عابر سبيل في رحاب المدينة الفاضلة
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 25 يوماً
الإثنين 19 إبريل-نيسان 2010 07:44 م

نود من خلال هذا المقال أن نخرج تماماً عن نمط الكتابة الجائرة المعتادة في صحافتنا، نمط الظلم والجور والبغي والاعتداء ، ونكران جوانب الأمل والخير والإشراق في أمتنا ، رغم كثرتها الكاثرة .

صحيح أننا بلا شك في أزمنة الظلم والجور ، لكن ثمة ظلماً وجورا يرتكب يغفل عنه الكثيرون ، لعل من أبرز مظاهره ، التعدي والظلم والبغي الصحفي والإعلامي في الحديث عن سوداوية عصرنا وظلمته المعتمه ، والتعامي عما فيه من جوانب مضيئة ومشرقة وجميلة ورائعة وبديعة ، تملأ أرجاء هذا الكوكب الفسيح ، ولو لم يكن في عالمنا بعض خير وإيمان وصلاح ، لذهب الله به وأقام الساعة ، فالساعة إنما تقوم على شرار الخلق وخلو الأرض من الصالحين أو المصلحين .

لا أخفي القارئ سراً أنّ الحديث الذي سأسطره هنا ليس من قبيل نسج الخيال ولا يعد وهماً من الأوهام ، أو رؤية منامية رائعة ، أو طيبة قلب زائدة ، أو رؤية سطحية غافلة ، كما يفهم من عنوان المقال ، بل هو حقيقة واقعية مسطرة يعرفها كثير من الناس ، لكن ثمة موانع تمنع من الحديث والإفصاح عنها ، ربما لعلّ من أبرز هذه الموانع العصبيات الوطنية والطائفية والحزبية.

لا أرى مناسباً هنا التطرق تفصيلاً إلى هذه الموانع ، فموضوعنا هو الحديث عن المدينة الفاضلة ، التي أجزم أنها ليست معدومة على كوكب الأرض ، بل ستجدونها في كثير من المواطن في أمتنا المليئة بالخير والبركة وإلى أن تقوم الساعة ، قد تجدون بعض أجزاء هذه المدينة الفاضلة على ضفاف نهر النيل الأزرق أو الأبيض ، أو في عمق صحراء حضرموت اليمن ، أو في بعض أجزاء من جزيرة الإسلام ، الجزيرة العربية .

ربما أيضاً قد لا تكون هذه المدينة الفاضلة بهذا الوصف في محيط محدد جغرافي إلا أن أجزاءً منها في هذه البقعة من الأرض أو تلك ، إنها قَطعاً موجودة على خريطة العالم الإسلامي ، وأجزم أنها غير موجودة قطعاً على خريطة أوربا أو الأميريكيتين ، رغم ضجيجهم الإعلامي الفج في الحديث عن نهاية التاريخ ، وأنهم بلغوا منتهاه.

أول ما يلفت ناظريك في المدينة الفاضلة هو قلة أجهزة الأمن في هذه المدينة ، ليس لأجل نقص في العدد أو الإمكانيات ، أو أن كل من فيها هم أجهزة أمن ، بل الحاجة إليها نادرة جداً ، فالمدينة الفاضلة هي مدينة السلام والحب والتآخي بين الناس ، شعب المدينة الفاضلة شعب مثقف متحضر ، رغم بدويته ، فلا يحتاج إلى ثكنات عسكرية تسيّره ، أو تسوقه سوقاً بالحديد والنار ، فهذا أمر لا تجده في المدينة الفاضلة ، وأذكر أنه وقعت مرة جريمة سرقة لأسطوانة غاز ، في ليلة باردة مطيرة ، وأنه تم استعادة هذه الأسطوانة ، في نحو عشر دقائق ، حيث أحاطت أكثر من عشرين سيارة نجدة بالحي ، إلى أن تم القبض على السارق ، في غضون عشر دقائق!! .

في المدينة الفاضلة تختفي الفوارق والعصبيات ، فحين تتقدم لعمل ما في الجامعة أو غيرها من مؤسسات المدينة الفاضلة ، لا تحتاج إلا إلى ملف تضع فيه مؤهلك ، ولا تحتاج في المدينة الفاضلة ، إلى وساطة أو تزكيات من خمسين عالماً ، كما لا تحتاج إلى المرابطة لعام أو عامين على باب رئيس الجامعة ، ونظرة يا حضرة ، ولا يحتاج أيضاً أن تحمل على بطنك خنجراً أو تحمل سلاحاً ، لتأكيد الهيبة والرجولة الكاذبة ، كما لا يحتاج أن تحمل على رأسك عمامة ضخمة ، ولا يحتاج أن تصطحب معك شخصاً يعرّف بك أنك من قبيلة كذا ، المعروفة بالبطولة والجهاد ، بل يكفي أن تأتي بورقة أو ورقتين يتيمتين في ملفك لا أكثر ، تثبت بها مؤهلك وجدارتك لهذا العمل ، عندها مباشرة يلقاك الموظف المختص بالسلام والترحاب ، الخالي من الابتسامة الصفراء.

