع ‏وتشكيل الأخشاب الصماء وتحويلها إلى أعمال ناطقة ‏بالجمال والإتقان.‏

وتعد حرفة النجارة من أبرز الحرف التي ازدهرت في ‏صنعاء وساهمت في خلق خصوصية المدينة وقد توارثت ‏هذه المهنة العديد من الأسر غير أنها تمر هذه الأيام بمرحلة ‏ركود كبيرة تهدد بتلاشي الأيدي المهرة في هذه الحرفة ‏اليدوية التي توشك أن تسقط تحت براثن الآلات الحديثة ‏كغيرها من الحرف اليدوية. ‏

‏* خبرة عمرها ثلاثة قرون:‏

الحاج عبد الله البر طي توارث مهنة النجارة عن أبيه الذي ‏توارثها عن جده ويرجع الحانوت الذي يقف أمامه بحسب ‏قوله، إلى حوالي 280 سنة.. مؤكدا أن أسرته كانت الأكثر ‏شهرة في مجال نقش وزخرفة الأبواب الخشبية بينما كان ‏بيت "الأسطى" مشهورا بنقش المنابر وبيت"الحيلة" ‏مشهورا بنحت"الترنجات" والمرايا.‏

وبمنطق الخبير في هذا المجال يتحدث الحاج البرطي عن ‏حرفة النجارة في صنعاء القديمة وعن أنواع الخشب وميزة ‏كل نوع منها حيث يفضل النجارون في صنعاء، استخدام ‏خشب"الطنب"، لأنه يصمد لمئات السنين دون أن تهاجمه ‏‏"الأرضة" أو يتأثر بالتغيرات الجوية والمناخية، وهو إلى ‏جانب قوته ومتانته ممتاز للنحت والقطع فلا يلتوي ولا يتأثر ‏مهما كانت آلة القطع أو النحت قوية.

أما خشب "الطلح" كما ‏يقول الحاج البرطي فيستخدم في صنع الأبواب الخارجية ‏لصلابته، إلا أنه غير مرغوب فيه كثيرا نتيجة قابليته ‏للتشظي، ولذلك لا ينفذ العمل فيه إلا إذا كان أخضر وأفضل ‏ما يصنع منه "المحاريث"، أما المغالق الخشبية فيفضل ‏النجارون في صنعاء صنعها من خشب "الغضار"، لأنه رغم ‏قوته وصلابته خفيف وذو مظهر جميل للونه الأبيض، ‏وكذلك لمقاومته للأرضة ويُعَمّر خشب الغضار لفترة طويلة.

‏كما تصنع منه كذلك المدقات والمطارق الخشبية، و يستخدم ‏أيضا في صنع "مرادم" الأبواب والبناء وعوراض السقوف. ‏أما خشب الحُمَرْ وخشب البرقوق فيستخدم في صنع قِطَع ‏الأثاث التي تحتاج إلى خراطة مثل أقطاب "المدايع" ‏ومشاربها قبل تزيينها وتطريزها بالفضة.‏

‏* تحف خشبية

الحاج يحيى الطويل أحد القلائل ممن لازالوا مخلصين لحرفة ‏النجارة يقف أمام حانوته الصغير في "سوق المنجارة" ‏متحدثا عن توارث عائلته لهذه الحرفة معتبرا نفسه أحد ‏أفراد الجيل الخامس ممن عملوا في هذه المهنة من عائلة ‏الطويل التي لم يعد يعمل منها في هذه المهنة -بحسب الحاج ‏الطويل- إلا خمسة أفراد لازالوا حتى اليوم يقومون بصناعة ‏العديد من المنتجات الخشبية التي تزين البيوت الصنعانية ‏وتحافظ على رونق وتميز البيت الصنعاني القديم مثل ‏المباخر والصناديق والمسارج.

إضافة إلى أعمال النجارة ‏الخارجية المتمثلة في النوافذ والأبواب، كما لا تزال أسرة ‏الطويل من ضمن الأسر القليلة التي حافظت على جماليات ‏وأسس فن الزخرفة ونقش منتجات النجارة وفقاً للأنماط ‏التقليدية، إلى جانب ترميم منتجات النجارة القديمة، وتحفها ‏والتي مازال يحتفظ ببعض القطع النادرة منها والتي توشك ‏على الاندثار بسبب دخول المنتجات الصينية رخيصة الثمن ‏ومن أبرز التحف الخشبية التي لازال الحاج يحي الطويل ‏يتباهى باقتنائها صندوق ملابس منقوش ومطرز بالنحاس.. ‏وصندوق صغير بسبعة أدراج.‏

‏* نوافذ وأبواب شاهقة!‏

وكما أبدع الحرفي اليمني في مجال التحف الخشبية التي ‏تزين البيت الصنعاني من الداخل أذهلت العالم مهارة النجار ‏اليمني الذي جعل البيت الصنعاني من الخارج لوحة فنية ‏حيث يقول أحد الحرفيين في هذا المجال أن النافذة في البيت ‏الصنعاني تكون أكبر وأجمل كلما ارتفعنا فيه..

وتتعدد أنواع ‏النوافذ والأبواب والزخارف التي تزين البيوت في صنعاء ‏القديمة كدليل على تنوع إبداع الحرفيين في هذا المجال ‏فهناك باب الخزانة وباب شباك المشربية وباب الكشك ‏والباب الصغير المفرَّخ. وباب الديوان المنحوت المطلع.‏

أما أنواع النوافذ في البيت الصنعاني فتنقسم إلى الكثير من ‏الأنواع فهناك النوافذ "المفرخة" أي التي يحتوي مصراعها ‏على نافذة صغيرة منبثقة منها تفتح على الخارج إذا كانت ‏حشوا عربيا وإذا كانت حشوا تركيا تفتح على الداخل، ‏ويتحدث أحد الحرفيين عن الأنواع الكثيرة والمتعددة ‏الأغراض والأشكال في البيت الصنعاني.

