Counter - Revolutionary
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 17 سنة و 6 أشهر و 9 أيام
الجمعة 15 يونيو-حزيران 2007 08:47 م

سُئل أحد كبار السياسيين الغربيين قبل أكثر من خمسين عاماً عن الغرض من إطلاق وسائل إعلام غربية موجهة إلى العالم العربي فقال بالحرف الواحد: to be counter- revolutionary كي تحبط ظهور أي ثورات داخلية ضد الأنظمة العربية القائمة. بعبارة أخرى فإن وسائل الإعلام الغربية التي استهدفت منطقتنا منذ الثلث الأول من القرن الماضي وحتى الآن كان هدفها الأول الحفاظ على الأنظمة وتجميلها وتكريس الأوضاع العربية المتردية أي تلك التي تمخضت عن الرسم الاستعماري للوطن العربي وخاصة اتفاقية سايكس - بيكو سيئة الصيت وذلك عن طريق ترويض الشعب العربي بالأساليب الخطيرة التي ابتكرها الإعلام الغربي للتحكم بالأمم والمجتمعات. ومخطئ تماماً من يظن أن أجهزة الإعلام الغربية كانت تسعى لإزعاج الحكومات العربية وزعزعتها بالرغم من محاولتها إيهام الشعوب بأنها محايدة ومزعجة للحكام. لقد كانت تلك الأجهزة وما زالت أكبر داعم لأنظمتنا حتى الآن. ولعل أنصع دليل على ذلك أن الإذاعات وحتى التلفزيونات الغربية الموجهة إلى العرب فقدت شعبيتها إلى حد كبير منذ ظهور وسائل إعلام عربية جريئة سحبت البساط تماماً من تحت أقدام أعرق وأشهر الإذاعات الغربية.

لقد كانت إذاعة إسرائيل على مدى أعوام تحظى بشعبية كبرى في أوساط ملايين العرب لمجرد أنها كانت تذيع أخباراً خجولة جداً عن الأوضاع في بعض الدول العربية لا تسمح ببثها الإذاعات المحلية العربية. واشتهرت إذاعات غربية كثيرة في الأوساط العربية أيضاً لمجرد أنها كانت تكشف بعض الأمور البسيطة جداً بمقاييس اليوم. لكن سياساتها الإعلامية القديمة القائمة على دغدغة مشاعر الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج من خلال انتقادات خفيفة وملطـّفة للأنظمة العربية الحاكمة لم تعد تؤتي أوكلها منذ انطلاق ما يمكن أن نسميه "الثورة الإعلامية العربية الحديثة" التي جاءت لتفضح الأدوار التي كانت تلعبها الإذاعات الأجنبية الموجهة إلى البلدان العربية. وقد يجادل البعض بأن الإذاعات الغربية لم تفقد بريقها لأن سياساتها التخديرية قد انكشفت بل لأن الإنسان العربي تحول من الإذاعة إلى القنوات الفضائية. وهذا كلام مردود عليه. فقد ظن الإسرائيليون مثلاً أن بإمكانهم ركوب موجة البث الفضائي كي ينافسوا القنوات العربية فأطلقوا فضائية تبث باللغة العربية لعلهم يستردون مجدهم الإذاعي الغابر، فخاب رجاؤهم شر خيبة.

لم تستطع الفضائية الإسرائيلية الصمود في الفضاء الإعلامي المفتوح سوى بضعة أشهر أو أكثر قليلاً، أولاً لأن المشاهد العربي قد أصبح أذكى بكثير من أن تخدعه ببضعة برامج دعائية للسياسات الإسرائيلية وثانياً لأن الوقت قد تغير تماماً بحيث لم تعد وسائل الإعلام الأجنبية قادرة على كسب قلوب المشاهدين العرب وتحقيق المصداقية لمجرد أنها توجه بعض الانتقادات البسيطة لأنظمة الحكم العربية. بعبارة أخرى لم يعد بإمكان الوسائل الغربية أن تخدعنا بعدائها المزعوم للأنظمة العربية أو أن تنافس مثيلاتها العربية التي انبرت تشـّرح الواقع العربي وتفضحه بلغة ليس فيها أي لبس أو مواربه كما كانت تفعل الإذاعات الغربية الموجهة. لقد كان هم الإعلام الإسرائيلي المفترض أنه معاد للحكومات العربية حماية الكثير من الأنظمة وتخدير شعوبها إما بالأغاني العاطفية أو الأفلام الإباحية وكأنه داخل في تحالف وثيق مع إعلام تلك الأنظمة. وقد كانت حملاته الإعلامية تركز أحياناً على الحرب النفسية في وقت الحروب لا أكثر ولا أقل. أما في أعماق أعماقه فقد كان ذلك الإعلام الإسرائيلي مستميتاً في إبقاء الأوضاع العربية على حالها في الدول العربية التي يصلها بثه. والدليل على ذلك أن الفضائية الإسرائيلية لم تحاول فتح أي ملفات عربية مهمة عندما بدأت بثها. فلم تتناول مثلاً مسألة الديموقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان والتخلف الاقتصادي والهموم الحقيقية التي تقض مضاجع الإنسان العربي وتؤرقه ولم تزعج أي نظام عربي. لهذا السبب لم يلتفت المشاهد العربي إليها ولم يعرها أي اهتمام مما جعلها تخرج من السباق الفضائي مهزومة بسرعة قياسية وكأنه يقول لها:"إلعبي غيرها!".

