قراءة نقدية لقصيدة عبد الحكيم الفقيه
بقلم/ د.عبدالمنعم الشيباني
نشر منذ: 14 سنة و 3 أشهر و 16 يوماً
الأربعاء 28 يوليو-تموز 2010 08:02 م

حذائي الممزًق أفضل من وطني للشاعر عبد الحكيم الفقيه: إعادة ترتيب هرمي للمقدًس والممتهن في ثقافتنا

عبد الحكيم الفقيه شاعرٌ يمنيٌ وناقدٌ ورائدٌ من رواد القصيدة الحديثة في اليمن مسكونٌ بصوتٍ ثائرٍ ومعارضٍ وفيلسوفٍ يمنح الأشياء الصغيرة معانيها الكبيرة ومن ذلك قصيدته ( النقودُ إلهٌ حقود) ،كيف أعطى للنقود تعريفاً وتوصيفاً يبدأ من الأشياء الصغيرة جداً ليصنع منها عالماً واسعاً في المعاني..

النقود إله حقود

النقود وقود الشياطين

ما غرس الشر في الطين

ما اختط من وجع في العلاقات

ماشتت الناس كالعهن،

إثم الوجود،

صدى النار،

مقبرة الحب،

شوك البساتين،

دود الحياة،

غبار النعوش،

نقوش على جسد الرعب،

عرش على الجمر،

أسلحة وجنود يذودون كي يفلح الموت في المترسة

النقود إله

حقود

تبارك بالزيف والبطش والغطرسة

*****

حذائي وطني

الحذاء شيءٌ هيٍنٌ وحقيرٌ في ثقافتنا ، هل يختلف على هذا أحد؟ ولكن شاعرنا أسس بينه وبين حذائه الممزًق علاقة احترام لا تصل إليها ثقافةٌ ولا قوانين حضاريةٍ.. كيف جعل الشاعر من الحذاء شيئاً محترماً وشريفاً أشرف من الوطن؟.. ذكًرني هذا بقصيدة لشاعر سوداني كان منفياً في اليمن- الحسن العُمدة- له قصيدة أهداها إلى امرأته ( تيسير) أتذكر منها ( قامةُ الكمران أطول من قامة الوطن)، كان يدخن سيجارة الكمران وهو يكتب عن منفاه من وطنٍ أقصر وأصغر من قامة الكمران...

 

حذارِ من أي تفسير أمني أو( وطني) خارجي يزايد على الشاعر في علاقته بوطنه لأنها مزايدة خاسرة على شاعرٍ لم يجنِ من الوطن خيراً ولاخبزاً ولا سكناً ولا أمناً ولا حريةً ولا دنيا ولا ديناً وليس له إلا نعلٌ ممزًقٌ..

مبادلة احترام مع حذائه الممزًق

يحملني في الصباح

وأحمله في المساء

وأحمله في الصباح

ويحملني في المساء

نحن مع شاعرٍ في وطنٍ لا يحمله ولا يحمله غير حذائه هو وطنه الأولى بالاحترام والولاء، علاقةٌ حميمةٌ بين الشاعر ونعله الوطن وحذائه المأوى والملاذ والسكن (( يحملني......وأحمله)) كقولنا (( يحبني وأحبه)) ،يحمله في كل الأحوال والأمكنة وفي الصباح وفي المساء

إحساس نبيل للحذاء

أنا أتوقف كي لا يدوس على النمل

في الطرقات

هو يتوقف كي أمنح السائلين الذي يتبقى من

العملة المعدنية في الجيب

أتركه كي أصلي الصلاة

ويتركني كي أُصلي الصلاة

نديةٌ في الخطاب من خلال استعمال الضمائر ( أنا- الشاعر هو- الحذاء) صداقة متبادلة وولاء عنوانه الوفاء والاحترام ..

وهذا النمل الضعيف المكافح على لقمة عيشه ألا يستحق التأمل والعطف والإحساس به؟ لفتة شعرية إنسانية نبيلة بل لفتة كونية من النعل ومن الشاعر، شاعرٌ يصغي هو ونعله إلى أصغر الأشياء لطفاً بها وإحساسا.. قارنوا بين موقف الشاعر النبيل وحذائه الممزق يتوقفان كي لايدوسا على النمل وبين (موكب حكومي أو رئاسي وطني)يدوس على جماهير المارة في الطرقات...ثم اللفتة البديعة ليس في الوطن الذي صار (وطن السائلين) بعد أن نُهبت ثرواته وخيراته وأُفقر شعبه،بل في إحساس الحذاء النبيل يتوقف كي يتمكن الشاعر من إعطاء السائلين ما تبقى في الجيب من عملة معدنية وهي بالطبع عملة ضعيفة ومهلهلة فقدتْ قوتها الشرائية..، ويأخذ هذا الاحترام شكلاً آخر لدى الشاعر (( أتركه كي أصلي الصلاة ويتركني كي أصلي الصلاة))، الحذاء يحترم الصلاة ولا يمنع الشاعر من اداء الصلاة ولكن ربما يمنعه الوطن من ادائها ( حفاظاً على المصلحة الوطنية العليا)..

