القبيلة والدور المنتظر
بقلم/ أمين اليافعي
نشر منذ: 13 سنة و 8 أشهر و 11 يوماً
السبت 05 مارس - آذار 2011 06:51 م

كانت القبيلة هي الفضاء الأولي للاجتماع البشري الذي سعى كائنه إلى الالتفاف حوله، وفي طياته، صاغ عقده الاجتماعي والأخلاقي. وعبر المراحل التاريخية لتطورها، أنتجت القبيلة الكثير من الأعراف والضوابط التي سعت من خلالها إلى مواكبة تطلعات وميول أفرادها الفطرية نحو التمدن (المضاد للتوحش)، والتأقلم مع المتغيرات التي يفرضانها عنصريّ الزمان والمكان.

وقد وجدت القبيلة نفسها ـ في خضم صراعها الطويل لأجل البقاء والحفاظ على شرعيتها الاجتماعية والأخلاقية ـ بحاجة إلى تجديد أدواتها التي تدير بها عملية الصراع، حيث مالت إلى التشديد في تطبيق أعرافها وضوابطها، والتشديد أيضاً في نبذ كل من خالف وخرج عن هذه الأعراف والضوابط. كما عمدت القبيلة إلى صناعة صورة مثالية عن الفرد المنتمي إليها، فهو الفرد الحامل للقيم الرفيعة، الذي لا يخون الأمانة ولا يغدِر، ولا يأتي من السوء شيئا.

(لنتجاوز هنا عن السلبيات التي تم أخذها على سلوكيات القبيلة، باعتبارها سلبيات تم رصدها من وجهة نظر أحدث، وليس بالمقارنة بين نموذج القبيلة ذو القيم والأعراف ونموذج الغابة لما قبل القبيلة).

إلا أن حاجة المجتمع البشري الدائمة للتطور عن طريق إحداثه لثورات اجتماعية أو انتقاله من حالة معيشية إلى أخرى قد جعل القبيلة تمر بأوضاع صعبة لاختبار مدى أصالة القيم التي تدعيها لنفسها. فبين الانتصار لهذه القيم الأصيلة وبين الانصياع وراء انتهازية الزعماء بحجة الحفاظ على تماسك القبيلة وترابطها!.. وقد حفظ لنا التاريخ بأن الغلبة كانت دائما ما تميل إلى صالح الانتصار للقيم الأصيلة.

ويمكن التدليل على هذا الزعم بالحالة التي كانت عليها قريش بعد ظهور الإسلام. فانتهازية بعض زعمائها جعلتهم يعمدون إلى الإدعاء بتعارض قيم الدين الجديد مع قيم قريش النبيلة (فهو الدين الذي يفرق بين المرء وأهله، وبين المرء وزوجه، كما يدعو إلى نبذ كل ما كان عليه الآباء والأجداد من أعراف وقيم..)

وقد قاد هذا التفكير الانتهازي إلى تضييق أفق رؤية هؤلاء الزعماء فلم يبرح شعاب مكة (سأل الأخنس بن شريق عمرو بن هشام بن المغيرة (أبو جهل) : \"أترى محمداً يكذب ؟\"، فقال أبو جهل: \"ما كذب قط وكنا نسميه الأمين، ولكن إذا كان في بني هاشم السقاية والرفادة والمشورة ثم تكون فيهم النبوة فأي شيء لبني مخزوم\" ؟.(. ولم يكن ليدر بخلد أحدٍ منهم، أنه حينما تنتصر قريش ـ في الأخير ـ لقيمها الأصيلة، ستُفتح لها أبواب الأرض، ويأتي اليوم الذي يقول أحد أبناءها – مخاطباً السحاب –\"أمطري حيث شئتِ، فسوف يأتيني خراجك\"!.. بينما طويت صفحات هؤلاء الزعماء مذمومةً مدحورةً.

إن هذا التاريخ يدعونا إلى التذكّر وأخذ العظة، فالمرحلة الحالية التي تمر بها اليمن تتشابه إلى حد بعيد مع الفترة التاريخية التي تم الإشارة إليها ، أي فترات التغيير الكبرى.

