قدرها مليار دولار..مصادر إعلامية مُطلّعة تتحدث عن منحة سعودية لليمن سيعلن عنها خلال أيام الجيش الأميركي يكشف عن طراز المقاتلات التي شاركت في الضربات الأخيرة على مواقع الحوثيين يد البطش الحوثية تطال ملاك الكسارات الحجرية في هذه المحافظة افتتاح كلية التدريب التابعة لأكاديمية الشرطة في مأرب اول دولة توقف استيراد النفط الخام من إيران تقرير حقوقي يوثق تفجير مليشيا الحوثي لِ 884 منزلا لمدنيين في اليمن. منفذ الوديعة يعود لظاهرة التكدس .. وهيئة شؤون النقل البري تلزم شركات النقل الدولية بوقف رحلاتها إلى السعودية المبعوث الأممي يناقش في الرياض مع مسئولين سعوديين معالجة الأزمة الاقتصادية في اليمن وقضايا السلام أسباب وخفايا الصراع بين فرعي العائلة الملكية في قطر وقصة الجوهرة الماسية التي فجرت الخلافات توجه لإلغاء تقنية الفار من مباريات كرة القدم واستبدالها بـ(FVS).. ماهي؟
على ما أظن، توجد طرائق لا تحصى لممارسة الوطنية.
فمثلا بوسع أحدنا أن يكتب عن الوطن بالطريقة المستهترة في "دفاتر ديغوبيرتو"، الرواية الشهيرة لماريو بارغاس يوسا. فها هو ديغوبيرتو يتطرق في واحدة من رسائله، بنوع من التهكم والرثاء، لأولئك الوطنيين المتحمسين وخفقة النشوة التي يبعثها مشهد العلم المرفرف مع الريح، والدغدغة في العروق والقشعريرة وانتصاب شعر البدن التي تسببها موسيقى وكلمات النشيد الوطني. يمكن أن تكون وطنيا دون أن تنتمي، بحسب وصف ديغوبيرتو، إلى ذلك الخليط من الذكور والإناث الذين ينظرون "بإجلال للأشخاص البارزين الذين يزينون الساحات العامة، ويتأسفون لان الحمام تشخ عليهم".
بإمكانك أن تتصرف على غرار شارل ديغول المشبع بشعور الكرامة الفرنسية، أو حتى على غرار هتلر. أو أن تكتب على طريقة بابلو نيرودا: الوطن، كلمة حزينة، مثل كلمة ترمومتر أو مصعد. أو جونسون القاتل، (لقب يطلق في أوربا على الرئيس الأمريكي جونسون خليفة كنيدي، والذي دارت شكوك بوقوفه وراء عملية اغتيال كنيدي): "الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد"، جملة منسوبة لجونسون.
أو أن تقوم بمحاكاة جلبرت ك. تشيستيرتين، مؤلف "الدفاع عن الوطنية"، حينما كتب أن "أنا مع بلدي، مصيبة كانت أم مخطئة"، جملة لن يُقدم أي وطني على التفوه بها إلا في حالة اليأس. فهي كقول المرء "أنا مع أمي، سكرانة كانت أم فايقة!".
ربما أريد القول أن الفعل الوطني نسبي ومتفاوت بأكثر مما نظن. لا توجد آلة قياس موحدة للوطنية.
هل سمعتم شيئا عن اختبار الكريكيت. "هلل لفريق الكركيت البريطاني وستكون على ما يرام"، هكذا كان المهاجرون التواقون للاندماج في المجتمع البريطاني يفكرون، بحسب آمارتيا صن، مؤلف كتاب الهوية والعنف، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد. يسرد امارتيا صن البريطاني من أصول هندية، كيف كانت الحكومة البريطانية تطالب المهاجرين -بإصرار- التخلي عن نظم حياتهم التقليدية وأن يتخذوا أنماط الحياة السائدة في المجتمع الذي هاجروا إليه.