وبالطبع لا يجرأ الموظف المختص أن يسألك بعض الأسئلة المحرّمة بتاتاً في المدينة الفاضلة ، مثل الأخ مِن أين ؟!!!!، لأن المدينة الفاضلة تلغي دور العصبية الجاهلية ، وتعتبر الناس جميعا سواسية كأسنان المشط ، بصرف النظر عن بلدانهم وأوطانهم وقبائلهم واتجاهاتهم وقناعاتهم ورؤاهم الفكرية أو الثقافية أو انتماءاتهم المذهبية ، أو أشكال عمائمهم الهندسية.

لا يحتاج الأمر لتعيينك كثرة الذهاب والخروج على حضرة رئيس الجامعة ، عافاه الله ، والتزلف إليه ، وأن تمدحه بأنه مجدد القرن الخامس عشر الهجري ، ولا أن تثبت بين يديه أنك من الأولياء والصالحين من خلال المظهر الكاذب ، أو أن الآخرين ينقصهم معيار \"التزكية\" بل تنتظر بضعة أيام ريثما يتم فحص أوراقك ، والتأكد من الحاجة إليك ، ليصلك اتصال هاتفي بضرورة حضورك إلى الإدارة .

وفي المدينة الفاضلة تجد بجوار المدينة الجامعية ، المدينة السكنية ، والتي أعدت بكل الخدمات ، من مياه وكهرباء وصرف صحي ، وهاتف ، وشوارع وطرقات ، وكل ما يحتاجه مواطنوا المدينة الفاضلة ، حيث يعد كل شيء في المدينة السكنية ويجهز قبل أن تبنى حبة طوب واحدة ، الأمر الذي يكشف لك أهمية التخطيط في المدينة الفاضلة .

وفي المدينة الفاضلة يبنى المسجد قبل أي شيء آخر ، كما تَهَب المدينة الفاضلة مواطنيها قطع الأراضي ، وفق الأسبقية في التسجيل ، بغض النظر عن أي معيار آخر ، كالقرابة أو الوظيفة أو المركز الاجتماعي ، أو القبيلة أو من حزب الرئيس ، أو من قبيلة الشيخ أو حرسه الخاص ، أو غيرها من الترهات ..الخ.

وفي المدينة الفاضلة لا تجد متسولاً أو مجنوناً يجوب الشوارع ، فالمدينة الفاضلة كفلت للجميع حد الكفاية ، لا حد الكفاف ، فللمسنين رواتب تكفيهم ، وللمطلقات والعوانس ومن في حكمهم ما يكفيهم للعيش الكريم ، وللمزارع راتب شهري ، بحسب ما لديه من أنعام ، سعياً من المدينة الفاضلة لتشجيع مزارعيها ، حتى لا تُهجر الأرض ، فالأرض في المدينة الفاضلة تعني الشيء الكثير ، فهي أغلى من الذهب والفضة والبترول ، لأنها مصدر الخيرات والبركات ، ولذا فالمدينة الفاضلة تبذل قصارى جهدها لارتباط المواطن بأرضه .

وفي المدينة الفاضلة أول ما يدهشك القضاء العادل والنزيه والنظيف ، فمن الخيال المحال أن تتصور أن قاضياً مدخناً ينفث سيجارته في أروقة المحكمة ، دون نظر إلى قانون أو ذوق أو أدب ، فالقضاة في المدينة الفاضلة هم العلماء والأئمة الأبرار ، علماً أنه ليس في المدينة الفاضلة محاكم غير شرعية ، فكل المحاكم في المدينة الفاضلة محاكم شرعية ، ولا يجوز أن يتولى مهنة القضاء سوى العلماء المعروفون بالخير والصلاح والعلم والفقه ، والمشهود لهم بالعدالة والوسطية.

