خيط الدخان
بقلم/ علي سالم بن يحيى
نشر منذ: 5 سنوات و 5 أيام
الأحد 22 ديسمبر-كانون الأول 2019 08:57 م
 

يبدو المشهد السياسي الجنوبي بين مد وجزر تتقاذفه الأمواج العاتية يمنة ويسرة، وفي صراع غريب، وبين ذا وذاك مازالت الاختلافات العميقة سائدة كحال جنوبي بحت، تنفذه زعاماته بكل امتياز.
يقف المواطن الجنوبي مشدوهاً، وهو يرى تلك التباينات والخلافات، ومع ذلك يواصل الهتافات، ولم يسمح لنفسه الوقوف ولو لمرة واحدة، للتفكير مليٌا حيال قادته وزعاماته، والمناضلين الجدد، وإلى أين يقودون بوصلة أحلامه، وثبت أن كثيرين منهم امتطوا (الحصان) لتحقيق مصالحهم المريضة على حساب جثث ودماء الأبرياء، ومن لبس (قميص عثمان) كفرصة مواتية لركوب الموجة ورفع علم الجنوب عالياً كـ (نفاق) عالي الجودة، وفي قلبه عداء وضغينة! وهناك من كان صادقاً وقتله الواقع الجنوبي المرير، ومنهم مازال يشدو ويتغنى..!.
عندما انتهت حرب صيف 94 بانتصار نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وهزيمة نائبه علي سالم البيض ومشروعه، تم استبعاد الجنوب من طرف المعادلة السياسية، وأفرزت الحرب نتائج كارثية على الجنوبيين، وأرادت السلطة تحويل الجنوب إلى جغرافيا بلا ناس ولا تاريخ، فتم إقصاء العسكريين والمدنيين، وطال التهميش كل شيء جنوبي إلا من بقي عازفا ومطبلاً بحياة (الزعيم)!.
انتظر الجنوب على مضض، كي يظهر من يعيد له الأمل باستعادة دولته، أو حتى رفع الضيم عنه، فلم يسمع صوت المنادين - بعد الحرب مباشرة- بفكرة إزالة آثار الحرب وإصلاح مسار الوحدة (محمد حيدرة مسدوس، حسن باعوم، وعبد الرحمن الوالي).
بينما الليل الطويل يجثم على دعاة التحرر جنوبياً، يبزغ صوت حركة (موج) من لندن، برئاسة السيد عبد الرحمن الجفري، في شهر نوفمبر 1994م، حينها تثاءب من به خمول وكسل، وتفاءل من كسر ظهره، وفي خضم ذلك بدأت حركات احتجاج في الضالع، ومعارضة ومسيرات مناهضة للنظام الحاكم في المكلا (96/ 97/ 1998م) هزت بنيانه وجبروته وسلطانه بفعل التنسيق بين أحزاب المعارضة وهيئاته (الاشتراكي، الرابطة، والتجمع الوحدوي اليمني)، برز السيد عبد الرحمن الجفري، كبطل قومي، وزعيم يتغنى به دعاة التحرر، لدرجة إنني اعتبرته من سيخلص الجنوب من كارثته وسينتشله من بوابة (باب اليمن)، ويعيد الرسمة والبسمة على الشفاه الجنوبية المتعطشة للفرحة في وطنه مجدداً، لكن الحلم لم يستمر طويلاً، إذ تحول إلى كابوس، بمجرد دعوة من الرئيس صالح، لطي صفحات الماضي والبدء بصفحة جديدة، والإيعاز إلى حزب الرابطة بلعب دور سياسي ومحوري، أو بصريح العبارة (احتلال) مكان الاشتراكي في السلطة، تمت الهرولة سريعاً، ومعها الانتكاسة، ولم ينل الرابطي بلح السلطة، ولا عنب المصالحة، فتفرقت أيادي المعارضة، وانتهت صورة من يعيد للجنوب كيانه!.
كان أخي وصديقي الثابت ناصر ثابت العولقي- رحمه الله- متفائلا، ويؤكد أن الأمل قادما، فبقي (الزعيم) حسن باعوم مقاوماً، مناضلاً، نبراساً، فرفعت صوره، وهتفت الجماهير بحياته، وأجلسته على أريكة المجد والسؤدد لسنوات، ثم يأتي الخلاف الجنوبي على الزعامة والبطولة وتعدد الأهداف والغايات، فتنتكس الصورة، ليجري البحث عن أخرى في زمن الشتات والقحط والبحث عن زعامات، وكم كان ذلك الباحث صادقاً عندما اخبرني أن الجنوب بتاريخه كان فقيراً في فرز قيادات سياسية يتكىء عليها، إذ لم تتجاوز ثلاث شخصيات فقط، بحسب وصفه ودرايته، منهم من قضى نحبه، بفعل دورة الدم الجنوبية.