وفي خضم الجدل، أطلق الزعيم السياسي المحافظ، اللورد نورمان تبيت، عبارة "اختبار لكريكيت". يشير الاختبار، طبقا لآمارتيا صن، إلى أن المهاجرين الذين استطاعوا الاندماج جيدا يشجعون انجلترا في مباريات اختبار ضد البلد الأصلي للشخص (باكستان مثلا)، عندما يلعب الجانبان معا.إذن اختبار الكريكيت هو اختبار هزلي لقياس درجة الولاء الوطني.
إنني أنوي هنا ممارسة نوع خاص من الوطنية، وعن طيب خاطر.
في الواقع، لطالما أردت الكتابة عن الوطن. بيد أن علاقتي بهذه الكلمة ظلت غير ودية تماما، شأني شأن الكثير من اليمنيين مع الكثير من الكلمات. إنها من ذلك النوع من العلاقات المضطربة التي تتأسس، بصورة غير متعمدة، على أرضية هشة من الريبة والنفور والالتباس، الالتباس الرهيب الذي لا ينفك يحاصر وجودنا وينال منه.
فيما يخصني، كانت لفظة "الوطن" تستحضر، في مرحلة ما، برنامج "حماة الوطن"، وكلمة الثورة. كانت تبدو لي غامضة أحيانا، ربما لفرط ما كانت واضحة. أتذكر أنني قرأت بأن أشد الكلمات وضوحا، أي الكلمات المتداولة بكثافة، هي اشد الكلمات غموضا وإثارة للجدل والتناقض. خذوا مثلا مفردات مألوفة ونظن أنها على درجة من الوضوح لا تضاهى: دولة، دين، ثقافة، سياسة، سلطة.. وهكذا. مفردات تبدو لأول وهلة بسيطة ومفهومة لكن يصعب تأطيرها في تعريفات مدرسية بسيطة.
وفي كل الأحوال، فعلاقتي بها لم تكن مباشرة ولم تكن شخصية قط. لقد كانت محكومة بآلية تواصل جماعي معقدة، آلية تقتضي عبور فضاء من التأثيرات، والرموز، والايدولوجيا، والوعي الشخصي بالسياسة والتاريخ، والتدرج المعرفي الذي رافق مراحل دراستي المختلفة.
الآن ربما راحت الكلمة إياها تحمل في عقلي الباطن معنى آخر، معنى مستمداً من أكثر الغرائز بدائية: الوجود، ونقيضه اللاوجود، البقاء واللابقاء. أن تكون وطنيا معناه مناهضة كل ما من شأنه تهديد مستوى وجودك، الوجود الجمعي بالطبع، وكل ما يهدد استمرارية الحياة برمتها.
غير أنه لا يمكن لأحد أن يمارس الوطنية على طريقة علي سيف العبدلي، مثلا، أو طارق الفضلي، أو عبدالملك الحوثي وعلي سالم البيض. إن سلخ جزء من بلد من البلدان أو تأييد هذا السلخ والتواطؤ معه لا يمكن أن يكون فعلا وطنيا بكل المقاييس أكانت ليبرالية، يمينية أو يسارية، ديمقراطية أو ثيوقراطية أو اوتوقراطية.
لا يصلح المنطق التاريخي للمجادلة بلا وحدوية اليمن. رغم أن استخدام هذا المنطق بموضوعية ونزاهة يؤدي إلى نتيجة مؤداها أن اليمن أمة واحدة عبر كل العصور. وحتى لو لم تكن كذلك فمعظم الدول العربية المعترف بها حاليا لم تكن موجودة على الخريطة قبل 100 عام من الآن: السعودية، لبنان، الإمارات، العراق، الجزائر، ليبيا.
إنني أميل إلى المبدأ القائل بأن "وجود أمة ما هو في الحقيقة استفتاء يوما اثر يوم"، والعبارة لايرنست رينان. قليلة هي الأمم التي تمتلك دولها استمرارية تاريخية.
حتى الأمم الغربية تزخر بموروث تاريخي مجزأ ومضطرب، ومرت بمراحل تشكل تاريخي حتى بلغت ما تبدو عليه من النضج والاستقرار والتماسك. كثير من الدول توحدت في البداية بالضم والغزو. حتى بريطانيا العظمى والمانيا والولايات المتحدة الامريكية وفرنسا.
