|
حين يقوم أفراد مجتمع بتحقيق مصالحهم بعيداً عن مبادئهم فإن الثمن الذي يدفعونه هو انحطاط أخلاقهم ولعل أهم ما تهتم به ثقافة إي مجتمع تتمثل في رعاية حقوق الإنسان وحفظ كرامته وصيانة إنسانيته فالإنسان هو هدف التنمية الحضارية لأي مجتمع.
فظاهرة الأخطاء الطبية لم تعد مجرد ظاهرة عادية بل أصبحت ظاهرة تمارس بشكل يومي دون رقيب أو حسيب ودون خوف من الله ولا وخشيه حتى صارت في تصاعد مستمر نتيجة للاهمال والعبث والتقصير في بعض المستشفيات مترافقة مع ثقافة الصمت السائد في التعامل مع الأخطاء الطبية وغياب الرقابة من الجهات المختصة وتحديداً من وزارة الصحة ونقابة الأطباء حتى باتت الأخطاء من الظواهر الخطيرة التي اصبحت كابوس يقض مضاجع المرضى.
ولو أننا عدنا إلى تاريخنا وحضارتنا الإسلامية المشرقة تحديداً قبل 800 سنه نلاحظ أنها قد نجحت في جميع المجالات المتعلقة بالاهتمام بحياة وحرية الفرد مسلماً كان او ذمي لوجدنا هذا الاهتمام متجسداً بإنشاء ما يسمى بالحسبة (جهاز الرقابة والمحاسبة- حاليا) والتي ذكرت في كتاب (نهاية الرتبة في طلب الحسبة) لمؤلفها الشيخ عبد الرحمن بن نصر الشيزري والمتوفى 589هـ 1193م.
وليسمح لى القراء الكرام اقتباس ما جاء في هذا الكتاب مما يختص بالطب وكيفية التعامل مع الأخطاء الطبية ومن يكون المسئول عن تحديد أذا كان هناك خطاء طبي او انه القضاء والقدر ( وينبغي إذا دخل الطبيب على مريض أن يسأله عن سبب مرضه، وعما يجد من الألم، [ويعرف السبب والعلامة والنبض والقارورة]، ثم يرتب له قانونا من الأشرة وغيرها؛ ثم يكتب نسخة بما ذكره له المريض، وبما رتبه له في مقابلة المرض، ويسلم نسخته لأولياء المريض، بشهادة من حضر معه عند المريض.
فإذا كان من الغد حضر ونظر إلى دائه، وسأل المريض، ورتب له قانونا على حسب مقتضى الحال، وكتب له نسخة أيضا، وسلمها إليهم. وفي اليوم الثالث كذلك، ثم في اليوم الرابع، وهكذا إلى أن يبرأ المريض، أو يموت. فإن برئ من مرضه أخذ الطبيب أجرته وكرامته، وإن مات حضر أولياؤه عند الحكيم المشهور، وعرضوا عليه النسخ التي كتبها لهم الطبيب، فإن رآها على مقتضى الحكمة وصناعة الطب من غير تفريط ولا تقصير من الطبيب أعلمهم، وإن رأى الأمر بخلاف ذلك قال لهم: " خذوا دية صاحبكم من الطبيب، فإنه هو الذي قتله بسوء صناعته وتفريطه ". فكانوا يحتاطون على هذه الصورة الشريفة إلى هذا الحد، حتى [لا] يتعاطى الطب من ليس من أهله، ولا يتهاون الطبيب في شيء منه.
وينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد بقراط الذي أخذه على سائر الأطباء، ويحلفهم ألا يعطوا أحدا دواء مضرا، ولا يركبوا له سما، ولا يصفوا التمائم عند أحد من العامة، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل؛ وليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، ولا يفشوا الأسرار، ولا يهتكوا الأستار.
وبمقارنة بسيطة وواضحة نجد أن الحضارة والرقي إذا ما برزت فستكون موجودة في كل مرفق ولم تكن النهضة الحضارية ترتكز على الشريعة الإسلامية والفقه والسيرة والتشريع عن بقية المجالات كالفلك والطب والهندسة وغيرها ولاشك أن ما نعانيه في وطننا الحبيب اليمن من تدهور وانحطاط لا يقتصر على مجال الطب بل تجده في كل النواحي الحياتية والمعيشية ولسنا الوحيدون والفريدون بين إخواننا العرب بل هو قرح قد مس القوم قرح مثله.
وبالعودة إلى ظاهرة الأخطاء الطبية في اليمن فيكفى أن نقول أن هذه الثقافة قد غٌلفت بكثير من الأسباب الغير منطقية كالتحجج بأسباب واهية مثل نتيجة الإهمال وعدم المتابعة والمعرفة العلمية او نتيجة الجهل وعدم كفاءة الطبيب وعدم توفر الإمكانات اللازمة للقيام بالمهمة الطبية المحددة، أو شحه الإمكانات، وقد يكون ناتجاً عن جهاز وربما إصابة المريض بمضاعفات ووصل بالبعض إلقاء الحجج على الكهرباء متكررة الإطفاء.
فيما بعض الأطباء يعزون سبب كثرة الأخطاء إلى الرواتب المتدنية والمعيشة الصعبة التي تعيشها البلد وللعلم أن الأطباء أفضل حالاً من كثير من المواطنين ومسألة التحجج بهذه الجزئية لاشك أنها تحسب ضد الطبيب كون الطبيب قد قبل العمل فى المستشفي بذلك الراتب وعليه أن يؤدي عمله مقابل ما يستلم طالما انه لم يكن مجبرا على العمل او ليترك الفرصة لمن يبحثون عن العمل بشرف وأمانه.
