نِعََم العولمة ونِقَََمُها
بقلم/ أحمد عبده الشرعبي
نشر منذ: 16 سنة و شهر و 5 أيام
الخميس 09 أكتوبر-تشرين الأول 2008 09:21 م

ظلت العولمة ولا تزال موضوعاً مثيراً للجدل، فلا يزال هناك الكثير ممن يعارضونها ويصبون نار غضبهم عليها لاسيما في الدول النامية. وكثيراً ما نرى حشود المحتجين يتدافعون في مسيرات مناهضة لاجتماعات المؤسسات الاقتصادية الدولية التي تشكل اتجاهات العولمة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. ومع زلازل الأزمات العالمية المتلاحقة كأزمة الغذاء وأزمة النظام المالي العالمي تزايدت وتعالت الأصوات الغاضبة والمشككة. وهنا لابد لنا من استعراض ظاهرة العولمة بإيجابياتها (نعمها) وسلبياتها (نقمها) - خاصة- تلك المتعلقة بالدول النامية، ومن ثم رصد الصعوبات التي تقف في طريق اندماج الدول الأقل نمواً في الاقتصاد العالمي ومواجهة تحدي العولمة.
هناك عدد من التأثيرات الايجابية التي أحدثتها العولمة في الدول النامية يأتي في مقدمتها جلب التكنولوجيا تحديداً في مجال النقل والمعلومات والاتصال والانترنت، وخفض أسعار السلع إمام المستهلكين من خلال كسر إحتكار المنتجين المحليين، وتحسين الأوضاع الاقتصادية لبعض البشر المنخرطين في العمل في الشركات العالمية. من جانب أخر، بينما عملت العولمة على إفادة بعض الأقاليم وبعض سكان المعمورة، فقد أدت -بالمقابل- إلى تهميش البعض الأخر وهم الأغلبية، وفيما يلي نتطرق إلى أبرز تأثيراتها السلبية:
أولاً: لم يتراجع عدد الفقراء في العالم - كما توقع ووعد مناصرو العولمة – وعلى وجه الخصوص في إفريقيا وجنوب أسيا. فلا يزال هناك أكثر من مليار إنسان يعيشون في فقر مدقع، إظافةً إلى 800 مليون يقاسون الجوع، وأكثر من ربع أطفال الدول النامية (أقل من الخامسة) يعانون من نقص التغذية. هذه المعدلات المتصاعدة لفقراء العالم المنسي في أفريقيا وجنوب أسيا تقف في تناقض صارخ مع الثراء المفجع للدول الصناعية، وهذه الفجوة بين عالم الجياع وعالم المتخمين تستمر في الاتساع بينما قطار العولمة يتقدم وأزماتها تتلاحق.
ثانياً: إذا نظرنا إلى الإحصاءات المعنية بنتائج النمو الاقتصادي في العالم سنجد أن العولمة ولدت رابحين وخاسرين. ووفقاً لتقديرات الخبراء، فقد خلقت العولمة وعززت من الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الدول وفي إطار الدول نفسها. فسكان العالم المتقدم المقدر بـ15% من سكان العالم يستقبلون 81% من الدخل العالمي بينما سكان العالم النامي البالغ 85% من سكان المعمورة يستقبلون 19% من الدخل العالمي الإجمالي. وهذه النسب لم تكن بهذه الصورة في الماضي بل ساءت مع إبحار ركاب العولمة، وهي تأتي كنتيجة فعلية لتركيبة الاقتصاد العالمي التي تخدم وتصب في مصلحة الدول المتقدمة وعلى حساب الدول الأقل نمواً.
