الدولة المدنية ”المحدودة“، أو ثورات بلا حدود
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 12 سنة و 11 شهراً و 18 يوماً
الثلاثاء 29 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 12:56 م

أولوا الألباب هم من يقرأون المكتوب من عنوانه. وقضايا إدارة شعب وبلاد لا يجب التعامل معها بخفة الإستفتاءات الشعبية، من ذلك النوع الذي نستخدمه في تقييم المطربين والأغاني والمسلسلات.

فالماضي العفن هو أساس حاضرنا العقيم، وكلاهما يشيران الى المستقبل، وهناك إشارات توحي بما ينتظرنا تحت نعال أي حكم غير مدني حقاً، وهي مؤشرات تحمل في طياتها بوادر ثورة قادمة، بل ثورات مؤجلة بلا حدود ضد الكهنوت السياسي بكافة أشكاله وأنواعه.

للأسف، يعتقد البعض انه ما أن تدخل ملائكة الديمقراطية من باب الفوز الإنتخابي، حتى يغادر شياطين التسلط الديكتاتوري من شبابيك البلاد...! - والإجابة بالعربي الفصيح = (غلط). نقطة على السطر.

وبحكم أن الأرض هي في الأصل المنفى الإلهي للراغبين بالإكتشاف والتغيير والطامحين للرقي والنهضة، ولأننا لا نحيا سوى مرة واحدة وفرصة تكرار حياتنا القصيرة على هذه البسيطة مستحيلة، علينا ألاّ نضيع الفرص الضئيلة ورآء وهم اللحاق بمواصفات غير قابلة للتطبيق على واقعنا، لذا وجب علينا أن نضع معايير سعادتنا الخاصة وأن نقوم بتطويرها وتحسينها وتشذيبها، وإن أنكرها من بقلوبهم رجفة وعندهم قابلية للعبودية والإنبطاح.

نعم، إنه لأمر خطير للغاية أن نسأل عامة الناس إنتخاب الأجدر لإدارة شؤون البلاد برمتها، ليس لأن خياراتهم الحقيقية فقط غير مدروسة، بل أنها تكاد تكون معدومة، لأنها محصورة في شخصيات تابعة ومسـيّسة تم تبنيها وإنتدابها من قبل أطراف ثالثة تسعى لنيل مآرب غير تلك المعلن عنها في الظاهر، وهو الذي يتم على الدوام... أمّا في الحالات المستقلة - على ندرتها - فهي تقوم بناءً على القدرة التعبوية لأفراد لديهم إمكانات مادية وعصبوية لدعم حملاتهم الإنتخابية وممن لهم علاقات من المصالح والتحالف السياسي والوجاهة والروابط الإجتماعية من ظهر أو نسب. - فتصبح تلكم الترشيحات ونتائجها هي بعينها دولة الأغنياء والأقوياء منكم.

- وهو أحد أسباب فشل وبداية تحلل ذلك النموذج حتى في عقر دار أقوى الديمقراطيات الإنتخابية عتواً. فما بالكم بنا؟

لتوضيح الفكرة، تخيلوا معي أننا جمعية مُلاّك فندق لديه مقومات منشأة ضيافة على مستوى خمسة نجوم أو اكثر، وبدلاً من إسناد أمر الإدارة إلى أهل الإختصاص ”بالتعاقد“ مع من سبروا أغوار إدارة العمل الفندقي وفنون صناعة الضيافة بحرفيتها العالية وحصدوا جوائز التميز والإتقان، فنتجاهل عن قصد كل معايير الإدارة المطلوبة والقادرة على إنجاح المشروع، وعوضاً عن ذلك نوكل المهمة وفق مقاييس وفتاوى كبار قساوسة السياسة والدين بالدعوة لإنتخاب تلك الإدارة من دهماء الوافدين على الأسواق الشعبية. !!!