ظهر التجمع الديمقراطي الجنوبي (تاج) في لندن عام 2004م و امتد نشاطه بسرعة فائقة إلى الداخل، وتمكن من إحياء القضية في الخارج بعد غياب (موج).
تبوأ السفير السابق أحمد عبدالله الحسني، مكاناً مرموقاً جعلته زعيما وملهماً، وما أن زار عدن في 2012 حتى خرج بخيبة أمل وخذلان واتهامات من قيادات جنوبية، ويبدو أن الرجل صدم من الواقع الجنوبي المرير, لذا أبعد نفسه تماماً عن المشهد السياسي كمن مات كمدا وقهراً!.
أتت دعوة السيد الرئيس علي ناصر محمد، لطي صفحات الماضي الجنوبي، ورفع شعار التسامح والتصالح فتم التجاوب معها سريعاً، فدشنت جمعية أبناء ردفان (يناير 2006م) في عدن بدايتها العلنية التي تم إغلاقها بالقوة العسكرية، وامتداداً لذلك نظمت فعاليات عدة على امتداد محافظات الجنوب، وتصدًر (أبو جمال) واجهة المشهد بعقلانيته ورؤيته الواضحة، تلك السيطرة لم تدم طويلاً، عندما دعا لعقد أول مؤتمر جنوبي، في القاهرة (20/22 نوفمبر 2011م)، لمناقشة الرؤية السياسية لحل القضية الجنوبية، ومن أجل الوصول إلى حق أبناء الجنوب في تقرير مصيرهم، خرج المؤتمر بمشروع قائم على أساس الفيدرالية بين الشمال والجنوب لمدة خمس سنوات، ثم إجراء استفتاء شعبي لأبناء الجنوب لتحديد موقفهم من الوحدة اليمنية، فتعرض الرئيس – حينها- لسهام الاتهامات، وقنابل الخيانة من تيار المناداة بفك الارتباط، أبعدته حتى عن السماح له بقول رأيه في مستقبل الجنوب، وأكمل ذلك موقفه من الحرب مع جماعة الحوثي، وتأكيده على أن الحسم العسكري لن يكن حلاً، فقيل عنه: "لم يكن ناصراً ولا عليًاً!.
تداعى بعض العسكريين والمدنيين للمطالبة بحقوقهم القانونية، وأسسوا جمعية المتقاعدين العسكريين والمدنيين الجنوبيين في عدن العام 2006، ومن ثم في بقية المحافظات الجنوبية، للمطالبة بحقوقهم القانونية، وكان لها الدور الرئيسي والريادي في ظهور الحراك السلمي الجنوبي، وبزغ نجم العميد المتقاعد ناصر علي النوبه، كمؤسس للحراك الجنوبي، وترفع صوره عالياً وتهتف الجماهير باسمه، ومع مرور الأيام تتهاوى تلك الشعبية لتصل لحد تخوين الرجل وإنزاله قسرياً من سارية العلم, عندما أتخذ العميد المتقاعد قراراً بالذهاب إلى صنعاء للقاء الرئيس هادي في خطوة مفاجئة وغير متوقعة في شهر يونيو 2014، وتأكيداً على موافقته لما تمخض عنه مؤتمر الحوار الوطني من حلول ومعالجات للقضية الجنوبية ضمن إطار الدولة الاتحادية والتخلي عن فكرة فك الارتباط، ومنها انطلق العميد نحو السلطة وتعيينه في مراكز قيادية عسكرية منها: قائداً لمحور عتق، واللواء 30 مشاة، وقائداً لقوات الشرطة العسكرية في الجمهورية، وفي عدن، ثم مستشاراً لوزير الدفاع.
جاء تيار الرئيس علي سالم البيض (فك الارتباط) الذي مثلت عودته إلى معترك الحياة السياسية بعد ما يزيد عن 13 عاماً من دخوله عزلة اختيارية لزم خلالها الصمت في منفاه بسلطنة عمان بنهاية حرب 1994م، دفعة قوية للمحتجين الجنوبيين الذين يتزايد عددهم يومياً، وأطل البيض على مشاهدي قناة "عدن" فجر الثلاثاء، 21 مايو 2009م عبر مؤتمر صحفي عقده في ميونيخ بألمانيا، مواكباً لاحتفالات الذكرى الـ19 لإعلان الوحدة اليمنية، مجدداً دعوته المعلنة في 21 مايو 1994م، بفك الارتباط عن الشمال، فارتكزت صورته على سارية الأمل الجنوبي، وصار (معبود) الجماهير، ووصف بالملهم ورئيس الجنوب الشرعي.
