آخر الاخبار
ماذا بعد الحكم بعدم دستورية بعض مواد قانون القضاء !!؟
بقلم/ د.خالد عبدالله علي الجمرة
نشر منذ: 11 سنة و 6 أشهر و 13 يوماً
الثلاثاء 11 يونيو-حزيران 2013 05:34 م

تقدّم مجموعة من قضاة وأعضاء نيابة إلى الدائرة الدستورية بدعوى عدم دستورية بعض مواد قانون السلطة القضائية لسنة91م وتعديلاته، وبعد نظر الدعوى من الدائرة المذكورة، أصدرت حكمها في هذه الدعوى الذي صدر برقم20/23 ق.د بتاريخ16/7/ 1434هـ الموافق26/5/2013م ، ، وقد انقسم في تقييم أهميته العدليين والقانونيين من مشتغلين بالقضاء ومحامين وغيرهم إلى فريقين، الأول تحمس للحكم ووصفه بأنه يمثل في ذاته انتصاراً كبيراً لمبدأ استقلال القضاء، بينما الفريق الثاني نظر إليه بأنه حكم تأخر جداً، وورد على نصوص قانونية مُعدّلة، لا يقدّم ولا يؤخر في الآمر شيء مع ما سيكون عليه الوضع السياسي في البلاد قريباً من إعداد دستور جديد يكفل نظام إداري وسياسي قد يسمح بوجود أكثر من نظام قضائي داخل اليمن، ولا يتعدى هذا الحكم وفق رأي هذا الفريق عن كونه محاولة من الدائرة الدستورية للحاق بركب المرحلة السياسية الحالية، وهي التي كانت تتودد دائماً إلى السلطة التنفيذية، وتتجنب بقوة من التصادم معها خلال السنوات السابقة.

إن حكم الدائرة الدستورية موضوع التعليق أنصب في أغلبه على مواد قانونية من قانون السلطة القضائية سبق تعديلها؛ إما بقوانين كما هو الحاصل في المادة (104)، أو بالتعديلات الأخيرة التي أقرها مجلس النواب، والمنتظر أن يصدر بها قراراً من رئيس الجمهورية قريباً ، إذ وجهت الدائرة الدستورية حيثيات وأسباب ومنطوق حكمها على اختصاصات الوزير المتعلقة بشؤون القضاة من تعيين ونقل وندب وترقيه وندب وتفتيش وغيرها، وتحديداً بحسب ما جاء في منطوق الحكم في المواد (191/و ،67، 101،11، 16/ب، 34، 39، 45، 59، 65،/ب-ج-و، 66 ، 67، 68، 69، 70، 72، 73، 85/ب، 89، 90، 91، 92، 93، 94/3، 95، 97، 98، 99، 111/2، 104، 106، 115/2، 118/1)

لعل من أهم ما جاء في الحكم أنه عطّل عضوية وزير العدل في مجلس القضاء الأعلى، عندما قرر عدم دستورية المادة (104) من قانون السلطة القضائية لسنة1991م التي تشكل مجلس القضاء الأعلى، وتوجب عضوية وزير العدل في المجلس، بل ووصفت الدائرة الدستورية في حكمها هذا عضوية وزير العدل بمجلس القضاء بأنه مخالفة لاستقلال القضاء، إذ وجدت الدائرة أنَّ مجلس القضاء بالاختصاصات المبينة بالقانون يمارس اختصاصات تتعلق مباشرة باستقلال القضاء، وحيث وأن المجلس يقوم باختصاصاته هذه بصورة جماعية، أو كما وصفها الحكم بمجموع أعضائه، فإن هذا يعني أن وزير العدل هو كذلك يقوم بهذه الاختصاصات بحكم عضويته، وكونه كما وصفته ممثل السلطة التنفيذية!!، فإن هذا يُعدّ انتهاكاً لاستقلال القضاء، وفق مضمون ما جاء في الحكم.

ويظهر في هذا عدم إدراك الدائرة الدستورية لأهمية أخرى للعضوية المزدوجة لوزير العدل في مجلس القضاء الأعلى والحكومة، غير تلك المتعلقة بمباشرة اختصاصاته في ما يتعلق بشؤون القضاة والمحاكم عبر عضويته في مجلس القضاء الأعلى، إذ أن التقرير بعدم دستورية النص القانوني الذي يجيز لوزير العدل حق العضوية المزدوجة في مجلسي القضاء والوزراء يعني أن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا قد منحت الحكومة فرصة للتحلل من واجباتها تجاه القضاء ، كما أن مثل هذا التوجّه يحرم القضاء كذلك من طريق يستطيع من خلالها بطريقة غير مباشرة حضور اجتماعات الحكومة، والتأثير عليها، وعلى ما تناقشه في جلساتها من مقررات تتعلق بالقضاء، ولعل الذاكرة مازالت تحتفظ بتلك المعركة التي خاضها وزير العدل الحالي في مجلس الوزراء عند إقرار الموازنة السنوية للدولة لأجل زيادة موازنة القضاء، وكيف أنه استطاع أن يضغط على مجلس الوزراء مسنوداً ومدعوماً من مجلس القضاء لتحقيق هذه الغاية.

