ماذا تريدون من إسلاميي صنعاء ؟
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 9 سنوات و 11 شهراً و 29 يوماً
الخميس 06 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 11:51 ص

انتقل إسلاميو اليمن ـ الإصلاح ـ إلى العاصمة صنعاء في الربع قرن الأخير. دخلوا العاصمة بالأحذية البلاستيكة، وبقمصان الرهبان. كان قرارهم نهائياً: السياسة.

في صنعاء عبروا عن حضورهم المدني: بنوا جامعات، مطاعم، مساجد، مؤسسات إعلامية، منظمات عمل مدني، أندية رياضية، قهاوي، محلات لبيع الشيبسي، المتاجر، البنوك، شركات التأمين، محلات الصرافة، محلات القماش، شركات سوفت وير، مكاتب للترجمة، مدارس أهلية، مراكز للغات، محلات للذهب، صناديق لبيع القات، ورش لقطع غيار السيارات، صالات أفراح .. إلخ. باختصار: ساهم الإسلاميون في أن تبدو صنعاء على ما هي عليه.

لا توجد جماعة إرهابية تفعل كل هذا!

من ضمن النسخ السائدة للإسلام السياسي تبدو نسخة إسلاميي اليمن وتونس هي الأكثر استيعاباً للحضارة، واستعداداً للتحوّل والتكيّف. ذلك حين نقارنها بالنسخة الإسلامية السعودية، الحاكمة، التي تطوّرت في وحشيتها حتى تماهت مع العلمانية الشاملة اللا إنسانية "عزل كلّي للدين عن الاقتصاد والسياسة والأمن والعلاقات الدولية". وهي صورة شديدة القسوة من العلمانية لم تجربها أوروبا بعد، فالكنيسة الكاثوليكية في أوروبا مندمجة إلى حد كبير مع النظم الحاكمة، وبمقابل حريّة أكبر للساسة قبلت الكنيسة بدور أكبر على مستويات أخرى "دراسة أراكون التي حاز بموجبها على درجة الدكتوراه من السوربون عالجت هذه القضية".

الصورة الإيرانية من الإسلام هي الأكثر سوءً على الإطلاق. تختلف عن الصورة الأفغانية في النوع لكنها تبلغ الدرجة ذاتها "التحكم الشامل بالكائن وإخضاعه كلّياً، وسحق قدراته، واحتكار المجال السياسي لمصلحة تفسير أحادي، أو مشروع وحيد لا يخضع للإبدال ويتغيّر ببطء، بحسب المتطلبات البراغماتية الصرفة." فرواية سلمان رشد "آيات شيطانية" منحت صاحبها الحكم بالقتل من قبل الحكومة الإيرانية 1979. لكن النظام نفسه عاد في العام 1987 وقال إنه لم يعُد يرى أن صاحبها يستحق الموت، ولا بأس من الرواية. أصدر الرأي الأخير عندما كان يرغب في الوصول إلى اتفاق ما مع إنجلترا.

بقي إسلاميو صنعاء محافظين، أقل تطرّفاً من حزب الـ CSU الذي يحكم جنوب ألمانيا، وأقل من اليمين الفرنسي والهنغاري. خاضوا السياسة من منطلق ليبرالي ذرائعي، وكانت تجربة الحركات الإسلامية في القرن الماضي قد أوصلتهم إلى قناعة صارمة تقول إنهم لن يستطيعوا تأمين وجودهم كمشروع وكجماعة إلا من خلال العمل على تأسيس الديموقراطية، أي المؤسساتية الشاملة. ذلك أن جهاز العدالة الكفؤ والحديث، محروساً بجهاز شرطي مهني وحديث، هو الذي سيحرس مؤسساتها وحتى وجودهم البيولوجي. إذا استعرنا تعبيراً لصحيفة نيويورك تايمز مؤخراً فإن الإسلاميين السياسيين يدفعوا الآن ثمن "صوتهم العالي المنادي بالديموقراطية".

في حين كان إسلاميو صنعاء يبعثون رسائل المباركة للإحزاب الإسلامية المحافظة التي كسبت الانتخابات هنا أو هناك كان يساريو صنعاء يرسلون عرائض التأييد للأنظمة القمعية في شرق آسيا وجنوب أميركا ضاربين عرض الحائط بمواقف القوى المدنية في تلك الدول من أنظمتها، وما تتعرض له من تجريف وقمع وإرهاب. توجد أمثلة كثيرة. كانت الرسالتان تغادران صنعاء، واحدة تمجّد الديموقراطية والأخرى تمجد الإرهاب. وكان تمجيد الإرهاب الرسمي نشاطاً يساريّاً. وفي المجمل يتذكر اليسار العربي كيف اشتركت الطلائع الأولى للإسلاميين في مقتل النقراشي متجاهلين 46 مليوناً قتلتهم الاستالينية، في أكبر جريمة ارتكبها الإنسان على مرّ العصور. عبر النيويورك تايمز ذكر "ميخائيل غورباتشوف" قبل أشهر القوميين الروس بالحقيقة السوفيتيىة الشيوعية. طلب غورباتشوف، ردّاً على أولئك الذين ينادون بمحاكمته لأنه أهان إمبراطوريتهم العظيمة، أن يعود منتقدوه إلى التاريخ، وليستقلوا قطاراً الساعة الرابعة فجراً في شتاء روسيا، وليقطعوا عشرات الساعات في ثلوج سيبيريا في كولاغات، وليختفوا هناك في معتقلات السوفيت السريّة لسنين طويلة. جربوا هذه الرحلة، قال غورباتشوف، لتدركوا أي حقبة كانت هي الحقبة الروسية.