- أي أن القدرات والكفاءات الإدارية للدولة الرشيدة والعناصر المنتجة وذوي الخبرات مستبعدة تماماً في هذه الحالة الإنتخابية الشاذة، وهي آلية محسومة سلفاً، ونتائجها لن تختلف عن إيكال مهمة إدارة ذات المرفق وفق الولآءات لضابط عسكري وجنوده، وذلك هو "مقلب" النظام الإنتخابي المستورد والمُسـيّس لصالح من لامهنة له سوى الإسترزاق السياسي من ورآء الوصول على أكتاف عامة الناس إلى السلطة.

الديمقراطية كما الشرائع والقوانين كلها ليست منزّلة من السماء بل نابعة من الأرض، محل إقامة البشر، وللأسف ان حلولنا دائماً تكراراً لنفس الكلام، وبدلاً من إعمال ”العقل“ نلجأ إلى ”النقل“، وإلى إعتماد نفس الأساليب التقليدية أو المقلدة.

ففي كل مرة تنفجر مشاكلنا في وجوهنا لانجد سوى ”الترقيع“ بدلاً من إبتكار الحلول، فأتذكر نكتة الحفرة القديمة، لا شك أن البعض يعرفها، تلك النكتة التي تقول ان مدينة تأذت من وجود حفرة. عقد من ظن الناس بأنهم حكماؤها اجتماعاً لحل المشكلة، فقرروا وضع لوحة تنبه العابرين، وعندما فشلت اللوحة، قرروا وضع سيارة إسعاف لنقل المصابين، ولما فشلت فكرة الإسعاف قرروا نقل المستشفى ليكون قريباً من الحفرة !

- المغزى واضح من هذه القصة: لا أحد فكر في ردم الحفرة… ونحن حتى الآن لم نفكر في علاج المشكلة من جذورها بإعتماد مايصلح لإحتياجات حاضرنا ومجتمعاتنا بدون العودة للماضي أو إلى اقتباسات بليدة، نظل ندور في مكان واحد.

نحن في الواقع ندمن الحلول المعلبة والمنقولة والمستوردة، بل ونسعى إليها، سواءً تلك التي جاءت من رحم الثورة الفرنسية ومن على نسقها أو كتلك التي استوردناها من الكتلة الإشتراكية سابقاً أو الآتية من فكر جماعة إخوان مصر أو بداوة نجد الوهابية أو من سيرة غير يمنية إطلاقاً حافلة بالفشل والنكبات يطلق عليها خلافات إسلامية مندثرة، وليس هناك مايربط بين زمنها ويومنا هذا رابط.

وبالعودة لمعتقد عملية الإنتخابات والتي يروج لها بأنها تأتي بالأفضل ليس صحيحاً على الإطلاق، أو ان إزاحة من في الحكم أمر سهل ويسير لمجرد أنهم وصلوا للسلطة عبر صناديق الإقتراع.

 فالرايخ الألماني الثالث لم يأت على أبراج دبابات عسكرية أو بقوة غاشمة، بل عبر صناديق الإقتراع التي فركتها يد الديمقراطية الغربية فخرج منها مارد هتلر ولفيفه من النازيين في انتخابات 1933، ومثله موسوليني في ايطاليا الفاشية، وكِلا الرجلين تسلقا السلطة بالتداول السلمي والإقتراع العام الحر والمباشر. وكلاهما وضعا الدواليب المشتعلة في عنقي بلدانهم، فأغرقا المعمورة في بحر من الدماء البشرية والعذاب والمجازر.

فكان حقاً على الألمان والإيطاليين دفع ثمن الغلطة الرهيبة التي أوصلت سفاحين كأولئك إلى سدة الحكم. كما أن الآلية الإنتخابية لم تعد تسعف شعوبهم بعد أن وقع الفاس بالرأس، ولم تعد صناديق الإقتراع تجدي نفعاً للتخلص من براثنهم بعد أن غسلوا أدمغة جموعهم، وبعدما نصّبوا أعوانهم وبثوا غوغاءهم المؤدلج بالهوليجانية والنزوات المريضة.

