هل انتهى زمن الكُتّاب؟ الذكاء الاصطناعي وتحدي الإبداع البشري
بقلم/ صهيب المياحي
نشر منذ: 6 ساعات و 43 دقيقة
السبت 08 فبراير-شباط 2025 05:19 م
 

كان الكُتّاب يومًا ما أنبياء اللغة، يحتكرون الوحي، يقطّرون المعنى من الغيب، ويمشون بين الناس ككائنات فوقية، تنبض بالحرف قبل أن ينطقه الآخرون. كانوا الآلهة الصغار في معابد الأدب، يُحدّدون من يحق له الدخول، ومن يُنفى إلى العدم. ثم جاءت الطباعة، وارتجف النسّاخون، ثم جاء الراديو، فخاف الشعراء، ثم جاءت السينما، فارتبك الروائيون، والآن جاء الذكاء الاصطناعي، وعاد السؤال الأبدي: هل ما زال للكاتب مكان؟

 

في القرن الخامس عشر، عندما اخترع يوهانس غوتنبرغ المطبعة، ظنّ النسّاخ أن زمنهم قد انتهى، وأن الكتب المطبوعة ستُفسد قداسة الكلمة المكتوبة. قبل ذلك، كان كل مخطوط يُنسخ يدويًا، وكان لكل حرف طقوسه، ولكل جملة قدسيتها. لكن الطباعة لم تُنهِ الأدب، بل أطلقت ثورته الحقيقية، وبدلًا من أن تبقى الكتب حكرًا على القلّة، أصبحت مفتوحة للجميع، وتحولت الكتابة إلى سلاح قادر على تغيير مصائر الشعوب.

 

وفي القرن التاسع عشر، عندما وُلدت الكاميرا، ارتعب الرسامون. كانت اللوحات تُخلّد الملوك والنبلاء، وكان الفنّانون وحدهم من يملكون القدرة على تثبيت الزمن داخل إطار. فجأة، جاءت آلة تلتقط الصورة بلحظة واحدة، وأصبح الواقع يُحاكى دون الحاجة إلى يد بشرية. لكن الفن لم يمت، بل وُلدت التكعيبية، والتعبيرية، والانطباعية، كرد فعل على الكاميرا، ليقول الفنانون: لسنا هنا لننقل ما تراه العين، بل ما يراه القلب.

 

وفي القرن العشرين، عندما بدأ الراديو في الانتشار، تردد السؤال نفسه. كان الشعر يُتلى في الساحات، وكانت الكلمة المنطوقة تمتلك سحرها الذي لا يُضاهى. لكن فجأة، أصبح الصوت متاحًا للجميع، وصارت الأغاني والموسيقى والبرامج الإذاعية تملأ الأثير. اعتقد البعض أن الشعر سيندثر، لكنه وجد طريقه إلى الأغنية، إلى المسرح، إلى السينما، واستمر في التحوّل والتكيف مع الزمن.

 

ثم جاءت السينما، وارتجف الروائيون. كيف يمكن للكلمة أن تصمد أمام الصورة المتحركة؟ لماذا نقرأ رواية طويلة إذا كان بإمكاننا مشاهدتها خلال ساعتين؟ لكن الرواية لم تمت، بل ازدادت عمقًا وتعقيدًا، وصارت السينما نفسها تقتات على الأدب، تستلهمه، وتعتمد عليه، وتعيد خلقه بطرق لم يكن يتخيلها أحد.

 

والآن، جاء الذكاء الاصطناعي، وانطلقت المخاوف القديمة بحلّة جديدة. فجأة، أصبح بإمكان آلة أن تكتب قصيدة، أو مقالًا، أو حتى رواية. لم يعد الكاتب وحده من يمتلك الخيط الذي يربط الفكرة بالكلمة. لكن الحقيقة أن الذكاء الاصطناعي ليس أكثر من أداة، مثل المطبعة، مثل الكاميرا، مثل الراديو والسينما. يستطيع أن يحاكي اللغة، لكنه لا يستطيع أن يشعر بها. يمكنه أن يُنتج نصوصًا، لكنه لا يعرف طعم الانتصار بعد جملة مُتقنة، ولا يحسّ بالهزيمة أمام فراغ الصفحة البيضاء. لا يكتب بيدٍ مرتعشة من الخوف، أو بقلبٍ يضخّ الدهشة في كل سطر. الآلة تُعيد إنتاج النصوص، لكنها لا تعيشها.

 

الخوف من التكنولوجيا ليس خوفًا من زوال الفن، بل من زوال السلطة التي كانت تُحيط بهالة حوله. الكاتب الذي يخشى الذكاء الاصطناعي ليس خائفًا على الإبداع، بل على مكانته كوسيط بين المعنى والقارئ. لكنه نسي أن الكاتب الحقيقي لم يكن يومًا كاتبًا بالكلمات فقط، بل بالفكرة، بالرؤية، بالإحساس الذي لا تستطيع خوارزميات العالم كله استنساخه.

 

في كل عصر، حاولت التكنولوجيا أن تحيط بالفن، لكنها لم تستطع أن تبتلعه. لأن الكتابة، مثل أي إبداع، ليست مجرد فعل، بل غريزة، نجاة، بقاء. الكاتب الحقيقي لا يكتب ليكون كاتبًا، بل يكتب لأنه لا يستطيع أن يكون غير ذلك. ولهذا، سيظل الكاتب منتصرًا، ليس لأنه الأقوى، بل لأنه الأعمق، لأنه الوحيد الذي يرى في الكلمات أكثر من مجرد حروف، بل حياة كاملة تنبض بين السطور.