لست مع الضم ولا مع الغزو، لكن لا أستطيع تفهم نزعات الانفصال. سأفترض أن تقرير المصير حق مكفول، رغم أن مبدأ أممياً آخر يؤكد حق الدولة في الحفاظ على ترابها الوطني، بمعنى أنه يقف على النقيض من مبدأ تقرير المصير. وسأفترض أن هناك هوية جنوبية، رغم أن حوالي 50 بالمئة من سكان المحافظات الجنوبية لم يبصروا النور في ظل جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي استمرت 21 سنة فقط (أكثر بسنة واحدة من عمر دولة الوحدة)، ورغم أن ما من دولة مركزية نشأت في الجنوب قط قبل اتحاد إمارات الجنوب العربي 1959، الاتحاد الذي لم يضم حضرموت.
سأسلم جدلا بكل اطروحات الحراك. لكن فك الارتباط يظل خياراً مجنوناً. هل قرأتم "ثأر الجغرافيا"، المقالة التي نشرتها مجلة فورين بولسي، قبل سنتين. للجغرافيا أحكامها التي لا رجوع عنها. فروبرت كابلان يبين في مقالته "ثأر الجغرافيا" كيف أن اليمن المكتظ بالسكان والأسلحة المكدسة والمحاربين، اليمن المحاصر بشحة موارده والمهدد بالجفاف، هو الشبح الذي يهدد الاستقرار في منطقة الجزيرة العربية.وفك الارتباط سيعني تلقائيا وضع سكان الشق الشمالي من البلاد أمام سؤال وجودي لا مفر منه، سؤال غريزة البقاء الإنسانية. 20 مليوناً في رقعة جغرافية ضيقة شحيحة الموارد وسبل العيش معدومة. وإزاء هذه الحقيقة، أسيبقى تشييد كيانات جديدة على مقربة من هؤلاء أمرا ممكنا ومعقولا؟ من بوسعه أن يبقيهم قيد السيطرة؟ أيستطيع القانون الدولي التحكم في الغرائز وضبطها؟...
لا يزال من المتعذر استحضار أي نموذج لأي أمة في محاولة لشرح وتفسير ما يحدث في اليمن. ألمانيا تحضر باستمرار لسبب بسيط: تلك المصادفة المحضة، إن جاز التعبير، المتمثلة في التزامن التاريخي بين إعادة توحيدها مع توحيد اليمن. والحدثان، مع أحداث أخرى مشابهة، كانا بمثابة الستارة التي أسدلت على حقبة الحرب الباردة المشحونة بالتوتر والقلق والتجاذب.
يذكر الكاتب في صحيفة شبيغل انترناشيونال الألمانية، كاميرون آبادي، في مقالة نشرت العام الماضي، هذه القصة: ذات صباح شتوي في أواخر عام 1989، اقترب رجل شاب من غونتر غراس في محطة القطارات الرئيسية في هامبورغ واتهم اشهر كاتب على قيد الحياة في المانيا بأنه "خائن لوطنه". لقد كان هذا الرجل "يعبر عن شكل من أشكال ما كان حينذاك شعورا شائعا"، يقول كاميرون.
كان جدار برلين قد تهاوى لتوه. وبينما كانت خطوات إعادة توحيد الشقين الغربي والشرقي من البلاد تسير بخطى حثيثة، والحماس الوطني في أوجه، لم ينأ غونتر غراس بنفسه عن الاحتفال فحسب، فلقد راح يبذل قصارى جهده، بحسب كاميرون، لإخماد أنفاس هذا الاحتفال، زاعما في خطب ومقالات أن ألمانيا الشرقية "ستكون أحسن حالا لو أنها حافظت على استقلالها لمدة من الزمن، بدلا من أن تسارع إلى إلقاء نفسها في أحضان الغرب".
"وكانت هذه الدعوة إلى الحذر بالنسبة للعديد من الألمان فعل خيانة"، كتب كاميرون.