فهناك النافذة ذات ‏الأربع الفتحات والنافذة المطرزة بالمسامير المزهرة.. ‏ونافذة "يِمَان" التي تفتح على الداخل.. وأخرى تفتح على ‏الخارج كما أن هناك نافذة تُفتح لأعلى ولها خطافان طويلان ‏مع "مرزاحيهما" المثبتين في أعلاها لتثبيتها عند فتحها إلى ‏الأعلى. ‏

ولا يغفل المبدع الحرفي عن التفاصيل حيث يحفل قاموس ‏النجار اليمني بأسماء وأصناف و أنواع الجزئيات الخاصة ‏بالأبواب والنوافذ في البيت الصنعاني فالباب في البيت ‏الصنعاني عبارة عن لوحة فنية كبيرة تضم بداخلها عشرات ‏اللوحات الفنية الأصغر فهناك "التردوم" الذي يتماهى مع ‏جوانب الباب المزخرف بالمسامير المزهرة والمزين ‏بالزخارف المنحوتة إلى الخارج..

كما يحتوي الباب الخشبي ‏في البيت الصنعاني على "المشراق" الذي يجمع أجزاء ‏البابين عند الإغلاق والمنحوتة على واجهته العديد من ‏الأشكال. وهناك مدقَّة الباب"الترنجة" وهي عبارة عن قطعة ‏خشبية منحوتة ثبتت في وسطها "طاسة" المدقة مع ‏‏"الروزبان" الذي يقع فوقه الطرق الذي يحدثه الطارق ‏و"المدقة" مع "الروزبان" جميعها من الحديد.‏

ومن أجزاء فن النجارة في بيوت صنعاء القديمة أبدع ‏الحرفي اليمني في صنع "الكنن" وهي المظلات الخشبية التي ‏تحمي النوافذ من المطر في محاولة للانسجام مع الطبيعة ‏التي تحيط بالبيت الصنعاني. ‏

كما يعد "الشاقوص" أحد أهم عناصر النافذة في البيت ‏الصنعاني، وهو النوافذ الصغيرة المفرّخة من المصاريع ‏والتي تستخدم عندما تكون المصاريع الكبيرة مقفلة للتهوية، ‏أو للإطلالة على الشارع دون التعرض للظهور على المارة.

‏أما الشبك الصنعاني فله تاريخ قديم، فقد ورد في مخطوط ‏‏"نور المعارف" كلمة "حواجب" وفسرها محقق الكتاب ‏بقوله: بأنها نوع من الستائر الخشبية التي يدخل الخرط في ‏تشكيلها أو يثقب الخشب بأشكال هندسية، بحيث يتمكن من ‏يقف وراءها من مشاهدة ما أمامه، في حين تُحجب رؤيته ‏عن المشاهد له من الخارج ويُبنى الشباك في البيت ‏الصنعاني من"الياجور"، لكنه أيضا قد يكون من الخشب.

والشباك الخشبي في العمارة الصنعانية نوعان شُبّاك عَربي ‏وهو عبارة عن قفص خشبي يعلو الجدار الداخلي، ويأخذ ‏شكل الفتحة الجدارية التي رُكِّب الشباك عليها، ويقدر عمق ‏القفص بمقدار بروزه عن الواجهة وهو حوالي 60 صم ‏بإضافة عمق الجدار إلى عمق الشباك ويكون مربعاً أو ‏مستطيلاً بسبب زواياه القائمة، وإضافة إلى وظيفة الشباك ‏في التهوية والفرجة ومعرفة هوية الزائر، إلا أنه يقوم ‏بتبريد الماء الذي يوضع داخل مدلآت الشرب، وهناك الشباك ‏الموجود داخل حجرة "الديمة" حيث يقوم بدور "الفريزر" في ‏حفظ الأطعمة.‏

أما الشُبّاك التركي فهو يشبه الشباك العربي لكنه يتميز عنه ‏بمظهره الجانبي المثلث، وتنفتح مقدمته وخلفيته المثقوبة ‏بالتخاريم والألواح التي يتكون منها، وتكون مجهزة بصفائح ‏رقيقة من الخشب المتقاطع والمتداخل بشكل مائل.‏

أما المَشْرَبِيّة في البيت الصنعاني فهي شكل آخر من أشكال ‏الجمال فهي عبارة عن قفص خشبي يعلو الجدار الداخلي، ‏ويأخذ شكل الفتحة الجدارية التي رُكِّب الشباك عليها، ويقدر ‏عمق القفص بمقدار بروزه عن الواجهة وهو حوالي 60 ‏صم بإضافة عمق الجدار إلى عمق الشباك، ويكون مربعا أو ‏مستطيلا بسبب زواياه القائمة.

بالإضافة إلى وظيفة الشباك ‏في التهوية، والفُرْجَةِ ومعرفة هوية الزائر، فإنه يقوم ‏بتبريد الماء الذي يوضع داخل أواني الشرب، وهناك الشباك ‏الموجود داخل حجرة "الديمة"، حيث يقوم بدور "الفريزر" ‏في حفظ الأطعمة، ويوجد الشباك المُخَرم دائما في الواجهة ‏الشمالية من بيت الدرج والحجرات بصورة دائمة

** العرب أونلاين- صالح البيضاني: