سوريا: علمانية بمواصفات ذقن حليق
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 21 ساعة و 6 دقائق
الخميس 26 ديسمبر-كانون الأول 2024 06:28 م
  

يبدو أن أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام فوّت الفرصة التي كان ينتظرها «المتعلمنون» كي لا أقول العلمانيون العرب، ضيع عليهم فرصة تدبيج المقالات، وإجراء الدراسات عن مواضيع متشعبة، أو الكتابة تحت عناوين جذابة من مثل: «مستقبل مظلم بعد سيطرة طالبان سوريا» أو «الخطر الوجودي على أقليات سوريا بعد سيطرة الدواعش» أو عناوين أخبار من مثل: «دواعش سوريا يفجرون كنائس حلب» أو العنوان المطلوب: «مئات القتلى والجرحى إثر هجوم شنته قوات هيئة تحرير الشام على مناطق العلويين في اللاذقية» كل هذه المقالات والعناوين أغلق الشرع فيما يبدو سوقها، رغم كل المحاولات لإعادة فتح بعض الدكاكين في هذا البازار الكبير المسمى الشرق الأوسط.

ظهر الشرع في أكثر من مناسبة، وهو يسجل أهدافاً متعددة لم يكن أحد يتوقعها، كما لم يكن أحد يتوقع سيطرة قواته على دمشق، منذ اللقاء الأول له مع شبكة «سي أن أن» وهو اللقاء الذي لم يحاول فيه إنكار ماضيه، قدر ما سلط الضوء على أن هذا الماضي كان ضمن سلسلة تحولات يمر بها الإنسان في حياته، أثناء رحلته الطويلة نحو النضوج والتوازن.

وفي «بي بي سي» سئل الشرع عن فتاة طلبت منه أن تلتقط صورة معه، فطلب منها تغطية رأسها، فرد «لم أجبرها، هذه حريتي الشخصية، أحب أن أتصور بالطريقة التي تناسبني» وذكر في اللقاء أنه لا يريد تحويل سوريا إلى «نسخة من أفغانستان». وفي مناسبات عدة ظل يؤكد على أن سوريا لن تشكل تهديداً لأية دولة، فيما بدا أنها سياسة يريد بها بناء علاقات خارجية متوازنة، حتى مع الدول التي كانت تدعم نظام بشار الأسد، بالتزامن مع توجيه رسائل داخلية لجميع شرائح وفئات وطوائف المجتمع السوري بأن سوريا للجميع، وأنه لا يمكن فرض تصور مكون واحد على الشعب كله، وهو خطاب يندر أن نقع على مثله على لسان «مقاتل» لم يخرج بعد من «غبار المعركة».

هذا الخطاب، وهذه السياسة لم ترُق لعدد غير قليل ممن لبس لباساً علمانياً، ليخفي به حقيقة توجهه الطائفي أو العرقي أو الأيديولوجي الذي بسببه يناصشب الثورة السورية العداء، على أساس أنها ليست ثورة «علمانية حداثوية ليبرالية» وإنما ثورة مجموعة من أصحاب «اللحى السوداء» الطويلة الذين ستدخل معهم سوريا حقبة مظلمة من الرجعية والتخلف والتشدد الديني.

وبما أن سياسة الشرع لم تلب رغبة أولئك المتعلمنين في فتح سوق لبيع بضاعتهم القائمة على وجود التشدد الديني، وعلى جماعات مثل داعش والقاعدة، بما أن الأمر اختلف هذه المرة، وبما أن رياح أحمد الشرع لم تأت بما تشتهيه سفن هؤلاء «العلمانيين جدا» فإنه لا بد لهم من إجراء «فحص النوايا» وعدم الاكتفاء بذلك، بل لابد لهم كذلك من تلفيق مقاطع فيديو، وضخ كم كبير من المعلومات المضللة، لغرض التشويش والتشويه، وهو ما جعلهم يبالغون في إبداء تشاؤمهم إزاء النظام السوري الجديد.

 

وهنا أسهبت «كتيبة الكتبة» تلك في الحديث عن ذهاب عصر الحريات الشخصية، وحرية المرأة على وجه التحديد، وبدؤوا يتحدثون عن اللحى، وطولها وحجمها ولونها، ويستخدمون تقنيات الذكاء الاصطناعي والفوتوشوب لتركيب وضخ صور ومقاطع لا حصر لها تشير إلى دخول سوريا حقبة «العصر الحجري».

