|
... قد لا يبدو مدهشاً في ظل ذلك التجاهل قيام مشائخ وأعيان وأفراد القبائل ببذل طاقاتهم في سبيل تدعيم بناء القبيلة عسكرياً وزيادة العدة والعتاد وتوسيع دائرة التحالفات للانتصار في نزاعها الذي تعيشه مع قبيلة أخرى، أو تحسباً لأي نزاع قادم قد تدخل فيه.. ولم يدر بخلد أحدهم أن قوة قبيلتهم في جانب آخر حالت ضبابية الرؤية في فترة النزاع دون الكشف عنها.
وفي هذا السياق تشير عدد من الدراسات التي تناولت النزاعات القبلية وظاهرة الثأر إلى أن قلة الوعي وانتشار الأمية بشكل كبير في مناطق النزاعات من أبرز العوامل التي لعبت دوراً أساسياً في تعميق النزاعات وإذكاء نيران الحروب، كما أن إهمال القبيلة للتعليم وشغل أبنائها بثاراتها وصراعاتها عن مستقبلهم وقوتهم الحقيقية المتمثلة في تأهيلهم العلمي والأكاديمي فاقم من تأثيرات النزاعات السلبية. ناهيكم عن انتشار الفقر في أوساط القبيلة نتيجة ارتباط الفقر بالجهل .
ولو قامت كل قبيلة بإجراء حسبة بسيطة على ما قامت بإنفاقه من أموال على تكاليف الحروب من ذخائر وقذائف وأسلحة خفيفة وثقيلة ونفقات أثناء القتال وإعادة إعمار ما خربته الحروب من منازل ومنشآت ، لو قارنها بما قامت به في جانب دعم التعليم ، الإجابة سنخلص منها إلى نتيجة سلبية ، لو أن القبيلة قانت بتوظيف تلك الأموال في إتجاة دعم التعليم لساهم في تأهيل عدد كبير من أبناء القبيلة كان بإمكانهم تعزيز قوة القبيلة والإسهام في الرفع من مستوى وضعها الاقتصادي .
وبالطبع فإن محافظة مأرب تعد من بين أكثر المحافظات اليمنية التي تأثرت سلباً من النزاعات القبلية والتي رافقها قصور كبير في جانب اهتمام المجتمع بالتعليم وبالتحديد التعليم الجامعي، وبالرغم من ذلك الوضع الذي ساهم في حرمان قطاعات واسعة من المجتمعات القبلية إلا أن هناك إهمال حكومي صاحب تلك المرحلة ولا يمكن بأية حال أن يكون هناك مبررا للدولة حتى وإن وجدت مثل تلك الظروف.
.... الحضور المتأخر لكلية التربية والآداب والعلوم كنواة لجامعة متكاملة وافتتاح مكتباً لجامعة العلوم والتكنولوجيا بمحافظة مأرب في العام 2006م والإقبال الشديد على الدراسة ، كشف كم هي الرغبة الجامحة لدى أبناء قبائل مأرب من الجنسين والقناعات الحقيقية المتوفرة لديهم في نيل مؤهلات أكاديمية عليا.
ووفقاً للإحصائيات الرسمية التي حصلنا عليها فإن هناك (2650) طالباً وطالبة التحقوا بكلية التربية والآداب والعلوم خلال العامين الماضيين من عمر الكلية، بالإضافة إلى (317) طالباً وطالبة يواصلون تعليمهم عبر مكتب جامعة العلوم والتكنولوجيا، وانطلاقاً من كون العدد يبدو متواضعاً مقارنة بمحافظات أخرى، فلابد أن نشير إلى أن هناك عدد كبير من أبناء قبائل مأرب لا يزالوا محرومين من مواصلة تعليمهم الجامعي بسبب الثارات والآثار السلبية التي ترتبت على النزاعات القبلية، كما أن هناك الكثير من الدارسين في تلك الكليات يتوقعون مغادرة الساحات الأكاديمية في أي لحظة ومن الصعب تحديد موعدها، وقد تحول الثارات القبلية دون وصولهم إليها وبالتالي انهيار مشروعهم الطموح وحرمانهم من تحقيق أحلامهم في الحصول على (الشهادات الجامعية).. وليس من السهل قيامهم بتجاوز الحواجز وكسر القيود المفروضة عليهم عبر انطلاقة أخرى لمواصلة تعليمهم الجامعي في محافظات أخرى قد تكون صعوبة الظروف الاقتصادية ومحدودية الدخل لدى أبناء تلك القبائل عاملاً مهماً في ذلك، غير أنها تصير أمراً ثانوياً إذا ما أدركنا أن حياة ذلك الطالب صار يحدق بها خطر الموت من كل جانب وأن (رصاصة) واحدة كفيلة بالقضاء على مستقبله ؛ حيث أن هناك من يرقب عن كثب ويعمل بحرص متناهي للظفر بصيد ثمين يضمن له مباركة وإعجاب قبيلته ويعمق من جراح الخصوم الأمر الذي يضع الطلاب الجامعيين هدفاً لفوهات البنادق وأعيرة (الثأر) النارية!!
تؤكد المعلومات التي حصلنا عليها أن هناك عدداً من طلاب كليات مأرب الجامعية المختلفة من قبائل متعدده غادروا هذا العام قاعات الدراسة متجهين نحو(إقامة جبرية) وعزلة مريرة في قراهم ومديرياتهم بسبب الثأر والنزاعات القبلية المقيتة قد لا تخلو من لحظات ندم تصحبها مشاعر غاضبة على ذلك المجتمع الظالم الذي حال دونهم وطموحهم وحول أحلامهم الوردية إلى سراب.
وتكشف تلك المعلومات أن هناك مجاميع طلابية في كليات مأرب الجامعية يواصلون دراستهم في ظل ترقب وحذر شديد تحسباً لانفجار نزاعاتهم القبلية في أية لحظة ، وقد ولدت تلك التخوفات الكامنة في نفوسهم قلقاً شديداً ساهم في تشكيل عوامل نفسية، ما من شك في أنها ستؤثر على تحصيلهم العلمي .. ومن لم يعايش ذلك الأمر فإنه قد يعجز عن إدراك حجم خيبة الأمل والمأساة الكبرى التي يواجهها الطالب الجامعي في مثل تلك الظروف ، بل إن المأساة تعظم حينما يجد الطالب نفسه في فترة الاختبارات النصفية أو النهائية من العام الدراسي محروماً وموقوفاً بحكم قبلي يجبره على عدم مغادرة قريته بعد انتهاء فترة الصلح وتجدد نزاعات قبليته مع القبائل المناوئة
يصف أحد المراقبين للدراسة الجامعية في مأرب وضع الطلاب الذين يعانون من النزاعات القبلية أن هناك عدد من الطلاب حرموا من عام دراسي كامل بعد انتهاء فترة الصلح مع بداية اليوم الأول للإمتحانات ، وفي يوم ما ساهمت شائعة في الكلية عن اعتداء طال منشأة لأحد القبائل خلقت جو من القلق في القاعات لدى طلاب القبيلة المعتدية ، طلاب من قبائل عديدة لا يأتون للكلية على سياراتهم الخاصة للتموية على من يترصدون لهم الطرف الآخر للنزاع مع قبيلتهم ويضطروا للتنقل من سيارة إلى أخرى برغم المسافات البعيدة مما يحرمهم محاضرات ودروس نظرية وتطبيقية بشكل متكرر.
أما الطلاب من أبناء مديريات مأرب المتباعدة لا يستطيعون السكن في المدينة لأن الأمان بالنسبة لهم غير متوفر وقد تنفجر نزاعاتهم في أية لحظة .
لا أحد يمكن أن يجحد أن الكليات الجامعية ساهمت في إيجاد جو من الألفة والمحبة وعززت من روابط الأخوة بين زملاء الدراسة من أبناء القبائل المتنازعة وذلك الوضع بحاجة إلى رفد وتعزيز ذلك الجانب الإيجابي .
... فصل آخر من فصول سيناريو سلبية النزاعات القبلية ولعنة الثار قد نكون غير منصفين إذا ما قررنا تجاوزه ، ومع كل فصل تتكرر ذات المشاهد الموجعة.
فمأساة الحرمان من التعليم الجامعي لا تقتصر على الذكور من أبناء تلك القبائل بل أن تأثيرات النزاعات القبلية تصيب(تعليم الفتاة) في مقتل، وإذا ما علمنا أن هناك حوالي( 450 ) طالبة في كلية التربية والآداب والعلوم و(60) أخريات في فرع جامعة العلوم والتكنولوجيا .. فينبغي ألا نغفل حقيقة أن شبح الثار المخيف قد يحول أحلام الطالبات في الحصول على مؤهلات جامعية إلى كوابيس مزعجة بعد أن وجدن أنفسهن في إطار مجتمع أوصد جميع الأبواب أمام أفراده باستثناء باب واحد هو – باب الخوف – المفتوح على مصراعيه لاستقبال المزيد من المآسي والآلام والتي يزيدها قتامة شيوع ثقافة الحقد والكراهية والضغينة!! صحيح أن أولياء أمور الطالبات الجامعيات في مأرب قد لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام هكذا وضع، وقد يبحثون عن وسائل يمكن وصفها بالسهل الممتنع، غير أن أحداً لن يشعر بالأمان على (فلذة كبده) على اعتبار أن الذهاب إلى الجامعة في فترة نزاع قائم مغامرة غير محسوبة العواقب، ناهيكم عن عدم قدرتها على التنصل من مهامها في توفير الغذاء وإعداد المؤن لأفراد القبيلة أثناء فترة النزاعات ، غير أن التخلص من ذلك يبدو لي سهلاً في حال غيّر المجتمع نظرته تجاه تعليم الفتاة ووضع ضمن أجندته أهمية التعليم.
ثمة ما يشير إلى أن مصيراً مجهولاً ومستقبلاً غامضاً يلف قضية استمرار طلاب وطالبات كليات مأرب الجامعية، ومعاهدها المهنية والصحية المتخصصة خصوصاً تلك التي تقع في محيط مدينة مأرب في ظل الأجواء المكهربة التي أفرزها واقع مرير، وضع التعليم الجامعي ومواصلة طلاب قبائل مأرب تأهيلهم الأكاديمي على كف عفريت نتيجة تفاقم النزاعات القبلية، وانتشار الثارات بين القبائل وعدم التوصل إلى حلول إيجابية في هذا الجانب والتي تمثل خطراً حقيقياً وتهديداً مستمراً لا يكف هاجسه عن زيارة مخيلات الطلاب بين الفنية والأخرى، ولا ننسى هنا أن نشير إلى إدارات الكليات الجامعية والمعاهد المتخصصة وهيئات التدريس فيها والتي ينطبق عليها ما ينطبق على الطلاب .
... وأمام ما عرضناه فإننا نجد أنفسنا ملزمين بتوجيه دعوة صادقة إلى كافة عقلاء مأرب ومشائخها القبلية وشخصياتها الاجتماعية وقياداتها الحزبية والجماهيرية و قيادات السلطة المحلية والأجهزة الأمنية لتكثيف جهودهم نحو إبعاد الطلاب عن النزاعات القبلية بما يكفل لهم مواصلة مشوارهم التعليمي انطلاقاً من قدسية العلم وطلابه ومدرسيه، واعتبار ساحات التعليم وممتلكات الصروح الجامعية لها حرمتها يطال أي معتدي العقاب الذي يجب الاتفاق عليه قبلياً ورسمياً كونها جريمة كبرى، وذلك من أجل إتاحة الفرصة أمام أجيالنا للحصول على تأهيل علمي وأكاديمي في ظروف آمنة وأجواءها هادئة يرتفع فيها صوت العلم وتختفي أصوات الرصاص وما لم نحرص على تحقيق نتائج إيجابية في هذا الجانب فإن أي أحاديث قد تصدر من هنا أو هناك عن التنمية والنهوض بالمحافظة لا تعدو عن كونها أحاديث للاستهلاك الإعلامي وتضييع للوقت!!
... على المدى الطويل من شأن مبادرة جمعية المستقبل للتنمية والسلم الاجتماعي بمحافظة مأرب بخصوص النأي بالطلاب عن الثأرات و التي بدأت مرحلتها التمهيدية أن تضع حداً للانعكاسات السلبية للنزاعات القبلية على مستقبل التعليم وطلاب الجامعات طمعاً في الوصول إلى تجريم المساس بالطلاب وتهجير الحرم الجامعي، .. في المدى القصير من شأن حملة إعلامية توعوية أن تؤدي إلى تشكيل رأي عام في أوساط القبائل المتنازعة يساهم في إنجاح تلك المبادرة وإخراجها إلى حيز التنفيذ ، غير أن الأسوأ هو الانتظار!! في نظر الطلاب و المهتمين بالعملية التعليمية
ولعل القول أسوأ من الفعل في هذا المجال ؛ غير أن لمأرب وقبائلها سجل حافل بالتعاطي إيجابياً مع ما يخدم المصلحة العامة والذي ينبع من العادات والتقاليد وصفات الشهامة والتسامح التي يتسمون بها، ويمكن لجمعية المستقبل أن تجعل أبناء مأرب يفهمون أن في التعليم قوتهم الحقيقية ومستقبل أجيالهم الزاهر وأنهم من سيرسمون ملامح ذلك المستقبل.
في الخميس 07 مايو 2009 07:34:58 م