أجمل وأروع ما كتب حول ثورة الشباب في اليمن
بقلم/ مأرب برس - متابعات
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و 12 يوماً
الثلاثاء 13 سبتمبر-أيلول 2011 06:45 م


كتب الكاتب المغربي د عبد العزيز بلقزيز مقال تناول فيه الثورة اليمنية من أكثر من زاوية وتحت عنوان " رأس مال النظافة في الثورة اليمنية " حيث عد ما ذلك المقال حسب رأي العديد من المراقبين للثورة اليمينية بأنه يعد أجمل وأروع ما كتب حول ثورة الشباب في اليمن , وإليكم إلى نص المثال :

يُسَجل للشعب اليمني، وشبابه المذهل، أنه أنجز أنظف ثورة شعبية يمكن للمرء أن يتخيلها . قطرة دمٍ واحدة لم يسفكها شبابه الذي سُفِك دَمُه في الساحات العامة حجر واحد لم يُلْقه أحد على أحد، وإن كان الأمن لم يتوقف عن إلقاء حمم الموت على المتظاهرين . رابط الشباب حيث رابط ، منذ ما يزيد على مئتي يوم، في حشود بشرية أسطورية متمسكاً بحقه في صنع مستقبل مشرف يليق بوطن تاريخي صنع شعباً تاريخياً، لم يفعل أكثر من أن قال لرئيسه ارحل، وبمطلبه هذا تمسّك ولم يتنازل .

عزيمته قُدت من صخر، ومن صبر طويل نُسجت خيوط إرادته . حاول تيئيسه مَنْ حاول، لكن أمره اعْتَاص على من راهن على تعبه . وحده في الميدان، لا أحد معه، لا أمريكا ولا أوروبا ولا أهل ولا جوار . لكن إرادته والتصميم وحدهما كانا يكفيانه كي يبقى حيث هو: يرعى نبتة الثورة ويرويها بعرقه ودمه إلى أن تحين لحظة الحصاد القريبة .

تقتضي الأمانة اعترافاً بأن الثورتين التونسية والمصرية تشبهان رفيقتهما اليمنية في النظافة والروح المدنية السلمية . غير أن الفارق، الذي يلقي الضوء على مثالية الحالة اليمنية، أن الحظ الطيّب ساق للثورتين التونسية والمصرية نهاية سريعة من مسلسل المواجهة مع الطغاة وأجهزتهم، وفرت عليهما احتمال أن تسلكا دروباً أخرى متعرجة، بينما كان قدر الثورة في اليمن أن تنتظر مثل تلك الخاتمة الطيبة، وأن يمتد انتظارها في الزمان لما يزيد على نصف العام، من دون أن يدهمها يأس من حضارية أسلوبها السلمي، أو نزق يأخذها إلى ركوب العنف أو تأييد من يركبه .

نجحت الثورة اليمنية قبل أن تنجح . نجاحها الأخير أن تطوي صفحة هذه اللحظة العبثية التي يوجد فيها رئيس ليس موجوداً، ويستمر فيها نظام لم يعد يحكم، ويتمسك فيها عهد بما لم يعد يملكه . نجاحها الأخير في أن تنتقل من هذه الحالة الخرافية إلى بناء النظام السياسي المطابق لأهداف الثورة . لكنها أحرزت نجاحات كثيرة قبل هذا النجاح الأخير . نجحت - ابتداءً - في أن تحقق تحقيقاً مادياً معنى الثورة، الثورة تكثيف للإرادة العامة، والإرادة هذه - في التجربة اليمنية - إرادة شعب بفئاته وقواه كافة في التغيير . لم يكن مفاجئاً، إذاً، أن توفر هذه الثورة كل هذا النصاب الشعبي الملاييني في مسيراتها واعتصاماتها في المحافظات والمدن كافة، وأن تلقى التأييد والمساندة من اليمنيين جميعاً: في الداخل والخارج، وأن تصل صيحتها ورسالتها إلى داخل النظام نفسه فتستصرخ الضمائر الحية فيه وفي أجهزته ومؤسساته (جيشاً وبرلماناً وجهازاً دبلوماسياً) فتحملها على فك الارتباط مع عهد أجمع الشعب على طيّ ذكراه .