شهدت عودة البيض تجاذبات وصراعات بين القيادات التاريخية للجنوب، وتوزعت التيارات و (الحراكات)، وتعددت المفاهيم والحلول المنطقية للقضية الجنوبية. حينها كتبت في صحيفة "الأمناء" شهر فبراير 2010 ، مقالاً بعنوان: "البيض يهزم الجنوب 3/صفر، وعددت تلك الأهداف في دخوله وحدة اندماجية مع الشمال في غمضة عين، تاه وضاع خلالها الجنوب، ثم جاء الهدف الثاني بإعلانه الانفصال، وهو لا يملك قراره ومقوماته وهروبه مع كبار المسئولين، وترك الجنوب يرزح تحت وطأة المعاناة والإذلال، ثم أحرز الهدف الثالث في شباك الجنوب المتخم بالجراح بظهوره بعد فترة عزلة طويلة ورغم الفرح العارم بتلك العودة، إلا إنها جلبت معها عودة للتجاذبات والانقسامات وتعددت مكونات الحراك، والشعب من يضحي ويدفع ثمن الفاتورة غالياً بدمه وحياته.
تهاوت صور حسن باعوم، عبد الرحمن الجفري، أحمد عبدالله الحسني، الرئيس علي ناصر محمد، المهندس حيدر العطاس، محمد علي أحمد، سعيد شحتور، العميد ناصر النوبه، والرئيس علي سالم البيض تباعاً، وبمجرد تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي في 4 مايو 2017 برئاسة عيدروس الزبيدي، هيمن على وجدان الجماهير الجنوبية المنادية بفك الارتباط، وهتفت باسمه ليل نهار - حتى في المنام- سعياً لتحقيق مطالب الشعب المغلوب على أمره، واستعادة دولته الجنوبية المستقلة.
حريا بي القول هنا إنني شككت في نوايا هذا المجلس وقدرته على تحقيق آمال وتطلعات الجنوبيين، بيد أن غالبية قيادته وأنصاره هم من بقايا وفلول نظام صالح السابق، ومجاميع كبيرة تلهث خلف المصالح، وطمعاً في جاه أو تحسين وضع معيشي. وكتبت تعليقاً مفاده: هل يصدق هؤلاء ثلة المنتفعين الانتقاليين أنهم سيأتون بدولة الجنوب؟! وهل يصدق هؤلاء أن حب الجنوب يجري مجرى الدم؟!
مساحيق التجميل ستذوب طال يوماً أو قصر، ولك الله يا شعب الجنوب!!!.
وفي أول اختبار حقيقي لمدى قوة ومتانة وصلابة أهداف المجلس مع حبل القضية الجنوبية، رأينا تلك القوة تتلاشى وتوهن، من خلال اتفاق الرياض في 5 نوفمبر 2019 بين الحكومة والمجلس الانتقالي للتسوية بين الطرفين وقبوله بالمشاركة في حكومة كفاءات مناصفة بين الشمال والجنوب، قوامها 24 وزيراً، ودمج القوات العسكرية والأمنية بما فيها التابعة للمجلس ضمن قوام وزارتي الدفاع والداخلية! وهم من حلفوا بأغلظ الإيمان بعدم عودة حكومة الشرعية إلى عدن، وجراء ذلك سألت الدماء.
وعلى الرغم من مرور أكثر من شهر على ذلك الاتفاق دون تنفيذ بنوده، إلا أن المجلس قد سار على مبدأ (التطبيع) كمصطلح أهون من (البيع)، وياما في الجراب يا حاوي!.
من خلال ذلك العرض الموجز نجد أن الجنوبيين يلهثون خلف القادة والزعماء ثم يتهاوون، ويعود الشعب المسكين بحثاً عن ترياق أمل، مع إدراكه جيداً إنه لا خير في تجريب المجرب، لكنها العاطفة الجنوبية المدمرة.
اقسم لي صديق عزيز انه كان في حوار مع أحد القادة، وقالها حرفياً: "نعم نحن نبيع الوهم لهذا الشعب"! في إشارة لخيط الدخان الذي تغنى به العندليب الأسمر في رائعته (قارئة الفنجان): "وسترجع يوماً يا ولدي مهزوماً مكسور الوجدان، وستعرف بعد رحيل العمر إنك كنت تطارد خيط دخان". أو كما قال الأستاذ الأديب عبد العزيز بن بريك في إحدى تجلياته:
" لم أكن يوماً أسير الحقيقة الغائبة، تلك كانت سيرورة البقاء خلف أسوار الكذبة الرائعة!.
ولك الله يا شعب الجنوب.