لبدر شاكر السياب رواية أكثر قتامة عن اليسار العراقي، على سبيل المثال. الرواية على شكل مذكرات عبر أربعين حلقة مع صحيفة الحرية العراقية، نشرت أول مذكرة في آب 1958. مؤخراً، قبل أعوام، نشرتها دار الجمل ـ كولن ـ نشرها في كتاب مكتمل. بمقدورك أن تبصر حجم الفجيعة في تجربة السياب مع يسار العراق! اليسار الذي لا يزال، حتى اللحظة، يتذكر مقتل النقراشي فقط!

يدفع حزب الإصلاح ثمن صوته العالي المنادي بالديموقراطية. الجرد الأوّلي لطبيعة الكتلة المسلّحة التي شكّلها الإصلاح دفاعاً عن صنعاء، والتي انهارت خلال ساعات قليلة، يعكس الطبيعة الحقيقية للحزب: مدني، محافظ، ليس له علاقة بالسلاح. ففي كلية الهندسة، جامعة العلوم والتكنولوجيا، تجد صور أسماء الطلبة الذين سقطوا دفاعاً عن صنعاء، وكذلك الجرحى. لا يمكن أن يكون المهندسون ميليشيا! أما لماذا اتجهوا إلى حمل السلاح فذلك لأنهم يشكلون العمود الفقري لحزب سياسي تستهدفه الميليشيا التي لا يوجد في نسيجها مهندس واحد، تستهدف بقاءه البيولوجي في الحياة. كانت خطابات عبد الملك الحوثي تتوعدهم، باستخدام كل الكلمات الممكنة، بالقتل.

لا يزال يسار صنعاء، القومي والماركسي، تائهاً في موقفه الكلّي من الديموقراطية. لا يسعفه تاريخه. ترتكز الأدبيات الناصرية في الأساس على تمجيد طبيعة النظام الذي أسسه عبد الناصر. وإذا تركنا لبرادلي، الباحث الإنجليزي، أن يصف طبيعة ذلك النظام كما في كتابه "مصر من الداخل" وبعد ثمان سنوات من البحث والتحرّي فسيقول: لقد قضى عبد الناصر على كل المنجز الديموقراطي الذي كان سائداً قبل ثورة يوليو. يحاصر الإسلاميون حتى الآن بدم النقراشي الذي اغتال الجماعة ذات الشخصية الاعتبارية ـ بتعبير جمال البنا، المفكر الليبرالي الراجل ـ قبل أن تغتاله هي. أما اليسار البعثي الذي يقوم كلّياً على تمجيد نظامين من أكثر الأنظمة بربرية فلا يمكن أن يكون هذا النوع من اليسار ديموقراطياً قبل أن يعترف بأن ما كتبه كنعان مكية في "جمهورية الخوف" الصادر سنة 1989 عن طبيعة النظام العراقي يسحق كل ادعاءات الديموقراطية والحياة الحديثة. لا ينبغي أن نذهب بعيداً، يتعلق الأمر هنا بأمر واحد لا غير: الموقف من الديموقراطية. السرديات الكبرى التي لم تعُد تضحك أحداً لا علاقة لها بما نحن بصدده "النضال، والخير للجميع، والأمة الواحدة".

بمناسبة السرديات الكبرى، كان الراحل محمد عابد الجابري في "الحداثة والتراث" يسخر من الشعار القومي "وحدة، حرية، اشتراكية". فهو يرى أن الاشتراكية فكرة في جوهرها تتناقض مع الواحدة، ومع الحرّية، فالاشتراكية تقويض للطبقات في حين تدعو فكرة الوحدة الرومانسية إلى تعايشها وتجاورها. في تقديره فإن الثورة العربية في الخمسينات كانت فوضوية وزائفة منذ الشعار. أما البرادعي فرأى أن ثورة 25 يناير كانت تستهدف نظاماً عمرها 58 عاماً، أي النظام الذي أسسه عبد الناصر. في حين نظر هيكل في "سنوات الغليان" لفكرته التي تجعل من البعثية السورية نظيراً مادياً وأخلاقياً للفاشية الموسولينية، وتطابقه. وفيما يخص صنعاء فهناك من كتب عن أن ثورة 11فبراير كانت ثورة ضد آخر رجال الحمدي.