وكما يقولون: "العاقل من اتعظ بغيره والأحمق من اتعظ بنفسه". لكن على ما يبدو هناك جهات لم تسمع بذلك القول فركبت رأسها وأطلقت قنوات موجهة إلى العالم العربي بالرغم من أنها شهدت بأم عينها كيف انهار المشروع الفضائي الإسرائيلي. والمضحك في الأمر أن بعض القنوات الأجنبية التي تبث باللغة العربية لم تتعلم من التجربة الإسرائيلية فراحت تجتر نفس الأساليب الإعلامية الدعائية المفضوحة متناسية أن المشاهدين العرب باتوا يميزون بسهولة فائقة بين الغث والسمين ويعرفون من يريد مصلحتهم ومن يريد الحفاظ على مصالح ومناصب حكامهم الذين أوصلوهم إلى الحضيض الأرذل. لا تغترن ببعض البرامج الناقدة لهذا النظام العربي أو ذاك في هذه الفضائية الغربية الناطقة بالعربية أو تلك، فهي لمجرد الابتزاز الرخيص للحصول على بعض التنازلات لا أكثر ولا أقل وأن آخر ما يهمها هي مصلحة المشاهد العربي الذي ظن (وبعض الظن إثم) أن القنوات الغربية الجديدة ستعالج مشاكله الحقيقية كالحكم الصالح والحرية والتخلف والفساد والفقر. إن المراقب لبرامج بعض القنوات الغربية التي تبث بالعربية يرى أن انتقاداتها لبعض الأنظمة العربية لا تتجاوز القضايا السياسية العامة كأن تشن هجوماً على بلد عربي يتعنت في التطبيع مع إسرائيل ويمانع في تحقيق السلام المطروح أمريكياً. أما عندما يتعلق الأمر بالقضايا الجوهرية التي تهم المواطن العربي فهي "تفاح محرّم" بالنسبة للفضائيات الغربية. لا أدري لماذا ما زالت بعض وسائل الإعلام الغربية تستغبينا وتتشاطر علينا ببعض الألاعيب المفضوحة والدعايات الفجة لسياساتها الخاصة بالعالم العربي من خلال هذه الفضائية الرديئة أو تلك.

لو كانت بعض القنوات الغربية الجديدة فعلاً تريد التقرب من المشاهد العربي وتكسبه إلى جانبها لفتحت الملفات الحيوية التي تهمه. لكنها لم تفعل أبداً، فلم نر مثلاً ولا برنامجاً قوياً ومؤثراً عن الفساد المستشري في أوساط الأنظمة العربية الحاكمة أو عن الاستبداد المقيت الذي يخنق الفرد العربي من الماء إلى الماء. إن الإنسان المسحوق في هذا الوطن العربي البائس لا يريد أن يرقص ويهتز خلاعة على أنغام أغاني مايكل جاكسون وبريتني سبيرز ولا يريد أن يُضحك عليه ببعض الأخبار السريعة المقتضبة المحبوكة على طريقة غوبلز صاحب مقولة: "اكذبوا ثم اكذبوا لعل شيئاً يعلق في أذهان الجماهير". إنه يريد معالجة جادة وجريئة لأمراضه المزمنة كغياب الديمقراطية والحكم الرشيد والاستئثار بالسلطة والتنفس السياسي والتوزيع العادل للثروة والتقدم العلمي والتخلص من التخلف الاجتماعي. لكن هذه الأمراض هي آخر ما يهم القنوات الغربية التي تخاطبنا هذه الأيام من هذه العاصمة أو تلك. وكأنها تريد أن تقول لنا:" إنني جئت لأكرس هذه الأمراض وأغطي عليها وأداري على أصحابها لا أن أفقأها كما تـُفقأ الدمامل.

