سجن صيدنايا: المسلخ البشري لآل الأسد.
بقلم/ فضل حنتوس
نشر منذ: أسبوع و 4 أيام و 13 ساعة
الأحد 15 ديسمبر-كانون الأول 2024 08:01 م
 

حينما يُسبر أغوار التاريخ ويُفتح كتاب الماضي الدامي، تقف الإنسانية على حافة الذهول أمام قدرة البشر على اجتراح أفظع الجرائم وأبشع أشكال الهمجية. تُعيدنا الذاكرة إلى عصور الاستبداد المطلق، إلى محاكم التفتيش التي حملت شعلة التعذيب في دهاليز الكنيسة، وإلى عهد ستالين حيث كانت كلمة "الخيانة" تكفي لإزهاق أرواح الملايين، وإلى أقبية النازية حيث فاحت روائح الموت من أفران الغاز، لتُسكت كل صوت معارض وتُخمد أي أمل في الحرية. ومع كل ذلك، ظنّ البعض أن العصر الحديث قد تجاوز تلك الهمجية، وأن الأنظمة السياسية مهما بلغت من بطشها ستقف عند حدود إنسانية لا يمكن اختراقها. ولكن، ما جرى خلف جدران سجن صيدنايا السوري أثبت أن البشرية لم تبرأ بعد من لعنتها الأزلية، وأن يد الطغيان لا تزال قادرة على رسم فصول جديدة من الرعب والتوحش.

 

في زمن حكم آل الأسد، تحوّل سجن صيدنايا إلى رمز للوحشية المطلقة، إلى فضاء مظلم حيث كان العذاب هو القانون، والموت هو اللغة الوحيدة التي يفهمها السجان. لم يكن هذا السجن مجرد منشأة عقابية، بل كان مختبراً لإعادة صياغة الإنسان، ليس بإصلاحه أو تهذيبه، بل بسحق روحه، وكسر إرادته، وسلبه آخر ما تبقى له من كرامة. داخل أسواره، التقى الموت بالحياة في معركة غير متكافئة، حيث كان الموت دائماً هو المنتصر.

 

حين اقتحمت المقاومة السورية هذا السجن بعد سنوات طويلة من التعتيم والتجاهل، كُشف الغطاء عن حقائق تقشعر لها الأبدان. الصور التي خرجت من هناك لم تكن مجرد أدلة على انتهاكات حقوقية، بل كانت توثيقاً لحقبة من الوحشية قلّ مثيلها. لم تكن الجثث المتكدسة مجرد ضحايا لسياسات القمع، بل كانت شهادة دامغة على نظام جعل من القتل فلسفة، ومن التعذيب فناً مريعاً.

 

في صيدنايا، لم تكن الممارسات تقتصر على السجن بمعناه التقليدي. هنا، كان الموت يُدار كصناعة متقنة، تُستخدم فيها أدوات تعذيب لا تخطر على بال أحد. الخوازيق، الحرق بالنار، والاغتصاب بأبشع الطرق، كلها كانت أدوات تُستخدم بلا تمييز ضد الرجال والنساء والأطفال وحتى الشيوخ. كان الهدف واضحاً: تحويل الإنسان إلى كتلة من الألم والخوف، وسحق أي ذرة أمل في البقاء أو المقاومة.

 

داخل هذا الجحيم، كانت تُمارس أفظع أشكال الإبادة النفسية والجسدية. الأطفال الذين يفترض أن تكون طفولتهم مظلة للحماية والرعاية، وجدوا أنفسهم في أقبية لا ترحم، حيث كان البكاء جريمة، وحيث كانت أصوات السياط تصم الآذان. النساء اللواتي اعتقلن، سواء بسبب مواقفهن السياسية أو لكونهن أقارب لمعارضين، عُذّبن بطرق تفوق الوصف. الاغتصاب هنا لم يكن مجرد اعتداء جنسي، بل كان أداة حرب، وسلاحاً يُستخدم لإذلال الضحايا وعائلاتهن.

 

روائح الموت كانت تملأ المكان، حيث تُركت الجثث لتتحلل في الزنازين، في رسالة واضحة إلى السجناء الذين ما زالوا على قيد الحياة. هذا المصير هو ما ينتظرهم، وهذا العذاب هو مصيرهم المحتوم. أما الطعام، فكان أقرب إلى السموم، تُقدّم للمعتقلين فقط لإبقائهم أحياء بما يكفي لتحمّل المزيد من التعذيب.

 

كان صيدنايا انعكاساً واضحاً لفلسفة نظام الأسد. هذا النظام الذي لم يرَ في الإنسان سوى أداة يُمكن استخدامها أو التخلص منها. لم تكن الجرائم تُرتكب بشكل عشوائي، بل كانت تتم وفق تخطيط محكم ومنهجي. الهدف لم يكن فقط القضاء على المعارضة، بل زرع الخوف في نفوس الجميع، لتصبح البلاد بأسرها سجناً كبيراً، يخيم عليه شبح الموت والرعب.

 

ما يجعل هذه الفظائع أكثر إيلاماً هو الصمت الدولي الذي رافقها. لسنوات طويلة، كان المجتمع الدولي يعلم بما يحدث، ولكنه اختار أن يغض الطرف، متذرعاً بالمصالح السياسية أو الخوف من التدخل العسكري. هذا الصمت لم يكن مجرد تواطؤ، بل كان مشاركة ضمنية في الجريمة، لأنه سمح للنظام بالاستمرار في ارتكاب فظائعه دون أي رادع.

 

بعد سقوط النظام وكشف الستار عن هذه الجرائم، يقف العالم اليوم أمام سؤال ملح: كيف يمكن للبشرية أن تسمح بحدوث مثل هذه الفظائع؟ وكيف يمكن ضمان ألا تتكرر هذه المآسي في المستقبل؟ الإجابة تكمن في التوثيق والمحاسبة، في كشف الحقائق وعدم السماح للجلادين بالإفلات من العقاب.

 

إن سجن صيدنايا ليس مجرد مكان، بل هو رمز لكل ما يمكن أن يصل إليه الطغيان إذا لم يُواجه. هو تذكير دائم بأن الصمت على الظلم ليس خياراً، بل هو جريمة بحد ذاته. إذا كان لهذا السجن من رسالة، فهي أن الإنسانية لا تزال بحاجة إلى النضال من أجل قيمها الأساسية، وأن العدالة هي السبيل الوحيد لتحقيق السلام.