لا حظوا التعبير ( أتركه... ويتركني ) كلٌ يحترم الآخر الشاعر يحترم الحذاء والحذاء يحترم الشاعر ويحترم صلاة الشاعر ،ثم لا حظوا عمق الوفاء لكليهما (الشاعر والحذاء) يقول (( ونمشي معاً ).. هل أنتَ أيها القارئ العزيز تمشي مع وطنك أو هل الوطن يدعوك لتمشي معه؟..

نعل الشاعر الممزق نعل شريف ومحترم ولديه إحساس وقيم ومبادئ وفضائل إنسانية سامية فهو لا يشي بالشاعر ولا يتجسس عليه ولا يكتب عنه تقارير ولا يلقيه في السجن ولا يسقط اسمه من كشوفات الوظيفة أو الراتب ولا يمنعه من الكلام ولا من أداء الصلاة ولا يسرقه ولا يفقره ولا يسلمه للعدو.. ما أنبل وما أشرف هذا الحذاء..(أبكي ليغسل دمعي الغبار) رقيقٌ هذا الحذاء يغسل دموع صديقه بالغبار، ليس لدى الحذاء الوفي غير الغبار ليغسل دموع رفيقه الممزق في الوطن..

ونمشي معا

يكتب المخبرون التقارير عني ولا يذكرون حذائي الممزق

أبكي ليغسل دمعي الغبار

أنا يا حذائي الممزق إني أُحبك أكثر من وطني

 

*****

" يسقط الوطن " بين أحمد مطر وعبد الحكيم الفقيه

الشعراء من أشد الناس إخلاصاً للوطن ووفاءً للأوطان ولكن هذا الوطن لا يجازي الوفاء بالوفاء فليُعذر الشعراء إنْ هم هتفوا بسقوط الوطن أو فضًلوا عليه الحذاء ، يقول أحمد مطر

أبي الوطن

أمي الوطن

رائدناً حب الوطن

نموت كي يحيا الوطن

يا سيدي انفلقت حتى لم يعد

للفلق في رأسي وطن

ولم يعد لدى الوطن

من وطن يؤويه في هذا الوطن

أي وطن؟

الوطن المنفي..

أم الوطن؟!

أم الرهين الممتهن؟

أم سجننا المسجون خارج الزمن ؟!

نموت كي يحيا الوطن

كيف يموت ميت ؟

وكيف يحيا من أندفن ؟!

نموت كي يحيا الوطن

كلا .. سلمت للوطن !

خذه .. وأعطني به

صوتاً أسميه الوطن

ثقباً بلا شمع أسميه الوطن

قطرة أحساس أسميها الوطن

كسرة تفكير بلا خوف أسميها الوطن

يا سيدي خذه بلا شيء

فقط

خلصني من هذا الوطن

* * *

ويعتذر أحمد مطر لنعاله في قصيدة أخرى:

صحتُ من قسوة حالي

فوق نعلي

كل أصحاب المعالي

قيل لي عيبٌ

فكررتُ مقالي

قيل لي عيبٌ

و كررتُ مقالي

ثم لما قيل لي عيبٌ

 

تنبهتُ الى سوء عباراتي

و خففتُ انفعالي

ثم قدمتُ اعتذاراً لنعالي

******

نسف لثقافة المقدًس والممتهن وإعادة ترتيب للهرم

في ثقافتنا الوطن مقدًس والحذاء ممتهن ولكن في القصيدة-موضوع الدراسة- الحذاء أفضل من الوطن ، الحذاء أعلى الهرم والوطن أسفله ، فليسقط هذا الوطن وليذهب إلى الجحيم مادام لا يحترم الإنسان وليعلو هذا الحذاء فوق الوطن لأنه حذاء يحترم نفسه ويحترم الإنسان وحرية الإنسان ..والقصيدة تنحى منحى ( مابعد الحداثة) حيث تتصدر الأجزاء الثقافية المهمشة والممتهنة والمهملة مكانةً بارزةً في النص .. وأكثر بياناً للقارئ الكريم صار الحذاء الذي يحتقره الناس أشرف من المقدس الوطن الذي تجله الشعوب، وفي منهج ما بعد الحداثة نجد مثل هذ الأمثلة التي تنسف مكونات الثقافة السائدة وتفاجئ القارئ بتصدر الحقير والمهين سدة الضؤ، مثل ( البلاستيك- قراطيس المشمًع ) في قصيدة عبد العزيز علوان صار القوة الأساسية التي تخضع لها الدول والحكومات والمؤسسات والشركات وكل حياة المجتمع يلاحقهم إلى المقابر...

*****

حذائي الممزق أفضل من وطني

النص

 

يحملني في الصباح

وأحمله في المساء

وأحمله في الصباح

ويحملني في المساء

أنا أتوقف كي لا يدوس على النمل

في الطرقات

هو يتوقف كي أمنح السائلين الذي يتبقى من

العملة المعدنية في الجيب

أتركه كي أصلي الصلاة

ويتركني كي أُصلي الصلاة

ونمشي معا

يكتب المخبرون التقارير عني ولا يذكرون حذائي الممزق

أبكي ليغسل دمعي الغبار

أنا يا حذائي الممزق إني أُحبك أكثر من وطني

 

****

شاعر وناقد يمني

a.monim@gmail.com