وطن على المشرحة
بقلم/ كاتب/رداد السلامي
نشر منذ: 17 سنة و 7 أشهر و 10 أيام
السبت 19 مايو 2007 01:14 م

مأرب برس ـ خاص

قبل نصف قرن كتب الماغوط:

هل أرسم فوق علب الكبريت الفارغة

بيوتاً وسواقي وأنهاراً وأناديها ياوطني؟

في بلادنا تلتقي المأساة والمهزلة في العبارات الوطنية المختلفة .. وبالخصوص الوطن للجميع .. لأن السؤال كيف يكون الوطن للجميع؟ في بلادنا المملوكة لبضعة فاسدين يمتهنون صناعة التخلف وإنتاج التبعية والجهل والفقر والمرض بأشكال مختلفة كما يجيدون فن القتل بصفة رسمية.

في الرصيف وعلى الشارع ومزابل القمامة يتكدس الوطن .. ولن تستطيع أن تجد الجانب المظلم .. ولن تعيش الإحساس الصادق ما لم تمش على قدميك وترهق نفسك على السير عثاء، لن تكون صحفياً أو سياسياً حقيقياً إذا كنت مجرد بطن مليئة وقلم يتحدث عن الوطن من أبراج عالية فالعيش في قلب الحياة وجس قلبها النابض المتدفق، الموّارد بكل مآسي ومخازي الفاسدين هو السبيل لإبراز المعاناة الحقيقية لبؤس ومقاسات البؤساء (نجمع قوارير ماء بلاستيك فارغة ونبيع الكيلو منها 15ريالاً)، هذا ما قاله الطفلان بشر - 16 سنة - ثالث إعدادي، وعلي - 17 سنة - من وصاب، يقومان بنبش براميل القمامة في أحد أزقة شارع (الدائري الشمالي) ويقول بشر إنه يحصل في اليوم على 500ريالاً من بيعه لهذه القوارير البلاستيكية الفارغة وأضاف: (الـ500 ريال تفرح بها 4 بنات و6 أطفال)، ويضيف بشر: (ندرس وأيام العطلة نعمل أحسن من الصعلكة)، بينما قال علي زميل بشر: (نهبوا علينا 20 لبنة بجانب معسكر السواد) وعندما سألته عن من أخذها، أجاب: (مش داري بس أخذوا حقنا) أحمد ربيع - مكنساً - يقول: (هذا العمل تعب وبهذلة وزي ماتشوف الآن، أحصل على 15 ألف ريال ولكنها لا تكفي ولا أستطيع أن أوفر منها شيئاً وأغلب الشهور أتدين دين).

فيما بدى وحيد - مكنّس - أكثر حذراً حين سألته عن كيف العمل؟ أجاب: الحمد لله وبلهجة زبيدية استطرد قائلاً: (بس تعب) ثم التفت إليّ وقال ليش تسأل؟ وحينما أخبرته أني صحفي (قبل يده وقال الحمد لله مرتاحين تشتي تكتب علينا بعدين يرجعوا يفصلونا ويخصموا، سر إلى عند صاحبي) مشيراً إلى زميله (علي أحمد) - الذي بدى أكثر جرأة وقال: (الصدق العمل هذا بهذلة وتعب وراتب ما يكفيش معي ثلاثة أطفال وأسلم إيجار 7500 ريال والباقي لا تكفي لتوفير المطالب الضرورية).

العامل - حديد سالم - الحديدة - مكنس .. بدى مرهقاً وقد كسا التعب المغبر بتراب العمل ملامح وجهه وشعره الكث قال: (ياأخي إيش أقول لك نتعب وما يجيبوا لنا إلا 15 ألف ريال واحنا معنا أسر وعوائل نصفها يروح مصاريف ونصف إيجار وكل شهر وهم يوعدونا بالزيادة لكن ما جابوش إلى الآن شيء) أغلب العاملين في البلدية من مكنسي الشوارع من محافظة الحديدة تلك المدينة التي حظيت بشرف الاحتفاء ببغلة تقاد كل عام إلى محافظة (الوحدة اليمنية) على حد تعبير جمال أنعم ذات مقال، الحديدة المدينة المنسية العروسة السمراء النائمة على ضفاف البحر الأحمر .. الناس الطيبون المسالمون أصحاب الوجوه السمراء والقلوب النقية البيضاء التي لم تتلوث بأدران السياسة والتي لا تطالب بغير لقمة عيش شريفة.

تقدمت من الحاج عبد الله أحمد البرعي - 55 سنة - ينبش في برميل القمامة سألته عن ماذا يبحث؟! أجاب بصوت موغلٍ في البؤس (أشوف لو فيه معدن وحاجات أبيعها) ويقول إن لديه 6 أطفال صغار ولا ينام إلا عند صاحب فرن معروف لديه وبعض الأيام في الشارع..

أي وطن هذا الذي لا يُرحم فيه شيخ طاعن في السن لا يقتات إلا من مزابل متخيمة وبقاياهم المتعفنة .. ثم أي وطنية التي يتشدق بها هؤلاء الفاسدون؟ وما هي الوطنية من وجهة نظرهم؟

الوطنية حقوق محددة وواضحة تتأسس عليها الواجبات المحددة وليس العكس، الإنسان وحده الوجود ومادته الأساسية وهو الغاية والمعنى، في ثقافتنا السائدة مازال البقاء للأقوى والأفسد. الديمقراطية مجرد ديكور زائف يستخدمه الحزب الحاكم لتلميع بشاعة الفساد يستثمر التناقضات، ويشتري الولاءات ويرتكز على هدهدة القلق وشراء الذمم ويصنع الاحتقانات والأزمات حقنة قاتلة في أوردة الوطن .. ماذا تبقى لنا من الوطن سوى كلمة جوفاء وصفّ للكلام الفارغ.

أنجزت البلاد والمجتمعات المتقدمة بمشاركة حكامها ونخبها وقواها السياسية والاجتماعية دولة المواطن والقانون ونحن لم ننجز سوى هتاف يشبه عويل الريح في ليلة باردة.