|
إذا كانت ثورة 25 يناير قد حققت إنجازها الكبير بإسقاط حكم مبارك وتحرير المواطن من الاستبداد والهوان، فإن الإنجاز الأكبر المتمثل في تحرير الوطن من التبعية يظل تحديا مؤجلا ومعركة لم يحن أوان حسمها بعد.
(1)
حين يلاحظ المرء ذلك الإقبال الأمريكي المتسم بالإلحاح على تمويل المنظمات الأهلية بدعوى دعم الديمقراطية في مصر، فإنه يجد نفسه مدفوعا إلى التساؤل عن سبب ذلك الإلحاح،
وما إذا كانت الولايات المتحدة حريصة حقا وغيورة صدقا على إقامة الديمقراطية في مصر، أم أنها تبادر إلى الاحتياط حتى لا تقوم في البلد ديمقراطية حقيقية تضر بمصالحها؟
أستبق برد خلاصته كالتالي:
إذا قال قائل بأن واشنطن حريصة على ديمقراطية النظام المصري، فإن كلامه يندرج تحت أحد عنوانين، إما العبط أو الاستعباط.
ذلك أن النظام الذي ثارت ضده الجماهير في 25 يناير كان من بين أهم حلفاء الولايات المتحدة، كما أن النظم الاستبدادية والمتخلفة في المنطقة هي بين أولئك الحلفاء، بل ومن المقربين الذين تحتضنهم واشنطن وتعتبرهم من المعتدلين والأصفياء.
وليس غائبا عن الأذهان ما فعلته واشنطن حين فازت حماس بالأغلبية في الانتخابات الديمقراطية التي جرت في الأرض المحتلة، إذ عاقبتها وخاصمتها وما زالت تضغط لاستمرار حصارها في القطاع وتجويع أهله.
قبل أن أستطرد، أسجل أن ما دعاني إلى الخوض في هذا الموضوع, أمرين:
أولهما: الهجوم التمويلي المشهود الذي تشنه الولايات المتحدة لاختراق الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني في مصر بعد الثورة.
الثاني أنني قرأت مقالة نشرتها صحيفة «الشروق» للدكتور جلال أمين يوم الجمعة الماضي، 12/8، تحدث فيها عن الثورة المصرية ومشكلة التبعية، استهلها بالسؤال التالي:
ما فائدة ثورة يناير إذا لم تمكنا من التخلص من التبعية؟..
مضيفا أن مساوئ نظام حسني مبارك كثيرة ويصعب حصرها، ولكن من أسوئها بلا شك إن لم يكن أسوأها على الإطلاق، ضعفه المذهل أمام الإدارة الأمريكية، واستعداده الدائم للانصياع لها. ومن ثم لما تريده إسرائيل أيضا.
وفي مقالته أبدى الدكتور جلال أمين تفاؤله بإمكانية الخلاص من التبعية المفروضة، مستندا في ذلك إلى خبرة التاريخ وتحليل توازنات الساحة الدولية في الوقت الراهن وإن شاركته تفاؤله، فإنني أردت التنبيه إلى أن الأمر يستدعي شروطا يجب توفيرها، ليس فقط في الساحة الدولية، ولكن أيضا بدرجة أكبر في قوة الإرادة المحلية.
(2)
الموقع جنى علينا وأغرى بنا الاستعمار والأطماع الإمبريالية.
هذه العبارة أوردها الدكتور جمال حمدان في الجزء الثاني من كتابه عن شخصية مصر، الذي تعرض فيه لما سماه «جناية الموقع». وفيه قرر أن خطورة موقعنا وأهميته أخرت من استقلالنا وقدرتنا على التحرر نسبيا.
وإنه بقدر أهمية الموقع، بقدر ما كانت شراسة الاستعمار في التمسك به والاستماتة من أجله. مضيفا أنه بسبب فرادة الموقع فإن نحو 40 أمة تطلعت إليه وسيطرت عليه خلال عمره المديد، كما يقدر بعض الباحثين.
في رأي الدكتور حمدان أن مصر لم تكتسب أهميتها الإستراتيجية فقط من موقعها الجغرافي بين الشرق والغرب، ولكن أيضا من كونها مفتاح العالم العربي. إذا سقطت سقط وإذا فتحت فتح.
«ولذا كان الاستعمار يركز ضربته الأولى والقصوى على مصر، ثم ما بعدها فسهل أمره.