وللفائدة فأنه كان يمكن استيعاب هذه العضوية المزدوجة لوزير العدل بشكل آمن ومضمون لصالح القضاء، دون أن يهدد هذا استقلاليته، عبر تقديم مقترح بنص قانوني إلى المُشرّع يلزم عند تشكيل الحكومة، أو إعادة تشكيلها، بتعيين وزير للعدل من رجال القضاء كما هو الحال في مصر، وبترشيح من مجلس القضاء الأعلى، وهو نص سيمنح القضاء صوتاً داخل الحكومة عن طريق عضوية وزير العدل، وسيزيد من التنسيق و التعاون بين السلطتين التنفيذية والقضائية، وهي العلاقة التي من المفترض أن تسير عليها السلطتين، بدلاً مما سيكون عليه الحال من تصادم متوقع جداً في المستقبل القريب بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فيما لو انقطعت العلاقة المباشرة بينهما، وهذا من واقع تجارب كثيرة يدفع القضاء ثمنه بالغالب، لا سيما في الدول النامية التي تضعف فيها قوة القضاء وهيبته، لصالح السلطة التنفيذية التي تملك المال والسلطة والقوة.

كما لم تكن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا موفقة بالمطلق في حيثياتها المتعلقة بالدعوى الدستورية قِبل المادة (143) من قانون السلطة القضائية وهي تقرر عدم اختصاصها، حيث يبدو من الحكم وحيثياته في هذه الجزئية أن الدائرة الدستورية تقرر ضمناً عدم اختصاصها في التقرير بعدم دستورية هذه المادة، وهي ربما بهذا خلطت بين فحوى المادة من جهة، و بين موضوع الدعوى من جهة أخرى، فظهر حكمها في هذا الجزء كأنه ينكر وظيفتها واختصاصها الأصيل، فإذا كانت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا غير مختصة بنظر الطعن في دستورية هذا النص القانوني فمن هي الجهة الأخرى التي تجدها الدائرة مختصة بنظر ذلك إذن!!!؟

ومع كل هذا يبقى الحكم محل التعليق علامة فارقة في تاريخ العلاقة بين السلطة التنفيذية والقضائية في اليمن، إذ قررت الدائرة الدستورية عدم دستورية المادة (89) من قانون السلطة القضائية النافذ، وهي المادة التي تمنح وزير العدل حق الإشراف الإداري والمالي والتنظيمي على المحاكم، كما أنها مادة لم تتعرض للتعديل لا في التعديلات النافذة للقانون، ولا في التعديل الأخير الذي أقره مجلس النواب مؤخراً- وهو مشروع للأمانة التاريخية قدَّمه وزير العدل الحالي بشجاعة يشكر عليها لم يجروء عليها من سبقه من الوزراء ، وفيه سحب الوزير على نفسه الكثير من الاختصاصات، وتنازل بها لمجلس القضاء الأعلى - ومع أنه كان يجب على الدائرة الدستورية أن توضح مذهبها في مفهوم الإشراف المالي والإداري والتنظيمي حتى يبدو حكمها بعدم دستورية المادة (89) مقنعاً وواضحاً، خاصة للسلطة التشريعية لتعتنقه عند إعداد تشريعات قادمة تتعلق بالقضاء على اعتبار أن للحكم الدستوري حجيته على الجميع بما فيها السلطة التشريعية، إن هذا التوضيح كان بالغ الأهمية لا سيما وأن الفقرة الأولى من هذه المادة كان قد كشف عن مفهوم استقلال القضاء عند المشرِّع بأنه الاستقلال في إصدار القضاء للقرارات والأحكام القضائية ، مع كل هذا يكون هذا التقرير في الحكم مع ما جاء في مقررات الحكم الأخرى قد تضمن صراحة تعطيل وزير العدل من مباشرة اختصاصاته تماماً في ما يتعلق بشؤون القضاة والمحاكم مالياً وإدارياً إشرافاً وتنفيذاً، وهو ما سيجعله وزيراً محدود الصلاحيات ، وهذا سيثير الكثير من الإشكالات في الفترة القادمة حول مرجعية وتبعية أجهزة وزارة العدل في اختصاصاتها المالية والإدارية تجاه القضاة والمحاكم، والجهة التي يجب أن تخضع لها في أعمالها هذه إشرافاً وإدارة، وهو غموض ومأزق صنعه هذا الحكم، يلزم المُشرِّع المسارعة في معالجته بنصوص قانونية صريحة جديدة، تزيل أي التباس أو تضارب في تبعية هذه الأجهزة ، مما يعني أن القضاء على الصعيد الإداري سيبقى لفترة طويلة مشلولاً حتى يتم إنشاء وعاء يحتضن هذه الأجهزة، ويعيد ترتيبها وفق ما قرره حكم الدائرة الدستورية.