لكن الوحدة الألمانية اكتملت. ورويدا رويدا أخذت الفجوة الاقتصادية تتقلص بين الشطرين. غير أن غونتر غراس لا يزال يوصف بعد 20 عاما من إعادة توحيد ألمانيا بالمتشكك الكبير. فهو لا يكف عن الاعتقاد بان التوحيد كان مجرد رغبة غربية لقلب الشرق رأسا على عقب "عمارة سكنية متداعية".في مقابل غونتر غراس يحضر البردوني. فهذا الوحدوي العظيم كشف في حديث صحفي روحية التشاؤم التي قال إنها اعترته بإزاء الوتيرة المتسارعة التي راحت تتحقق بها الوحدة اليمنية. ففي لحظات التحول المفصلية لحياة الأمم، تتعالى الأصوات وتحتدم وجهات النظر. لكن في نهاية النهايات لا يعود مقبولا أن يبقى وجود الأمة موضع تساؤل.
الوحدة الألمانية رغم كل شيء تمر بمتاعب. فالألمان الشرقيون والغربيون لا يزالون يضمرون شكوكا عميقة متبادلة. يقول كاميرون: "فالصور النمطية راسخة بشكل عميق وهي تستدعى اليوم بالفعل: "الشرقيون" عنصريون، وكسالى، ومثيرون للشفقة على أنفسهم بأنفسهم، في حين أن الغربيين أنانيون، ومولعون بالمال، ومتعجرفون".
الإحصاءات تظهر كيف أن الألمان المتقابلين على المناطق الحدودية السابقة نادرا ما يتزاوجون. حتى إن رئيس البرلمان اعترف، وفقا لكاميرون، عام 2007، هكذا: يبدو أن الشرقيين والغربيين لا يطيقون بعضهم.
... يمكننا أن نؤجل التصور المثالي للوطنية. تلك الوطنية التي نستطيع من خلالها المواءمة بين مقتضيات الروح الجمعية التي تحفظ مستوى وجودنا المشترك، وروح الفردانية التي تحمينا من التحول المشين إلى مسوخ، وتحمينا من الانفصام والتخثر.
الفردانية التي تحفز ملكة المبادرة والابتكار والحيوية، الفردانية التي تسمح بدرجة ما من الحق في التجريب والطيش والمغامرة وفتح الثغرات.
يقول باراك أوباما، في كتابه جرأة الأمل :"إذا كنا نحن الأمريكيين فردانيين في الصميم، فقد ارتبطت فردانيتنا -على الدوام- بمجموعة من القيم الجماعية. نحن نقدر قيمة المجتمع والجيرة، نقدر قيمة المشاعر الوطنية والتزامات وواجبات المواطنية، والإحساس بالواجب والتضحية في سبيل الأمة. نحن نقدر الإيمان بشيء أكبر من أنفسنا.
نحن نقدر قيمة مجموعة السلوكيات التي تعبر عن احترامنا المتبادل تجاه بعضنا بعضا: الصدق الأمانة، العدل والنزاهة، والدماثة واللباقة، والتواضع واللطف، والتراحم والإحسان".
كان النمساوي كارل كراوس متهم بالتصرّف إزاء بلده كـ"العصفور الذي يدنّس عشّه".
وكان هذا الكاتب الساخر، الذي عاش بين عامي 1874-1934، يجادل بأنّه من الممكِن جدّاً، في بعض الظروف، أن نشعر على العكس بأنّ عشّنا هو الذي يدنّسنا، وبأنّنا نشعر بالحاجة الشرعيّة لجعله، إن أمكن، أكثر نظافةً بقليل. فكان أن "استشاط غيظ هؤلاء المُدنّسين، لدرجةٍ لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحياة الثقافية"، يقول كراوس.