هذا أدركته ــ وفشلت فيه ــ الصليبيات وتعلمه الاستعمار الحديث، فكان وقوع مصر عام 1882 بداية النهاية لاستقلال العالم العربي، بينما جاء تحرر مصر الثورة بداية النهاية للاستعمار الغربي في المنطقة، بل وفي العالم الثالث جميعا».
انضاف إلى الموقع الإستراتيجي الفريد عنوانان جديدان خلال الثمانين سنة الأخيرة هما:
ظهور النفط في الثلاثينيات.
وتأسيس دولة إسرائيل في أواخر الأربعينيات.
الأمر الذي ضاعف من أهمية العالم العربي لدى الدول الغربية الكبرى، وضاعف في الوقت ذاته من أهمية مصر بحسبانها مفتاحا لذلك العالم وقاطرته الأساسية.
وإذا كانت إستراتيجية الموقع سببا لشراسة الاستعمار في تمسكه ببسط هيمنته على مصر على مدى التاريخ، فإن العاملين الجديدين اعتبرا ضمن «المصالح الحيوية» للعالم الغربي التي سوغت لدوله الكبرى الادعاء بأن حضورها ونفوذها في مصر (الدولة المفتاح) ضرورة لا غنى عنها.
لذلك فإنه لم يكن مستغربا أن تسارع الولايات المتحدة فور رحيل الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وتولي السادات للسلطة إلى تثبيت أقدامها في مصر وإقامة مرتكزات ودعائم أمنية واقتصادية وثقافية في ربوعها، على غرار ما فعلته في تركيا عقب الحرب العالمية الثانية.
وهذا الكلام ليس من عندي ولكنه مقتبس حرفيا من المحاضرة الشهيرة التي ألقاها وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الأسبق آفي ريختر على الدارسين في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في شهر سبتمبر من عام 2008.
في شهادة الرجل التي سبق أن أشرت إليها أكثر من مرة تفاصيل مهمة عن الركائز التي سعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إقامتها في مصر لضمان تثبيت نفوذ البلدين فيها. وهي تتمثل فيما يلي:
نشر نظام للرقابة والرصد والإنذار لجمع المعلومات وتحليلها
ــ إقامة علاقة شراكة مع أقوى الأجهزة الأمنية في مصر
ـ توثيق العلاقات مع الفاعليات صاحبة النفوذ في مصر، التي تشمل أركان السلطة الحاكمة وطبقة رجال الأعمال والنخب الإعلامية والسياسية
ــ تأهيل محطات إستراتيجية داخل المدن الرئيسية في مصر
ــ الاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز في النقاط الحساسة بالعاصمة إضافة إلى مرابطة قطع بحرية وطائرات أمريكية في قواعد داخل مصر وبجوارها.
(3)
طوال أكثر من 35 عاما على الأقل ــ منذ عهد السادات ــ والولايات المتحدة وإسرائيل تعملان على تثبيت أقدامهما في مصر لضمان استبقائها في المعية ــ استتباعها إن شئت الدقة ــ بحيث لا تتغير سياستها إزاءهما تحت أي ظرف.
وإلى جانب الترتيبات التي ذكرتها توا، فإن الوزير الإسرائيلي الأسبق تحدث عن تنسيق بين واشنطن وتل أبيب لمواجهة أي تحولات حادة في السياسة المصرية تجاه البلدين.
وبالنسبة لإسرائيل فإنها تعتبر أن سيناء المجردة من السلاح رهينة لديها.
وأن ذلك الارتهان تكفله ضمانات أمريكية من بينها السماح لإسرائيل بالعودة إلى احتلالها.
ذلك فيما هو معلن من سياسات وضمانات لثبات السياسة الخارجية المصرية تجاه البلدين. وإذا كان فيه ما يكفي لإثارة قلقنا وتوجسنا، فإن ما تتحدث به الطبقة السياسية في مصر عن ترتيبات أخرى غير معلنة يضاعف من ذلك القلق.
إذ يرى هؤلاء أن الرئيسين السابقين أنور السادات وحسني مبارك قدما لإسرائيل ضمانات غير معلنة لتأكيد التزامهما بإدامة السلام بين البلدين واستمرار «التعاون» بينهما في ظل كل الظروف. وليس مستغربا في ظل ذلك «التجاوب» أن يعد السادات شخصية مرموقة في إسرائيل، أطلق اسمه على أحد ميادين مدينة حيفا، وأن يوصف مبارك بأنه «كنز إستراتيجي»، ويقترح إطلاق اسم مبارك على ميدان آخر في المدينة ذاتها.