بل إن الحكم بما يترتب عليه يكون قد عطل هيئة التفتيش القضائي، وكذلك جمّد مجلس القضاء الأعلى ، إذ أن الأعمال جميعها وفقاً للقانون المرفوعة للمجلس تأتي من وزارة العدل، أو هيئة التفتيش القضائي، أو النائب العام وهي أجهزة تتبع الوزير قانوناً ، فيكون المجلس وفق هذا زد على الاضطراب في قوام أعضائه الناشئ من قرار الدائرة بعدم شرعية عضوية وزير العدل يكون معطلاً عملياً غير صالح للنظر في اختصاصاته لارتباطها ابتداءاً بأجهزة تم التقرير بعدم دستوريتها وفق لوضعها الحالي ، وهو ما يرتب البطلان على كل اجتماعاته بعد الحكم، فتكون كل مقرراته غير مشروعة، حتى ولو لم تقرر مراكز قانونية ، كما كان الأحرى برئيس المجلس أن يصدر بيان واضح يعلن فيه احترامه لقرار الدائرة الدستورية، ويعلق اجتماعات المجلس، لحين تشريع نصوص جديدة تعيد ترتيب قوامه واختصاصاته، وكذا الأجهزة التابعة لوزير العدل بما يتسق مع المقررات التي خرج بها حكم الدائرة الدستورية هذا، إن رئيس المجلس مطالب بإن يسارع للالتقاء برئيس الدولة، وقيادات السلطة التشريعية، والتنفيذية لوضع حلول تشريعية لهذا الوضع وفق المتطلبات الدستورية للتشريع، وعليه أن يتحرر من قيود المجلس المعطل، والأجهزة القضائية التابعة لوزير العدل التي أضحت تبعيتها غير مشروعة، ويتحرك بجدية لإعادة الاعتبار الدستوري لمجلس القضاء، ولهذه الأجهزة بصياغة تشريعية جديدة، كما أن عليه أن يراقب بجدية التزام الجميع بتنفيذ هذا الحكم، ولعل من المفيد التذكير بأن هذه التشريعات المرتقبة بما أن مجلس القضاء أصبح مشلولاً، فأن المنتدى القضائي يجب أن يقوم بدور كبير في صياغتها وترتيبها بالتنسيق مع رئيس المجلس، والسلطة التنفيذية، والتشريعية مباشرة وفق ما يتطلبه الدستور. أما أن يظل الجميع بتفرج فالوضع سيزداد سوءاً، والمأزق سيزيد سعة ، كما أنصح معالي وزير العدل باعتباره قاضياً يحترم نفسه كما عهدناه وسمعنا عنه- وهو الذي يستحق الشكر والتقدير على كل ما قام به خلال فترته الوزارية القصيرة- أن يسارع إلى تقديم استقالته لعدم جدوى بقائه في هذا المنصب بعد الحكم بعدم صلاحيته دستورياً لمباشرة اختصاصاته المبينة بالقانون..

إن في هذا الحكم الكثير مما يمكن التعليق عليه ؛ لكن يمكن القول إن أهم ما يمكن الخروج منه من مبادئ عامة هو أن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا تميل إلى تفسير نص المادة (149) من الدستور تفسيراً واسعاً مطاطياً لا ينتهي عند حد أو أحكام محددة ، مع أن الحكم يرتكز في أغلب فقراته على هذا النص ، وهو ما كان يتوجب على الدائرة الدستورية تفسير هذا النص أيضاً وتوضيح مفهوم الاستقلال المالي والإداري للسلطة القضائية ليستهدي به الجميع بما فيها السلطة التشريعية ، ويتضح هذا من خلال إفصاحها في فقرات الحكم ضمناً بميولها إلى الفصل المطلق بين السلطات ، وهو ما لا يتفق مع الواقع الذي تؤكد جوانبه السياسية والاقتصادية والإدارية بأن نظام الدولة في اليمن لا يقوى على تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات فصلاً مطلقا ، بل إنه يستحيل في الواقع العملي الفصل الكامل بين هذه الاختصاصات ، ويندر العثور على تجارب إنسانية نجحت في تحقيق هذا الفصل، لهذا كان المشرّع واقعياً وهو يجيز دستورياً الجمع بين عضوية السلطة التشريعية وعضوية السلطة التنفيذية ، ويجيز قانوناً لوزير العدل الجمع بين عضوية مجلس القضاء الأعلى ومجلس الوزراء... هذا والله من وراء القصد...