استهداف الإسلام السياسي يضعنا أمام مأزق وجودي خطر. فالحوارات التي أجرتها أميركا خلال السنوات الماضية مع طالبان كانت عبثية. كانت أميركا تريد من طالبان ترك السلاح والانخراط في العمل السياسي. وكانت طالبان تقول لأميركا إنكم تلقون القبض على الإسلاميين الذين ينشطون سياسيّاَ ولا تعترفون بحقهم في أن يكونوا سياسيين. كيف ستحاصر الحضارة الراهنة داعش دون خطاب معرفي وقضائي وأخلاقي. ما المطلوب من داعش بدلاً عن السلاح؟ من المؤكد أن هناك طريقاً آخر لإسلاميي داعش: أن يكون إسلاميين سياسيين، لا محاربين! لكن الإسلاميين السياسيين يطلق عليهم الرصاص، إذن فداعش طريق إجباري! هذه المعادلة خطرة جدّاً، والعبث معها لا ينتج سوى رعبٍ عالمي وخيم. أتذكر جيّداً ما قاله توماس فريدمان قبل أربع سنوات: من حاصل 35 ألف معتقل في غوانتانامو لم يكن هناك معتقل واحدٌ من الهند، وهي الدولة ذات التجمع الإسلامي الأكبر عالمياً. يفسّر فريدمان الأمر بكلمة واحدة "الديموقراطية الهنديّة". يقول إن الناشط الإسلامي في الهند لديه أكثر من حل للتعبير عن وجهة نظره. في حين لا يجد الناشط الإسلامي في السعودية سوى طريق واحد، نعرفه جيّداً.

في حين كانت النسخة السياسية من الإسلام الإصلاحي في اليمن تعالج قضايا شديدة التركيب، كالعدالة والحرية والأمن والمعرفة، كانت الإسلام السعودي يفشل في التعامل مع قيادة المرأة للسيارة، ومع تصفيق التلاميذ في المدرسة، ومحلات الحلاقة. صورة سوداوية تعطيك انطباعاً شاملاً عن الطريقة التي عاشتها أوروبا في عصورها السحيقة. هذه الصورة المقفرة التي اعتمدها النظام السعودي الرسمي، والملكيات الخليجية إجمالاً، تستهدف التحديث السياسي الذي أنجزه إسلاميو صنعاء وتركيا وتونس، وتصنفه إرهاباً. في الوقت نفسه لا تقول تلك الملكيات للإسلام السياسي ما الذي ينبغي عليه فعله. بصورة ما تقول الرسالة: عليكم أن لا تكونوا ما أنتم عليه، أي أن لا تملكوا رأياً مختلفاً. أي أن لا تكونوا بشراً كاملي الحريّة. لنتذكر الصورة المفزعة لدولة خليجية وهي تسحب مذيعيها من قناة تتبع دولة أخرى بفعل خلاف سياسي. تعاملت الدولة الأخرى مع مواطنيها كما لو كانوا مماليك، لا يملكون الحق في أن يقرروا أين يعلمون، ولا متى. وأنّهم جزء من مقتنيات النظام الحاكم يعيرهم ويسترجعهم وفقاً لأهوائه ومدونة اليوم والليلة الخاصة به. المواطن الأوروبي، أو الأميركي، الذي يقع على مثل هذه الأحداث يعجز عن تصديقها. تبدو سابقة لزمن اختراع المطبعة.

في الأيام الأخيرة، ولأن الحياة السياسية والاجتماعية تقوم على فكرة الإزاحة، فقد غادر الواجهة إسلاميو صنعاء بمؤسساتهم وجامعاتهم وبنوكهم ومدارسهم ومشافيهم .. إلخ وحلت نسخة جديدة من الإسلام، نسخة فشل مؤسسها في أن ينطق كلمة "فيس بوك" بشكل صحيح "فوص بُك، نطقها". لا توجد في ملازم الحركة الجديدة إشارة واحدة للفارابي، ابن رشد، محمد عبده، فون هايك، كينز، ماركس، هيغل، ميلتون فريدمان، أو حتى هنري كيسنغر! نسخة معزولة كلّياً عن المنجز البشري إجمالاً، بكل تنويعاته. تقول هذه النسخة: جئنا بالملك كما قرر الإله، ثم بعد ذلك لكل حادث حديث. هذه النسخة المظلمة، التي ترى إلى العالم بوصفه خيلاً من خشب أهداه الله لفتى من قريش يوم مولده، هي التي ستسود في العصور الجديدة.