سيد قطب ومفهوم الحاكمية
بقلم/ عبدالله الأمير
نشر منذ: 11 سنة و شهر و 25 يوماً
الخميس 05 سبتمبر-أيلول 2013 06:57 م

عندما أقرأ لسيد قطب ـ رحمه الله ـ أجد نفسي أسبح بين كلماته الملونة بالإبهاج والمثالية.. كما أنني أحلّق في سماء معانيه الإيمانية التي لا تعرف لها قعرًا, وأتوغل في فكره العميق بنفَس ينبض بالدفء والانفعال.. فسيد قطب مدرسة مثالية في الدين كما هو في الأدب والثقافة, فهو الذي لوّن أفكاره بسحر قلمه, كما رفد معانيه بقوة إيمانه. فعندما نتحدث عنه فإننا نتحدث عن المفكر والأديب والمثقف، الذي زود العقل المعاصر بالكثير من الرؤى المثيرة للجدل والخلاف بين مؤيد ومعارض, كما أن البعض يحاول التوفيق ليرسم منها وجهًا واحدًا؛ كون لغة سيد الأدبية ذات طابع انفعالي تصويري قد تُفهم على الوجه الذي لا يراه. وقد اختلف حوله الإخوان أنفسهم، فلم يكن حسن الهضيبي مرشد الإخوان ـ حينها ـ راضيًا عن أفكاره، وشنع عليها في كتابه "دعاة لا قضاة"، وكذلك محمد الغزالي وغيره إلا أن أفكاره وجدت لها صدىً واسعاً لدى جماعة الإخون, وهي تغذيها بالأفكار الحركية إلى اليوم, حتى أنه قد يصح لنا القول بأن سيد قطب كان مرشدًا فكريًّا لجماعة الإخوان، والذي زود الجماعة بالفكر الغليظ ليتحول التنظيم من فكر البنّا الانفتاحي إلى فكر سيد الانعزالي، ومن الأصول العشرين إلى معالم في الطريق.. ويزداد انعزال الجماعة بقدر تلونها بمفهوم الحاكمية المثالي وغير الدقيق.. وهذا ما شعر به الهضيبي ـ رحمه لله ـ وغيره من أفراد الجماعة.

ونحن هنا نحاول تسليط الضوء على مفهوم الحاكمية الذي ترتب عليه تكفير المجتمعات لدى سيد قطب, وسيندهش القارئ عندما يعرف أن مصطلح الحاكمية بهذه البنية مصطلح دخيل على الثقافة الإسلامية وعلى النص الديني.. وهذا ما أكده الأستاذ الهضيبي في كتابه سالف الذكر.. فمن أين جاء به قطب يا ترى؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه قبل الولوج إلى حقيقة مدلوله وأبعاده.. فمن المحتمل أن سيد قد أغراه جرس العبارة عندما قرأها للمودودي، وأخذت نصيبها من اهتمامات سيد الحركية كون اللفظة توحي بقوة وتحكّم فوقي أكثر من أية عبارة أخرى لتسمح له بتمرير أفكاره بهيمنة واسعة النطاق، وخاصة تطبيق الشريعة. أو قد يكون وراء اختيار مصطلح الحاكمية أن مفهوم تطبيق الشريعة أصبح فهمًا مستهلكًا، وأصبح حوله الكثير من المشكلات، فحاول سيد قلب المصطلح والدخول على الفكر السياسي بثوب جديد. وقد يكون سيد قطب ولدها من مفهوم "الحكم لله" الذي رفعته جماعة الخوارج حينها من قوله تعالى: "إنِ الحكم إلا لله..".