كم كان مخزياً ومحزناً في آن معاً أن تقوم إحدى وسائل الإعلام الغربية قبل فترة بطرد إحدى العاملات العربيات فيها والمتزوجة من أحد المعارضين الحقوقيين العرب في اليوم العالمي لحقوق الإنسان. وقد تبين فيما بعد أن الجهاز الإعلامي الغربي الذي تتشدق بلاده بحقوق الإنسان والإصلاح قد عاقب الصحفية بسبب مقابلة أجرتها مع أحد النشطاء العرب حول اكتشاف معتقلات سرية في إحدى الدول العربية وانتهاكات أجهزة الأمن للمعتقلين. والمضحك في الأمر أن النظام العربي الذي عوقبت الصحفية بسببه يعتبر، حسب الزعم الغربي، معادياً لأمريكا وإسرائيل وهو موضوع على لائحة الدول الداعمة للإرهاب ومع ذلك فهو محمي من براثن الإعلام الغربي الموجه عندما يتعلق الأمر ببنيته الاستبدادية وانتهاكاته المريعة لحقوق شعبه. أما إذا قلتم لي إن بعض وسائل الإعلام الغربية الناطقة بالعربية تتناول أحياناً بعض التقارير الصادرة عن منظمة العفو الدولية حول الانتهاكات في هذا البلد العربي أو ذاك فصدقوني إن ذلك أمر موسمي والهدف منه ليس رفع الظلم الواقع على الإنسان العربي بأي حال من الأحوال بل لغاية في نفس يعقوب!!

ومما يفضح النفاق الإعلامي الغربي بشأن الإصلاح والديموقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان في العالم العربي أكثر فأكثر أن هناك في بعض الوسائل الغربية قوائم سوداء تضم العشرات من الصحفيين والناشطيين الحقوقيين العرب يُحظر الاتصال بهم واستضافتهم، وبالمقابل هناك قوائم بيضاء تم وضعها بالتوافق مع بعض السفارات العربية في أوروبا وأمريكا. وتنصح إدارات بعض وسائل الإعلام الغربية الموجهة للعالم العربي باستضافة أسماء بعينها حين يكون الأمر متعلقا بهذا البلد العربي أو ذاك. وفي سياق متصل تتحدث بعض المنظمات العربية للدفاع عن حرية الصحافة والتعبير عن أوضاع مزرية يعيشها بعض الصحفيين العرب في بعض وسائل الإعلام الغربية "الديمقراطية" قاب قوسين حيث يشتكي بعضهم من المعاملة "المهينة والتمييزية" التي يتعرضون لها. ويقول أحد الصحفيين: "عندما عملنا في وسائل إعلام غربية حسدنا أنفسنا لأننا سنعمل في أجهزة تابعة لدول ديمقراطية. وبعد أن كدسنا أكواماً من الوهم فوجئنا بأننا عبيد في إقطاعية ولسنا صحفيين في مؤسسة إعلامية. فبالإضافة للقوائم السوداء التي يحظر علينا الاتصال بها إذا ما اقتضت الضرورة ، والقوائم البيضاء من أزلام الحكومات العربية التي ينصح باستضافتها بشكل مستمر يتعامل معنا مديرونا الغربيون والمتغربون على مبدأ "خيار وفقوس".

لو كانت وسائل الإعلام الغربية الموجهة إلى العالم العربي صادقة فعلاً في إصلاحنا وتطويرنا والنهوض بنا مما نعانيه من تخلف وتأخر وديكتاتورية لفعلت ما كانت تفعله أجهزة الإعلام الغربية التي كانت موجهة للاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية سابقاً حيث لعبت وسيلة إعلامية كإذاعة "أوروبا الحرة" دوراً تحريضياً هائلاً في التحولات الديمقراطية التي شهدتها الكتلة الشرقية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. وقد كانت المواد التي تبثها للأوروبيين الشرقيين مختلفة تماماً عن المواد التي كانت تبثها وسائل الإعلام الغربية الموجهة إلى العالم العربي. فبينما كانت الأولى تدعو إلى التغيير والديموقراطية والتحرر من ربقة النير الشيوعي كانت الثانية تقوم بعملية تخدير مفضوحة للشعوب العربية بحيث لا تحرك ساكناً ضد الأنظمة والأوضاع العربية المهترئة مما يؤكد مقولة السياسي الغربي الذي جئت على ذكره في بداية المقال. ولا ننسى أن الجهود الغربية تتظافر هذه الأيام لإغلاق محطة عربية "إصلاحية" تبث من الغرب.
 

وبما أن اللعبة الإعلامية الغربية فيما يخص وطننا العربي قد انكشفت تماماً فلا بد من إسقاطها من اهتماماتنا وعدم التعويل عليها أبداً. وهذا ما بدأ يفعله المشاهد العربي منذ أعوام، فقد بات يعلق آماله وهو محق على بعض وسائل الإعلام العربية الصادقة والجريئة التي تنشد فعلاً التغيير الحقيقي وليس المزيف والتي تنكأ الجروح والدمامل المتقيحة التي تحاول الأنظمة العربية الحاكمة ومعها رعاتها من أمريكيين وأوروبيين التستر والتعتيم عليها. لا عجب إذن أن الضربات واللكمات تأتي الإعلام العربي الحر هذه الأيام من الحكومات العربية وبعض وسائل إعلام الأنظمة الغربية التي تدّعي الحرية والديموقراطية وتبشرنا بالإصلاح على حد سواء!!