وأصبحت مناقشة مستقبل «الخمور» في سوريا الجديدة أهم من مستقبل سوريا ذاتها، وأهم من مصير شعبها، وغدت سوريا بكل تاريخها وحاضرها ومستقبلها، بكل ما فيها من زخم وغنى ورمزية وثقل وموقع، سوريا تلك أصبحت محشورة في «قارورة ويسكي» يهم «العلماني العربي» أن يطمئن إلى مصيرها، قبل أن يصدر حكمه النهائي على نظام أصحاب «اللحى السوداء»..

وبدلاً من إثارة أسئلة حول شكل الدولة، وتوزيع السلطات ضمن النظام السياسي الجديد، بدلاً من التطرق للوضع الاقتصادي في بلد دمره «نظام علماني» وبدلاً من الكتابة عن الحلول اللازمة للأزمات التي تواجه البلاد على المستويات كافة يريد هؤلاء المتدثرون بزي العلمانية أن يطمئنوا ـ على مستقبل سوريا الجديدة ـ بل على مستقبل قارورة الويسكي، وموضة الأزياء النسائية التي مثلتها ،حرم السيد الرئيس،.

هذه علمانية غريبة وعجيبة، يمكن أن يقال عنها كل شيء إلا أن يقال إنها علمانية، لأنها تمثل مجموعة من الأحقاد الطائفية والتوجهات الانتهازية والضمائر المعطوبة والغرائز المقنعة، والعمى الأيديولوجي، كل ذلك يتم إخراجه للشعوب العربية على أنه هو العلمانية التي تمثل – في نسختها العربية – حلول كل المشاكل في هذه البقعة الجغرافية التي لا تنتهي إشكالاتها ومشاكلها.

المثير في الأمر أن ثلة من «العلمانيين العرب» أقاموا مناحات على «نظام علماني حداثي» كان يحكم سوريا، وكانت زوجة رئيس ذلك النظام تشارك في الفضاء العام، بشعرها ذي التسريحة الجميلة، وملابسها الأنيقة، ومظهرها الحضاري، كرمز لسوريا الحداثية التي كانت قلعة للعلمانية والحداثة وحقوق المرأة التي تهم «العلمانيين العرب» بشكل مبالغ فيه، وهي حقوق على أية حال لا تشمل المعتقلات اللاتي وجدن مع أبنائهن في سجون صيدنايا وغيرها من سجون «النظام الأسدي العلماني» الذي أسقطته «ثورة اللحى السوداء» ذات «التوجهات الرجعية» أو لنقل «النظام المقاوم الثوري» الذي أسقطه «عملاء أمريكا وإسرائيل».

من حق الجميع أن يطمئن على مستقبل سوريا مع وجود نظام جديد، إذ أن الجديد بحمل معه التوجس والمخاوف لدى شرائح مختلفة، ولكن ما يضخ اليوم من كم هائل من الكتابات تعدى قضية المخاوف المشروعة، بل وتعدى «محاكمة النوايا» إلى نوع من التلفيقات والفبركات المفضوحة التي اتخذت موقفاً مسبقاً ضد الثورة السورية، وهو موقف مبني على «آيديولوجيا دوغمائية» لديها أحكام جاهزة مبنية على تصورات مسبقة ضد كل من يخالفها، وهذه الأحكام وتلك التصورات تنتمي لسياقات مؤدلجة تنتمي بدورها لفترات زمنية بعيدة، لا تزال «العلمانية العربية» تغترف من قواميسها، متجاهلة أن مياهاً كثيرة قد جرت تحت الجسر، وأن ما تقوم به ينتمي لضرب من «العلمانية المؤطرة» أو «العلمانية المؤدلجة» التي تسعى لنفي الآخر، وليس تلك العلمانية التي تؤمن بحقوق الجميع، وتعترف بالآخر شريكاً أساسياً في البناء، مهما كانت درجة الاختلاف معه.

نحن اليوم إزاء علمانيين يرون أن الفرق بين النظم العلمانية والأخرى الدينية يتجسد في طبيعة الفرق بين ذقن بشار الأسد الحليق وذقن أحمد الشرع الملتحي، ولذا فإنهم يمكن أن يصطفوا مع الأسد «الديكتاتور الحليق» ضد الشرع «الثائر الملتحي» بناء على تقييمات سطحية تركز على وجود الشعر من عدمه في الوجه، وهي تقييمات تبعث على الكثير من الأسى والسخرية في الآن ذاته.