ولأن لساستنا - وخصوصاً من يتدثرون بعباءات الدين والتراث والسلف الطالح وأصحاب إرث الثورات الأم في صنعاء وعدن وصعدة وأبين والضالع وريدة وسنحان و "بيت الفقيه!"، ناهيك عن ورثة الوليدة الجديدة - لديهم عقلية أعرابي تسمّرت عقارب الساعة عنده وفق حسابات داحس والغبراء، فلا أظن أننا سنبرح ذلك الموضع في المنظور القريب، لذا لزم علينا الفصل بين ترهات القوم وبين إدارة البلاد.

إن أصحاب الخبرات والمؤهلين والمهارات المصقولة، بغض النظر عن انتماءاتهم، أو جنسياتهم أو عقائدهم أو أديانهم أو جندرهم - أي ما إذا كانوا ذكوراً أم اُناثا - أو مستواهم الإجتماعي أو إمكاناتهم المادية هم الحل الوحيد، وفيهم الأمل المتبقي لليمن التعيس إن أردنا لها التقدم والنهضة والإضطراد والسؤدد، وهم أولى بالإستقطاب وبالتجنس والتوطين والموالاة.

بمعنى أن إدارة البلاد يجب حسبانه وكأنها مؤسسة أو شركة، ومن هذا الطرح تم إستلهام عنوان ”الدولة المدنية المحدودة“، بمعنى أن إهتمام إدارتها يجب أن ينحصر أولاً وأخيراً في الإنتاج وزيادة الإنتاج ومضاعفة الإنتاج وتأهيل الكوادر وتوسيع كسب الأرزاق والأسواق وكفاف وعفاف منسوبيها وتأمين سلامتهم وترتيب تقاعدهم وإعمال القانون والنظام في كل الإجراءات.

ولأنها ليست سوى مجرد إدارة، لذا فلا داعي لإلصاق الدين بذيل عملية الإدارة، بتعويماته وتأويلاته التي لن يتفق عليها فقهاء "الدين" أنفسهم إلى "يوم الدين"، فليس للإدارة دين أو مذهب أو معبد ولا بقرة مقدسة.

وفي هذه الحالة لا يجوز أن يكون مواطن الشارع هو الأداة المستخدمة زوراً للوصول لمناصب القرار العلياء. إلاّ التصويت بما يخص مايهم أمور ذلك المواطن الحياتية المباشرة في نطاق المحليات وتعاملاته مع بلدياته لتنظيم السكن والمعاش والطمأنينة، - وهنا تأتي فائدة مايسمى بالديموقراطية، كما لمسناها من تجارب الأمم الأخرى.

على أن توكل القرارات العامة والمصيرية لمجلس حكماء يتم إنتقاءهم وتأهيلهم بالخبرة والتجربة الطويلة وتدرجهم وتزكيتهم عبر مراحل متعددة ومعايير صارمة وممن لاتشوب سيراتهم أية شائبة، بينما تترك أمور الإدارة والتسيير لشؤون الدولة والمجتمع ”لمتعاقدون“ من قدرات يتم إستقطابها وفق مايسمى بإستراتجية "إصطياد العقول**"، أي صيد أولئك المختصون في المهارات القيادية والفنية والفكرية سواءً من اليمن أو من أي مكان في أصقاع العالم من الخبرات القادرة على إجراءات الإدارة والسياسات الرشيدة بحسابات دقيقة وعقل بارد وإرادة قوية بعيداً عن دغدغة الساسة لعواطف وإنفعالات الشارع.

ولأنني لا أحب التزويق ولا التدليس، وما أحس به يقفز على لساني بدون مونتاج، أقول: - لقد نلنا نصيبنا من الحروب ومغامرات العسكر والنزوات الحزبية والعنعنة الدينية والتشرذم والمناطقية بما يكفي، وعلينا أن نستخدم ما بقى لدينا من "طاقة آخر رمق" لتحقيق أحلام الشعب فى الحرية والتنمية والنهضة. - أوه، وحتى لا أنسى و… الديمقراطية.

في الختام، وكعادتي المسكونة بنفس السؤال: إن لم تكن النهضة عمل وإنتاج وبناء وإقتصاد، قولوا لنا إذاً ماذا تكون؟

** Headhunting = إصطياد العقول