والنظام اليمني يدرك جيداً الأهمية التي تكون عليها القبيلة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليمنية، لذا فهو يحاول جاهداً في الفترة الأخيرة التركيز عليها واستمالتها بشتى الوسائل، والإكثار من الالتقاء بمن يعتقد أنهم يمثلونها بصورة يومية (وربما لعدة مرات في اليوم!) حتى أن اهتمامه بها قد فاق الاهتمام الذي كان يبديه تجاه القوات المسلحة في الأيام الخوالي.

وإن كان هذا الاهتمام ليس بجديد على المتابع للشأن اليمني، فقد دلّلت الكثير من الدراسات على أن مرحلة نظام الرئيس على عبدا لله صالح هي المرحلة التي كانت فيها القبيلة أكثر حضوراً في كل مناحي الحياة على مستوى الوطن ككل حتى أنها جاوزت حضورها في المرحلة الإمامية.

وبالرغم من ذلك، فإنه ينبغي التنبيه والتأكيد على أن هذا النظام نفسه، وعلى امتداد تاريخه الثلاثيني، لم ير القبيلة إلا بوجهها السلبي، حيث رسم لها صورة غاية في البشاعة، فقد أظهرها ـ من خلال العلاقة التي حاول أن يبنيها معها ـ في قمة الانتهازية والعجرفة ولديها استعداداً فطرياً كبيراً لبيع الدنيا والآخرة مقابل فتات مصلحة؛ وبما يتناقض مع القيم والأعراف التي تدعو إليها ويتشرف أفرادها بحملها. (فهل من المعقول مثلاً، وتبعاً للطريقة التي يتعاطى بها النظام مع القبيلة في نظريته الشهيرة \"الرقص على رؤوس الثعابين\"، أن يكون\"القبيلي\" ثعباناً يتلوى تحت أقدام الراقص طمعاً في أن ينال قطرة من عرق ذلك الراقص؟!!).

لقد ميّع هذا النظام القيم والأعراف التي تعتز القبيلة بحملها ـ مثلما ميّع كل شيء، فهو نظام ليس لديه من القيمة شيء، أجوف الأخلاق، لذا كان يرى الجميع بعين طبعه ( ليس أدل على ذلك من سلوك الأشخاص الذين يتحلقون على موائده خلال السنوات الأخيرة).

إن القبيلة اليوم مدعوة لأن تخلع هذه الحلة التي حاول نظام الرئيس صالح أن يلبسها إياها بانتصارها لقيمها الأصيلة. فالفترة حرجة، بل وحرجة للغاية، مفتوحة على كافة الاحتمالات والمآلات، والدور يأتي عليها ليكون لها موقف إيجابي وفاعل من عملية التغيير التي ستأتي لا محالة حتى يولد هذا التغيير ـ المنشود ـ في أكمل صورة وبأقل الخسائر الممكنة.

وعلى الجميع أن يدرك – خصوصاً النخب التي تنتمي إلى القبيلة ومازالت متقاعسة عن القيام بعملية التنوير المطلوبة ـ أن منطق العصر لن يقبل العزلة والانكفاء بعيداً على الذات. فعلينا أن نتغير من الداخل قبل أن يأتي الطوفان ليغيرنا. كما أن المنطق القديم القائل \"إن الصحراء التي تغطي الجزء الأكبر من سطح شبه الجزيرة العربية تعوق تحركات الجيوش والتجار، وتحفظ عبر القرون – دون تغيير – صفات سكانها وأحوال معيشتهم\" قد ولى، فهذه الصحراء أصبحت مروجاً خضراء من الوسائل الحديثة ومنطقها، ليس أدل على ذلك من \"قناة الجزيرة.. تهدأ، لتتسارع أكثر!\"، ولن يفصلنا شيئاً ما عن التغيير الكلي.

وعلى الجميع أن يدرك أيضاً، أن العيش في كنف مجتمع حديث لا يقارن بالعيش في ظل مجتمع بدائي أيّاً كانت الامتيازات التي يمنحها هذا الأخير. لذا، فالكل مدعو اليوم للمشاركة بصورة فاعلة وإيجابية لصناعة تاريخٍ فارقٍ وغدٍ مشرقٍ.

elyaf3ee@hotmail.com