ثالثاً: يمثل القطاع الزراعي في الدول النامية المصدر الرئيسي لصادرات تلك الدول وأكبر قطاع لتوظيف الآلاف من مواطنيها، ولكن الميزة النسبية لهذه الدول في الإنتاج الزراعي والقائمة على بعض العوامل أهمها وفرة الأراضي الفسيحة ووجود الأيدي العاملة الرخيصة، والظروف المناخية المساعدة لم تعد اليوم كافية لمنح المزارعين في تلك الدول القدرة على المنافسة في الأسواق العالمية أو حتى في أسواقهم المحلية. فتحرير التجارة والمنافسة القوية من قبل كبار المزارعين المدعومين وشركات التصدير المدعومة التابعة للدول الصناعية، والافتقار للتكنولوجيا المتطورة في الإنتاج الزراعي وغياب البنية التحتية، كل ذلك أدى إلى إضعاف القدرة التنافسية لتلك البلدان في القطاع الزراعي. أضف إلى ذلك أن المنتجات الزراعية للدول النامية غير قادرة على اختراق أسواق الدول الصناعية بفعل ما تفرضه حكومات تلك الدول من تعريفات جمركية عالية وشروط أخرى كثيرة تتعلق بالجودة وبعض المواصفات والمعايير التعجيزية، وبذلك أجبرت العولمة غالبية صغار المزارعين في الدول النامية على ترك أراضيهم وأعاقت غيرهم من التوسع والاستثمار في الإنتاج الزراعي، رغم طبيعة مجتمعات الدول النامية التي يغلب عليها خصوصية النشاط الزراعي. وبالتالي خلق ذلك – وإن كان أحد الأسباب وليس العامل الوحيد- تراجع في الإنتاج الزراعي العالمي وما ترتب عليه من انفجار لأزمة غذاء عالمية.
رابعاً: أدت العولمة - التي وعدت بفتح أبواب الدول الصناعية بمصراعيها أمام فقراء العالم للعمل فيها– إلى تقليل الحاجة للعمالة الغير ماهرة من الدول النامية، حين أصدرت الدول الغنية عدد من القوانين والتنظيمات التي تحد من هجرة العمالة الأقل تدريباً. وبالمقابل، سمحت العولمة بهجرة العقول والعمالة المدربة إلى الدول المتقدمة في الوقت الذي تبدو فيه الدول النامية بأمس الحاجة لتلك العقول التي يمكن لها الإسهام في عملية البناء والتنمية الاقتصادية لشعوبها.
خامساً: الحقيقة الناصعة تقول أن العولمة قد تسببت بتدمير البيئة. فما نسمعه اليوم من ظواهر الاحتباس الحراري والتلوث ونفاذ طبقة الأوزون والتغيرات المناخية ما هي إلا نتاج لتلك الظاهرة. فبسبب العولمة جلبت شركات العالم المتقدم، إلى الدول الفقيرة، التكنولوجيا والأنشطة والمنتجات الأكثر ضررا رغم وجود التكنولوجيا والمنتجات السليمة، ولكن نتيجة لارتفاع تكلفتها ترفض تلك الشركات جلبها الى عالم مرغم بقبول ما يأتيه. كما تستغل الشركات المتعددة الجنسية غياب القوانين البيئية في الدول الفقيرة لتنقل إليها عمليات إنتاج المواد الضارة - والمحرم إنتاجها في الدول الصناعية. علاوة على ذلك، كثيراً ما تقوم الشركات الدولية بالتخلص من نفاياتها الصناعية الضارة برميها في بحار، أو دفنها في أراضي، الدول الفقيرة وذلك مقابل صفقات سرية أو تحت ما يسمى "مساعدات إنسانية". وبذلك أصبح سكان الدول النامية بوجه خاص هم الضحايا الأكثر ضرراً والذين يدفعون ثمناً باهظاً لما يفعله الأغنياء بكوكبنا.