وفي المدينة الفاضلة تجد التعليم متنوعاً بلا غضاضة أو إشكال ، ففي المدينة الفاضلة تجد التعليم الديني على سبيل المثال يحظى بغاية العناية والرعاية ، ومدارس تحفيظ القرآن الكريم ، أشبه ما تكون بالجامعات من ناحية المباني والمعامل والإدارات والأروقة الأشبه بمعرض فكري ما أن تدخلها حتى تأبى قدميك مغادرة المكان ، لما تجده من اللوحات والمجلات الفنية التي تأسر قلبك قبل ناظريك .

وفي المدينة الفاضلة تجد شرطة اسمها شرطة الآداب العامة وحماية الفضيلة ، هذه الشرطة تؤدي دوراً رائعاً ورائداً في حماية الدين والأخلاق ، فلا تكاد تجد المعاكسات أو التبرج والسفور أو المجاهرة بالمنكرات.

ليوم الجمعة في المدينة الفاضلة مذاق خاص ، وطعم آخر ، فمذهبنا ومذهب جماهيرنا من طلبة العلم المستفيدين ، أننا لا نحضر لصلاة الجمعة إلا قبل أن يصعد الإمام المنبر ببضع دقائق ، وهو الأمر الذي ترفضه أعراف المدنية الفاضلة ، بل يجب التبكير - الوجوب وجوب عرفي لا شرعي - عندهم لصلاة الجمعة.

ففي يوم الجمعة 24/4/1431هـ زرت صديقي أبا علي ، وهو مع أميّته إلا أنه لا يكاد يفوته صيام الإثنين والخميس ، جئته قبل صلاة الجمعة بنحو ساعة ونصف ، وهو في حالة انزعاج شديد بسبب تأخره عن التبكير للجمعة ، على خلاف مذهبنا ومذهب الجماهير ، وحينما دخلنا المسجد سارع إلى الصف الأول ، حاولت ثني الرجل عن الصف الأول وقلت له الأفضل عند بعض العلماء الجلوس بين يدي الخطيب ، قبالته وبين يديه ، ولو جلسنا في الصف الأول أو الثاني ، فالمهم الجلوس بين يدي الخطيب ، إلا أنّ الرجل بحاسته الإيمانية ، رفض هذه الفتيا الفقهية ، فقد شعر بحسه الإيماني أن فُتايي إنما تدور مع العمود حيثما دار ، فنفسي تميل إلى أعمدة المسجد ، أكثر مما تميل إلى الجلوس بين يدي الخطيب ، ولذا أبى أن يتزحزح عن الصف الأول ، الأمر الذي جعلني أجلس معه ، قائلاً في نفسي ، اللهم إيماناً كإيمان أبي علي .

شعرت بسعادة غامرة وحلاوة لا توصف للتبكير لصلاة الجمعة ، ففي التبكير من الأنوار والمواهب الربانية والفيوضات الرحمانية والكرم والمكارم الإلهية ، والخير والبِشْر والجمال النفسي ما لا يوصف ، حينها عزمتُ على ترك مذهبي ومذهب جماهيرنا ... سيما بعد سماعي لخطيب الجمعة الذي لا يقل مستواه العلمي عن درجة الدكتوراه .

فالمدينة الفاضلة لا تلقي بآلاف الناس بين يدي الأميين أو أنصاف المتعلمين أو بعض المخرفين والمبتدعة والمضلين ، أو أئمة الغلو والتطرف ، ليعبثوا ويلهوا بعقول الناس كيف شاءوا ، بل تحرص المدينة الفاضلة على اختيار الخطباء المؤهلين علمياً وشرعياً ، ممن يدينون بالحب والولاء لدينهم ومجتمعهم ومدينتهم الفاضلة ، من ذوي العلم والفقه والتدين الوسطي .

أختم هذه المقالة بالقول بأنه لا شك أن ثمة زوايا مظلمة ولا بد في المدينة الفاضلة ، ولو لم يكن ثمة سلبيات وزوايا غير حميدة ، لكانت هذه المدينة المباركة جنة الدنيا ، لكن يأبى الله إلا أن تكون الدنيا دار ابتلاء بالخير والشر ، إلا أنني هنا حرصت على إبراز الجوانب المشرقة دون المظلمة أو الموحشة ، ليلتئم العنوان والموضوع ولا يتنافرا ، وتركت الحديث عن الأخطاء والسلبيات لأقلام الصحفيين ووسائل الإعلام ، التي كما يعلم الجميع ، هي صاحبة السبق والسابقة واليد الطولى في هذا الميدان ، وإنما حرصت كما ذكرت على مغايرة هذا الأسلوب الصحفي الجائر ، فإن وفقت فمن الله وإن أخفقت فمن نفسي والشيطان ،،،

والله من وراء القصد ، والحمد لله رب العالمين ،،،