هذه القصة وردت في سياق مقالة نشرتها اللوموند الفرنسية، الشهر الماضي، تتناول المفكر الأمريكي اللامع جدا نعوم تشومسكي. والأخير نغمة منفردة تقف على الناحية الأخرى من البروباغندا الأمريكية العملاقة والنافذة. رنة متصاعدة في فضائها الخاص، الرنة التي تلتقطها أسماع كل من ناله نصيب من الأذى الأمريكي الكوكبي. "رنة الصبي العظيم في لعبة عظيمة"، والتعبير الأخير للناقد الانجليزي كينيث جراهام أثناء تحليله لروايات هنري جيمس.
مؤخرا ألف تشومسكي كتاب "الدولة الفاشلة". ولسوف يكون العنوان بالنسبة لي فخا أربكني.
ففيما كانت التقارير الدولية تطلق التنبؤات بالفشل الوشيك للدولة اليمنية، انتابتني رغبة لمعرفة ما الذي يعنيه كون الدولة فاشلة، المصطلح الجدلي الذي يقال إنه أطلق لأول مرة في ولاية كلينتون وكان حينها يشير إلى صنف معين من الدول التي ترفض الانقياد للولايات المتحدة الأمريكية (أطلق على بعضها في ولاية بوش الدول المارقة، وأحيانا محور الشر).
لمحت عنوان كتاب تشومسكي في رف المكتبة. وقمت باقتنائه: الدولة الفاشلة. من سوء حظي لم يخض تشومسكي في المفهوم، ولم يقدم مؤشرا للدول الفاشلة ولا معايير من أي نوع.
لقد شعرت بخيبة أمل، لأن الدولة التي يشير إليها العنوان ببساطة هي الولايات المتحدة الأمريكية بالذات.
لكن تشومسكي يحب أمريكا، لا شك. ولم نسمع أنه وضع مقاربات للبرهنة على أهمية تفكيك الولايات الأمريكية، ولا عن حق تقرير المصير في الاسكا أو تكساس. ولا سمعنا بأنه قام يوما بتأييد ما تبقى من ميل الجنوبيين الأمريكيين لاستعادة كونفيدراليتهم التي قوضتها الإرادة الصلبة لابراهام لينكولن....
سأزعم بأن علاقتي بالكلمات حسية أكثر من اللازم. وعليه، فكل ما قمت به الآن هو إعادة ربط الخيط بين مفردة "الوطن" وبين صحفي كان يخشى النظر إليها بمعزل عن آلية التواصل المعقدة تلك التي تقتضي عبور فضاء من تأثيرات، ورموز، وايدولوجيا، وأشخاص يتربعون على منصة تحكيم.
كنت أشرع بالكتابة وفي حسباني دائما الكيفية التي أحمي بها حقل مفرداتي من أن تقتحمها بغتة كلمة "الوطن". كان لحقل مفرداتي سياج منيع وحارس يقف بالمرصاد لكلمة "الوطن"، كان يطردها مثلما يطرد المرء الذبابة المذهبة. لكنني سأطرد من الآن فصاعدا روح الامتثالية العمياء التي تشيطن كلمات وتضفي على كلمات أخرى معنى براقا، سأطرد تلك الروح مثلما يطرد المرء ذبابة البراز.
أنا أعشق اليمن وأخاف عليه. سيقول العميقون جدا والحداثيون بأن هذه رومانسية وطنية مبتذلة وتخطاها الزمن، وسيقول السطحيون والسذج بشيء من الشفقة الحزينة، لا شيء في اليمن يستحق العيش لأجله، الحياة غير ممكنة هنا وبالتالي من المتعذر الوقوع في حب الأمكنة القاسية. وكل هؤلاء وأولئك يعرفون -دون أدنى شك- كم أن محبتنا، أو لا محبتنا، لليمن لن تغير من حقيقة كوننا على المركب المترنح نفسه، وما يمكن أن يمس وجوده الآمن في لجة البحر يمسنا كلنا عن كثب.
...
هل علي أن أخضع لاختبار الكريكيت؟على الدوام امنح نفسك الحق في أن تكون أنت.
أظنني فكرت مؤخرا على هذا النحو. لكنني -ويا للمفارقة- قلما أجرؤ أن أكون نفسي، قناعاتي، أذواقي، مثلي. قلما أجدني غير مضطر للمواربة أو التصنع والرياء. قلما أكون شجاعا بما يكفي للإفلات من الجبروت المكشوف لهذه "الإمتثالية" الضارية بلا هوادة، التخريبية بأكثر مما يمكن لجدار نزعة الفردانية الهزيل، احتماله.