(4)
إحدى الخلاصات التي يخرج بها المرء من استدعاء هذه الخلفية أن خروج مصر من بيت الطاعة الأمريكي والارتهان الإسرائيلي ليس أمرا ميسورا، وأن كل الترتيبات والتربيطات التي أعدت خلال الأربعين سنة الماضية استهدفت التحسب للحظة الراهنة.
إذ أريد لها أن تضمن ألا يقع احتمال الخروج، بحيث تبقى السياسة المصرية أسيرة ذلك الماضي.
بالتالي فإن الهدوء الظاهر، المشوب بالرضا النسبي من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل على السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 25 يناير، ربما كان راجعا إلى اطمئنان البلدين إلى أن الترتيبات التي سبق الاتفاق عليها لا تزال سارية المفعول.
إذ كان متوقعا أن يعبر البلدان عن قلقهما إزاء الثورة التي أسقطت النظام الذي كان حليفا قويا لهما، وحين لا يحدث ذلك ــ حتى الآن على الأقل ــ فلا تفسير له سوى أن البلدين أدركا أن الثورة كانت انقلابا على مبارك ونظامه وربما سياساته في الداخل، لكنها أبقت على سياساته الخارجية كما هي، على الأقل في توجهاتها الرئيسية.
لا أدعو إلى اشتباك أو حرب كما قد يخطر على بال البعض لكني أتحدث عن هدف التخلص من التبعية والانصياع للإرادة الأمريكية والإسرائيلية تحديدا.
وأتساءل في هذا الصدد عن مصير الترتيبات والتربيطات التي أقيمت لاستمرار إلحاق السياسة المصرية بسياسات العدو الإستراتيجي. وهو الإلحاق الذي يظل أحد مظاهر التبعية التي يراد الخلاص منها.
لم يعد سرا أن الضغوط الأمريكية والغربية عموما والإسرائيلية ضمنها بطبيعة الحال، وكذلك التمويل الغربي لمنظمات المجتمع المدني في مصر، تستهدف، إلى جانب ثبات مرتكزات السياسة الخارجية، ضمان أمرين
أولهما علمانية النظام الجديد.
وثانيهما تقليص فرص التيار الإسلامي في التأثير على القرار السياسي.
بالتالي فهم يريدون لمصر ديمقراطية تتحرك تحت هذا السقف. لكن تلك مغامرة غير مأمونة العاقبة. لأن الآلية الديمقراطية إذا استخدمت بنزاهة فقد تسمح للوطنية المصرية ــ وليس الإسلاميون وحدهم ــ بالوصول إلى السلطة والتأثير في القرار السياسي.
وإذا ما تحقق ذلك فإن المطالبة بالتخلص من التبعية ستفرض نفسها على رأس أولويات العمل الوطني. وهنا يصبح الاشتباك السياسي ضروريا ولا بديل عنه.
أدري أن ترتيب البيت من الداخل وتثبيت أركانه من الشروط الضرورية، التي توفر للنظام العافية التي تمكنه من المطالبة بالخروج من إسار التبعية واستعادة الحرية.
وأفهم ترتيب البيت بحسبانه فتح الأبواب للممارسة الديمقراطية وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني، بما يمهد الطريق للنهوض على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
وإذا ما تحقق ذلك الترتيب فإنه يصبح بمقدور مصر أن تتحرى مصالحها العليا فيما تقدم عليه من خطوات، بحيث تستطيع أن تخوض بجدارة معركتها السياسية، وتقول «لا» لكل ما تراه متعارضا مع تلك المصالح أو مع مسؤولياتها الوطنية والقومية
ــ لذلك قلت إنها معركة مؤجلة، لكنها قادمة لا ريب إذا ما أصرت مصر على مطلب الانعتاق والتخلص من التبعية.
تؤيد ذلك الاختبارات التي واجهها النظام المصري خلال الأشهر الماضية، حين لم يستطع أن يحرز أي تقدم في فتح معبر رفح أمام فلسطينيي غزة،
وحين لم يتقدم خطوة واحدة باتجاه تطبيع العلاقات مع إيران.
حتى الاتفاق الخاص بفتح خط الطيران بين البلدين تعذر إدخاله حيز التنفيذ،
لا بأس من أن يطول طريق الانعتاق لأن الأهم أن نظل سائرين على دربه.
*عن «الشرق» القطرية, 30 أغسطس 2011.
في الخميس 01 سبتمبر-أيلول 2011 01:58:44 ص