والثورة فعلٌ اجتماعي وتاريخي ينهض به شعب لا نخبة تنوب منابه أو تدعي تمثيله باسم “الطليعة الثورية” أو “الطليعة المقاتلة” وما في معنى ذلك . ولذلك ما كان الفاعل في هذه الثورة، وهو الشعب، في حاجة إلى أن يتصرف في مواجهة النظام وأجهزته تصرّف أقلية ضعيفة تعوض عن ضعفها بقوة السلاح، إذ هو يملك قوته التي تكفيه - كأكثرية في المجتمع - وتغنيه عن سلاح أو عن عنف . لا يستخدم العنف المسلح إلا في مواجهة العدو الخارجي للدفاع عن النفس في وجه عدوانه . لا يستعمله في الداخل إلا من يختلط لديه معنى الثورة بمعنى الفتنة والحرب الأهلية . إذا استعمله النظام، فذلك لأن هذا من أخلاقه أولاً، ثم لأن هذه طريقته المثلى لحرف الثورة عن مسارها المدني المتحضر وجرّها إلى ضفة الحرب الأهلية .

والثورة وطنية المضمون والمحتوى بالضرورة، وقرارها مستقل استقلال إرادتها، وليس من ثورة تندلع فتنتظر من أحد أن يستكمل ما بدأته أو يشاركها شرف التغيير، وخصوصاً حين يكون “النصير” من المتربصين! لذلك ما سمعنا أحداً في ثوار اليمن يلتمس عوناً من مجلس الأمن أو من عاصمة دولية أو من حلف عسكري عالمي، ولا رأينا وفوداً من الثورة تَفِد على هذه الدولة أو تلك من الدول الكبرى لتستنصرها، ولا عقدت قواها السياسية مؤتمرات لها في هذه العاصمة أو تلك من العواصم الأجنبية المعادية لنظامها، ولا هي لمعّت سياسة دولة خارجية لمجرد أن زعماء هذه أيدوها في مطالب التغيير، ولا أتت شيئاً من ذلك الذي شهدناه في غيرها من حركات الاحتجاج العربية .

إن كلّ رأسمال مصداقية الثورة اليمنية يكمن في وطنيتها واستقلالية قرارها واستعصائها على الاختراق الخارجي: الأجنبي وحتى العربي، وهذا ما يفسر لماذا وحدها لم تتمتع بالعناية الدولية الفائقة، وبكرم التصريحات والقرارات المساندة، وهي وحدها التي تمتّع نظامها ورموزه بالراحة الدولية والتسامح الغربي، فلم تصدر في حقه بيانات إدانة عالمية ولا مسّته عقوبات أمريكية وأوروبية، ولا لاحقته إدارة أوباما ووصيفاتها الأوروبية بأوامر التنحي! لم يحصل شيء من ذلك إلا لأن ثورة اليمن العظيمة وطنية، ومحصّنة ضد أي اختراق، ومستقلة الإرادة والقرار . وثورة من هذا الطراز ليس مرغوباً فيها إلا من أهلها .

نجحت الثورة اليمنية قبل أن تنجح، نجحت في أن تعيد إلى وعينا المعنى الحقيقي للثورة: موارد الثورة تصنع ولا تستورد، وفعل الثورة فعل بالأصالة لا بالنيابة ولا بالشراكة . ونجحت في أن تكون ثورة نظيفة: نظيفة في الشكل بحيث لا يستدرجها القمع إلى تلويث صورتها المدنية بالعنف، ونظيفة في الهوية والمضمون بحيث لا لبس ولا شَوْبَ في وطنيتها وقرارها المستقل . وهي - وإن أصابها من العالم تجاهل وإنكار ومن العرب والمسلمين إجحاف - تبقى دُرة التاج في هذا الربيع العربي والترمومتر الذي يقاس به معنى الثورة في دم الحراك الاحتجاجي .