أن تتصرف دائما وكأن ثمة شخصاً يتربع على المنصة، يمحصك، ويقيمك، ويملأ خانة الدرجات التي تستحقها، فهذا ما لا تطاق معه الحياة. أوه، من أعطى كل هؤلاء الأشخاص الكريهين المتربعين على منصة التحكيم، الأشخاص المبتعثون من الإله أو من الشيطان، من أعطاهم سلطة تصميم المعايير وأدوات القياس وإطلاق نعوت الشرف واللاشرف، الخيانة واللاخيانة، الوطنية واللاوطنية.
رغم كل شيء، إلا أنني لا أزال أجد أنه من الصعوبة بمكان أن يمارس المرء حقه في أن يكون نفسه بشكل تام. بالنسبة لي، كثيرا ما أربكتني هذه الفرضية القائلة بأن الإنسان ليس ما يظن نفسه، بل ما يظن الآخرون أنه هو. وعندما أقدم على فعل أشعر أنه يمثل مروقاً عن الامتثالية، عن ما أظن أنه الراسخ والمتعارف عليه، حينها أكون أكثر ميلا للاعتقاد بان الإنسان هو ما يظن نفسه، هو وعيه بذاته، تصوره وفهمه لها، بصرف النظر عن الطريقة التي ينظر بها الناس إليه.
على أن الهوة تبقى كبيرة بين الإنسان كما يرى نفسه، وبين الإنسان كما يراه الآخر. وهذا بديهي ومسلم به.
اتصل بي احدهم ليهنئني على وظيفتي في صحيفة اليمن. وقبل أن يختم مكالمته قال لي بلكنة لو بدرت من غيره لوصفتها بالخبث، لكنها بريئة وتفصح عن محبة وحرص: انتبه لا تتحول إلى مضرب تنس. سأعفيكم من كتابة الطريقة التي رديت بها عليه. لأنني اعرف انه متأثر بجو المحاكمة، الجو الذي يتربع فيه أشخاص على منصة وينهمكون في وضع كل تصرفاتك موضع التقييم والفحص.وعبر الفيس بوك كتب لي شخص آخر بأن مهمة نجاحي في اليمن صعبة. اعترفت له بحقيقة أن العمل في الصحافة اليمنية بالغ الصعوبة بشكل عام. وشرحت له كيف أن القائمين على المؤسسة التي تصدر عنها صحيفة اليمن يريدون أن تكون الصحيفة مستقلة إلى حد ما. فرد ة هذا الرجل بغلظة لم أكن أتوقعها. لقد كتب هكذا: عدم قذارة صحيفة اليمن لا يعود إلى استقلاليتها وإنما إلى عدم احتراف القذرين فيها!كتبت له بأن هذا حكم قاس وغير مقبول. وبينت له كيف أن الصحافة اليمنية كلها مشمولة بقدر من التحيزات وشبكات المصالح، وكلها غير معفية من الالتزام السياسي لهذا الطرف أو ذاك.
هذا فريق المحلفين رقم واحد، وقد قال كلمته. "المتهم مدان". هكذا قرر الفريق.
النماذج أعلاه هي تجسيد لضرب من ضروب التفكير التقليدي الذي يرتكز على وهم امتلاك الحقيقة، الحقيقة كما يظنونها وليس كما هي عليه. إنه حصيلة العجز المرير عن تحمل النسبية القاسية للأشياء. إذا لم تكن على حق فأنت على باطل.
إن لم تكن في هذه الضفة فأنت على الضفة المقابلة.
حسن، ألَّا يوجد عدا هاتين الضفتين، ما لا حصر له من الضفاف؟ ألا يحق لي أن تكون لي ضفتي الخاصة؟
هل علي أن أخضع لاختبار "الكريكيت"؟!
*صحيفة اليمن
alalaiy@yahoo.com