|
ليست تكهن أو نبوءة عابر ، بل بشارة من سيد الخلق عليه الصلاة والسلام .
فقد مرت جنازة من أمام النبي صلى الله عليه وسلم ، فاثني عليها من معه وقالوا خيرا فقال صلى الله عليه وسلم وجبت ، أي أن لها الرحمة من الله والجنة ، ثم أردف صلى الله عليه وسلم بقوله انتم شهداء الله على الأرض .
ونحن نشهد بأنك كنت كطيف عبر ، وكنسمة لطيفة منعشة ، تنسمها على غير العادة الأشعث الأغبر ، والبائس الفقير ، والحزين المكدود ، وغيرهم على السواء .
وأنك كنت في مجملك الكلمة الطيبة ، والقول الحسن ، والقلب المكلوم بفواجع أمته وامتداد القهر على إنسان هذا الزمان .
وأنك كنت اللمسة الحانية ، وابتسامة الربيع بما تحمله من اتساع وأريحية وعفوية على محيا المعاق في تلك المديرية ، أو تلك العجوز الغائرة العينين في ذك السهل التي لا يحملها الجهد على أن تتكئ ، رفيقة العوز من جهاتها الأربع .
كثيرون مروا قبل يحيى فبكتهم القلوب ودمعت عليهم العيون وازدحم الناس في تشيعهم لدينهم ، ومروآتهم ، وحالهم في قضاء حوائج الناس ، ولمواقفهم الصادقة تجاه الوطن .
لكن شيئا من الضجة والزحام إثر وفاتهم يعود للمكانة الاجتماعية أو الرسمية التي كانت لهم ، وهي في النهاية رحمات من الله تتعاطف .
غير أن الصورة هنا مختلفة كثيرا من عند مرض ووفاة يحيى علاو .
اليمن كلها اهتزت بوجع وأنين ووجوم منذ لحظة إشهار بداية رحلته مع المرض .
لم يكن يحيى علاو بأكثر من إعلامي بسيط ، في كل الأحوال فهو مغمور بمقياس الضجة السياسية ، والمكانة الاجتماعية ،لم يصنع على عين السلطان ، ولم يسوقه للجمهور والمكانة والنفوذ مطبخ مهني متخصص .
بل كان وظل يُحاصر من وزارة الإعلام والفضائية اليمنية ، لا لشيء إلا لتلك المسحة الصافية في وجهه ، ولذلك الشيء العميق في صوته والذي يبعث على الطمأنينة والسكينة والسلام الاجتماعي .
لم يكن برنامج فرسان الميدان الذي عشقته الملاين بتلك الضجة الدعائية ، والحشد والتكلفة التي صارت عليها في الموازة برامج رمضانية أخرى كسندباد العابد ،أو مسابقات وحش الشاشة السماوي .
لكنه كان يسير بعفوية وتواضع ، وإمكانات وقدرات هي الأخرى بسيطة ،لا تحمل معها اتكتيك ،أو تخبئ المفاجآت .
لكن لماذا هام الشعب بكله في برنامج فرسان الميدان ، وبالدرجة نفسها من الحب والتقدير ليحيى علاو .
استوي في ذلك الصغير والكبير ، المرأة والرجل ، المثقف والعادي ،الرسمي تبع السلطة أو المعارض في الجهة الأخرى سيان ؟
ما وراء كل هذا الحزن الشعبي العميق والصادق تجاه يحيى علاو ، وقبل ذلك ما وراء كل ذلك الحب الذي سكن قلوب البسطاء ومساكين الشعب تجاه يحيى علاو .؟
عشرات الألف يحملون جنازته ويبكونه ويصطفون في الصلاة عليه والعبرات تخنقهم ، ولو تم تأخير الدفن يوم آخر لكان العجب .
فضلا عن صلاة الغائب التي استوت لها الكثير من الأسر ، والناس جماعة ، وفردا .
مرة أخرى لماذا أحب الناس يحيى كل هذا الحب ، وتلك أماراته الصادقة ، لا فيها زيف ، أو يُراؤن؟
أزعم أن عندي الجواب ، ولو كان لآخر غيره فننتظر أن يطرح ، لأن مثل هذا الموقف لا ينبغي أن يمر دون الغوص فيه واكتساب الدروس والعبر .
كان يحيى مؤمنا صادقا ، وتلك كانت سيماؤه ، ويبدو أنه كان له في كل خطوة نية ، وفي كل مفردة من مفردات برامجه يخبئ ويدخر النية نفسها ، أحب الله سبحانه وتعالى ، وأحب لأجله الناس ،والسهل والجبل ، فأحبه الله سبحانه وتعالى ، وألقى له المحبة والقبول في قلوب من رآه أو سمعه ، وزوده بجمال الطلعة ، وحسن البيان ، والحكمة ، والحضور المؤثر .
والله سبحانه وتعالى إذا أحب أحدا ألقى له القبول حتى تحبه الكائنات ، وكل ذرة في الكون تلقاه بالمحبة واليسر والطواعية ، وإذا ابغض الله سبحانه وتعالى شخصا ابغضه في الكون كل موجود ، وحلت عليه اللعنات والعنت من كل ذرة تلقاه .
كان علاو ، ويحيى اسمه ، لبنة صلبة ، وبمثابة التهيئة والتوطئة بممكناته ـــ في ظل التعبئة القصوى ـــ بين يدي مشروع الخير القادم .
كان إنسانا يحيى ، ويحيى الإنسان .
بخلق المسلم يتحرك ويُشافه ، وبهموم الأمة والإنسان يفعل ويتفاعل ، حمل رسالته فأوصلها على خير قيام وبأنقى نية وجهد ، وتلك البينات تطلع من بين تلك الجموع والحناجر والدموع .
من لنا بمثل سيره المتئد ، يمشي الهوينى ، ويجيء في الأول .
أحبه الله ،فاختاره إليه ، ونحسبه والله حسيبه قد أوفى ما عاهد الله عليه ، فإن نقص عليه زاده ولم يبلغه الدرجات العلى ، فتلك له صدقة جارية باقية تلحقه وتراكم له الرصيد ، كلما جاء رمضان سيذكره مليون من قائل (( يرحم الله يحيى ويسكنه الجنة ، قد كان هذا موعده ، في تلك عبادته ، وكم عبدنا لله معه ))..
وسيتذكره آخر قد نيف على التسعين من فوق ذك الشاهق بــ ((يرحم الله يحيى ، من هنا مر ، وفي تيك الوهاد داعبنا وذكرنا بالله ، وأحسن إلينا بجائزة كأنها صلة من ذي رحم ، جاء بها يجرها إلى ذي مسغبة ، أو مقطوع)) ..
على الآخرين ، وكلنا واجب أن نعي الدرس ، ونستشف بصدق المشهد .
وهل إذا متنا ، سيقولون أراحت أم استراحت ..؟
وهل وجبت لنا ، أم وجبت الأخرى ... ؟
الحمد الله ،إذ أبقى الله لي في العمر ولو مقدار ساعة أتدارك خلالها أمري ، وقد تكون منتهى أمنية من رحلوا ولو قايضها بكل هذا الملكوت في هذا الكون الفاني ...
(وركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها )
وماذا يغنيني ويفيدني ما أنا تاركه من مال وبنين إن لم استودع منه وفيه إلى موعد ما أغنى عني مالية هلك عني سلطانية ..
alhager@gawab.com
في الخميس 17 يونيو-حزيران 2010 04:15:24 م