أما ماذا يقصد سيد بهذا المصطلح؟، فهو بلا شك لا يريد منه معنى التحكم الكوني والسنني للعالم.. ولا يعني به - أيضًا - الفصل بين العباد يوم القيامة، أو الفصل بين الناس في الدنيا، وإن كان الأخير جزءاً من مراده، فالمقصود لدى سيد قطب من المصطلح هي السلطة والتحكم في الناس وتسييرهم وفق المنهج السماوي في جميع شؤونهم الاقتصادية والسياسية والتعليمية وإرغامهم على ذلك، وأن لا ينازع الله هذا أحد من الناس؛ لأن الحاكمية هي حقيقة التوحيد.. ولابد من وقفه مع سيّد حول مفهومه هذا، وقبل ذلك لابد أن نمر على المصطلح القرآني حول الحكم والأمر، وأين تقترب هذه المصطلحات من مفهوم الحاكمية..

الحكم في القرآن الكريم: يقصد به الفصل بين الخصوم وليس التحكم بهم، ويقصد به - أيضًا - الحكمة، ومن الآيات في المقصد الأول قوله تعالى: "قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)"الأنعام.. وقوله تعالى: "ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ"، وهاتان الآيتان أنموذج لسياق الفصل، ويفهم غيرها على مقصودها، حيث لا توجد قرينة سياقية تدل على غير ذلك. وأما المقصد الثاني قوله تعالى: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا"مريم..أي الحكمة.

أما الأمر: فالمقصود به من تأمّر على الناس من رؤساء القبائل وغيرهم، وهؤلاء طاعتهم فيما اجتهدوا فيه من الفصل بين الناس واجب، وعند التنازع معهم على أمر من الأمور يتم رده إلى الله والرسول، والرد هنا لا يمكن أن يُرد إلى نص محتمل، فإن الخلاف لا يرفع بالخلاف، أو لا يرجع في المختلف إلى شيء قد يختلف عليه الناس.. ومن هذا يُفهم أن المقصود بالرد هو الرد إلا ما لا يمكن الخلاف حوله من نص ظاهر الدلالة أو مقصد من مقاصد الشريعة ومبادئها.. ومن ذلك قوله تعالى في طاعة أولي الأمر: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ" – النساء..

ولابد من التأكيد على أن النبي كان يحكم بين الناس ولا يحكمهم، بمعنى أنه يجبرهم على التحاكم إليه.. والآيات في رفض تحاكم المنافقين وأهل الكتاب واضحة, فهو نبي ليس بالجبار ولا المسيطر، وهذا ما يختلف به النبي عن الملوك "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)"النساء.. فما كان من النبي إلا الإعراض عنهم ووعظهم.. وقوله تعالى في أهل الكتاب: "فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)" - المائدة.

ولنا أن نقول بعد كل ذلك: إن مفهوم الحاكمية عند سيد لم يكن دقيقاً، وترتب عليه تكفير المجتمعات دون أن يحسم دلالة المصطلح دينيًّا بما فيه الكفاية، كما أنه لم يفصل بين القطعي والظني والمحكم والمتشابه والدين والفقه، أو النص والاجتهاد إذا كان يُقصد به البعد القانوني أو السلطوي.. ولعل تمسك سيد بهذا المصطلح وتشبعه به الهدف منه إسقاط النظام الغاشم في مصر الذي سخر كل مقومات الدولة في التنكيل بمخالفيه، وكان لابد من مواجهة فكرية دينية لكسره ونزع مخالبه، وسحب شرعيته التي يستمدها من خارج النسق الإسلامي كالقومية والاشتراكية وغيرها.. فهو بهذا ذو بُعد سياسي أكثر منه ديني؛ لأن الصراع لم يكن بين مسلمين وكفار بالمعنى العام، ولكنه بين التمسك بالسلطة ومحاولة نزعها لصالح المشروع الإسلامي الذي اجتهد الإخوان في تقديمه، وكانوا يرون لنفسهم الأحقية بحكم مصر.. ولذلك فسيّد هو أفضل مَن مارس التفسير السياسي الحركي للدين.

وفي الأخير، وللحقيقة، فسيد قطب كاتب ملائكي يسحرك بتحركاته الحية بين الكلمات، ويجول بك في عالم خاص يخطف تحركاتك الذهنية ويسلّمك إلى مسلّماته.. وقد يعطيك كل شيء، ولكنه قد يأخذ عقلك.