ومن الأسباب التي تؤدي إلى كثرة الأخطاء الطبية والذي يتمثل في العمل في أكثر من موقع واللهف وراء الكسب السريع ولعل شيوع الأخطاء في المستشفيات الخاصة وضعف الرقابة الصحية وأيضا عدم وجود لوائح واضحة ومحددة ومطبقة في مستشفيات الدولة وما يصاحب ذلك من ضعف الأداء في المستشفيات الحكومية بل وصل الأمر إلى الإيعاز للمرضى ترغيبا أو ترهيبا بترك مستشفيات الدولة وضرورة إجراء العمليات في مستشفي أخري .
ولعل من أكبر المفاسد والتي تتم في هذا القطاع أن هناك مستشفيات خاصة تستقدم عمالة أجنبية ويتضح بعد برهة من الزمن أن كثير منهم يمارس الطب فيما تخصصه بعيدً عن هذا المجال ا وان هناك بعض ممن استقدموا يحملون شهادات في التمريض ويمارسون عمليات كبري وربما ما خفي كان أعظم.
وقد نستغرب وجدود الكم الكبير من المستشفيات الخاصة ذات المعايير الغير مؤهله لتكون مستشفي وهذا في العاصمة صنعاء فما بالك ببقية المحافظات وهي ولا تملك ما يؤهلها إن تقوم بأبسط الخدمات الطبية وتجرى فيها عمليات (مجازر) وتفتقر إلي أقسام العناية المركزة وهناك مئات المستشفيات تفتح أبوابها لاستقبال الحالات الطارئة 24 ساعة وليس لديهم إمكانات استقبال حالة واحدة.
أما الطامة الكبرى لشيوع هذه الظاهرة فهي غياب مبدأ الثواب والعقاب وغياب الدور الرقابي لوزارة الصحة وكأنها متخصصة في شراء لقاحات فاسدة أو تركيزها المنصب علي القروض التي ثبت أن كثير منها لا تخدم الصحة ولا المجتمع واتضح أن شعار الصحة للجميع بحلول عام 2000م لم ولن يتحقق في ظل الانتهازية التي تتخذ من المواقع القيادية مجرد وسيلة للثراء أنعكس ذلك في ظهور بعض الأمراض المعدية من أمراض الطفولة الستة القاتلة كالحصبة وشلل الأطفال وحمى الضنك رغم الدعم الدولي الضخم فى قطاع التحصين.
وللفساد الذي استشرى في بلادنا نصيب فقد ساهم في طمس كثير من حالات الأخطاء الطبية بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال تمكين أطباء غير أكفاء يمارسون هذه المهنة وفي حال حدوث هذه الأخطاء فإن دفن هذه القضايا يسير بطريقين متوازيين الأول يعتمد فيما إذا كان ضحايا الخطاء الطبي قد ظهر في أشخاص لهم نصيب من الحظوة والسطوة والحضور وبالتالي يأخذون حقوقهم كاملة وغير منقوصة ولا أقول عبر القضاء بل بطرق أخري مختلفة أما فيما يتعلق بضحايا الخطاء الطبي ممن هم مواطنون عاديون أو ممن وصلوا نتيجة ظروفهم المعيشية إلى أسفل السلم الاجتماعي ولهم صفات بارزه فحقوقهم مهضومة والأخطاء الطبية في حقهم قضاء وقدر والقانون يقف مع الجهات التي تدفع مالا أكثر وإذا ما وصل أحدهم إلي القانون يضيع حقه في الأروقة والمتاهات.
وبكل تأكيد فإن مهنة الطب هي إنسانية بالمقام الأول و ذات رسالة عظيمة مؤكدين انه لا يمكن قبول أو تبرير حالة اللامبالاة في الممارسة الطبية تحت إي حجة آو ذريعة بل وجب التعامل بشكل جاد وصارم تجاه هذه الظاهرة وتطبيق الإجراءات الرادعة وما تنص علية قوانين مزاولة المهنة وعلي الأطباء عدم التهاون بالقسم الطبي قسم ( ابقراط ) وأنهم سيكونون مع مصلحة المريض فوق كل الاعتبارات، وعدم الاستهانة بالوا جب المهني والأخلاقي للطبيب مما يحتم عليه تسخير معارفه العلمية ومهاراته المهنية لرعاية المريض بأقصى درجة ممكنة والحرص التام على تجنب إي إجراء يمكن أن يسبب أذى أو ضرراً للمريض.
وسأختم مقالي مؤكداً أهمية هذه القضية الخطيرة والشائكة ودورنا هنا النقد لهذه الثقافة المتفشية مبتعدين عن الإساءة محاولين أن يكون هذا الموضوع نقد إيجابي تستفيد منة الجهات ذات الصلة ممثلة بوزارة الصحة ونقابة ألأطباء وبقية القطاعات التي تسهم في الحد من هذه الظاهرة دون العبث برمي الأخطاء الطبية علي جهة بعينها دون أخري والتأكيد على انه لا يجب أن يكون هناك أحد فوق المساءلة والمحاسبة وعلي النخب الواعية والمثقفة في المجتمع تشمير وتسخير كل الوسائل المناسبة لنشر ثقافة الحقوق والواجبات وتوعية المواطن بحقوقه التي لا ينبغي السكوت عليها وصولاً إلى تحقيق العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه واضعين بناء هذا الوطن والسعي للنهوض به من كبواته ومكرسين بدلاً من ذلك ثقافة الإخلاص في العمل لله أولا وأخيراً.
*أستاذ مساعد بجامعة صنعاء. باحث في التكنولوجيا الحيوية وتقنية النانوتكنولوجي
في الثلاثاء 21 سبتمبر-أيلول 2010 11:55:53 ص