سادساً: تسهم العولمة بتصدير الأزمات من المنشأ إلى أقطاب العالم المختلفة. فما حدث في "وول ستريت" وما تلاه من أزمة مالية و تهاوي للمصارف المالية في الولايات المتحدة الأمريكية سرعان ما انتشرت نيرانه لتحرق كل دول العالم بدءاً بأوروبا ومروراً بآسيا و العالم العربي وكل دول العالم، وبذلك لن تكون الدول الفقيرة بمنأى عن هذه الأزمة بل سيدفع جياع صحراء أفريقيا و مرضى نقص التغذية من اطفال جنوب أسيا جزءاً من فتات طعامهم كضريبة لهذه الأزمة التي ألهبها أثريا وول ستريت.
ببساطة، لقد أصاب معظم الدول النامية لاسيما الفقيرة منها نقم العولمة أكثر من أن تهل عليها نعمها, فما هي الأسباب إذن؟ في الحقيقة، يرجع ذلك لعدد من نقاط الضعف التي آلمت بدول العالم الثالث. فمعظم هذه الدول ضعيفة اقتصاديا وبالتالي غير قادرة على الاندماج في ركب العولمة بفعل افتقارها للقدرة الاقتصادية المحلية وضعف البنية التحتية والاجتماعية خاصة أنها حديثة عهد بالخروج من الحقبة الاستعمارية.
بالإضافة إلى ذلك، تميزت الكثير من الدول النامية بسيطرة أنظمة حكم فاشلة، وسؤ استخدام السلطة، وسؤ الإدارة الاقتصادية، التي قوضت عملية التنمية، وبذلك ظلت في موقع أضعف لمواجهة تحديات العولمة. كما تولد ضعف تلك الدول من افتقارها للقوة التفاوضية في المنتديات الاقتصادية الدولية والناتج عن كونها غارقة في ديون ضخمة ومعتمدة على قروض ومنح مقدمة من الدول الغنية والمؤسسات المالية الدولية. وبفعل ذلك ظلت هذه الدول في موقف تفاوضي أضعف في المؤسسات الدولية، وهي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، والتي تشكل اتجاهات العولمة وفقاً لرؤى وشروط الأغنياء.
ختاماً، لا بد من التأكيد أن العولمة حقيقة واقعة والأمر لا يتعلق بمناهضتها أو مناصرتها بل مراجعتها والاستفادة من نعمها والتخفيف من نقمها وبصورة خاصة على الدول الفقيرة وذلك من خلال معالجة نقاط الضعف المذكورة وبتعاون العالم المتقدم الذي أتخذ من العولمة فريسة لم يشاء أن يترك منها للعالم الأخر المجبر على المشاركة سواء بضع عظام مهشمة تدميه حين يلتقطها. فها نحن اليوم في ذروة الأزمة المالية العالمية نسمع ونقرا تصريحات الساسة ورجال الاقتصاد في البلدان القائدة للعولمة مفادها "أن النظام الرأسمالي قد فشل، فلا بد من إعادة النظر فيه وإعادة تنظيمه". غير أننا لم نسمع مثل هذه الصيحات إبان اندلاع الأزمة المالية لعام 1997 في جنوب شرق أسيا ولا في أزمة المكسيك عام 1995 أو ألأرجنتين، ولكن سمعناها عندما أصابت أضرارها روادها. فهل سيصحى العالم المتقدم - بعد بروز مؤشرات تغير في توزيع القوى - ليشرع بمراجعة شاملة للعولمة برأسماليتها المتشددة لتشمل كل جوانب الفشل بما فيها معالجة عوامل إخفاق الدول الأقل نمواً والتي لا بد أن تكون شريكاً منتجاً وليس مستهلكاً تابعاً، أم سيكتفي بمعالجات جزئية تستهدف النظام المالي والمصرفي لتتجنب خسائر أصحاب رؤوس الأموال في وول ستريت ولندن وباريس..الخ؟ إن كان الأخير هو خيارهم، فإن الإصرار على إثراء الأثرياء وهم قلة وإفقار الفقراء وهم السواد الأعظم، في عالم هو بمثابة القرية الواحدة - كما يقولون- أو الجسد الواحد، لن يكون إلا مصدراً لازمات لم يأتي أسواها بعد.
sharabi44@yahoo.com