الحوار المفروض وتزييف الوعي المرفوض
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 17 سنة و 8 أشهر و يومين
الأحد 22 إبريل-نيسان 2007 04:09 م

مأرب برس - خاص

بالطبع شيء حسن وكريم ورائع أن يسود عالمنا دعوات التحاور والتفاهم والتفاوض، بدلا من نداءات التحارب والتصارع والتقاتل ، نسمع عن صيحات عاقلة وواعية في عالمنا تدعوا إلى الحوار والتفاوض ، من عقلاء الغرب ومفكريه وبعض منظماته ومؤسساته ، بمختلف انتماءاتها ودياناتها ، في أمريكا وأوربا ، كما ترتفع أصوات الشرق الإسلامي كذلك بنداءات الحوار من أجل السلام حتى لتكاد تسد آفاق الكون .

ومع أنه كما قلت شيء إيجابي وحسن وكريم أن يصبح الحوار لغة عالمية ، وثقافة شائعة وضرورة ملحة ، وواقعا لا بد منه ، إلا أن ثمة ملحوظات عابرة على هذه الدعوات تفرض نفسها ، على الحدث زمانا ومكاناً ، من أهمها :

1-
  ثمة صعوبات وإشكاليات عميقة وكبيرة تقف في وجه الحوار الإسلامي الأمريكي والإسرائيلي والغربي عموماً ، وضعها الآخر أمام هذا الحوار، وهي: كيف نفهم الحوار مع دولة استعمارية تدمر وتقتل وتشرد الملايين ، وتستخدم الأسلحة المحرمة دوليا ضد المدنيين؟! ، سواء في العراق أو أفغانستان ، كما هي العادة في كل حروبها ، في فيتنام ونكازاكي وهيروشيما ، وغيرها ، اقتضتها بالطبع ظروف الحوار والحرية والسلام الأمريكي ، أو كتلك الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية لمدينة الفلوجة التي اسودت وتفحمت بفعل قنابل النابال والقنابل العنقودية والغازات المحرمة دولياً ، التي أحرقت كل شيء ، حتى امتدت جرائم هذه الحرب إلى الطبيعة والحيوانات والطيور!! ، إنه ليصعب على كل عاقل أن يفهم نداءات الحوار الأمريكي في ظل هذه الأجواء القاتمة والمتفحمة ، كما أن موائد الحوار التي يراد لها أن تقوم بين العرب والأمريكان والإسرائيليين في أجواء مثل هكذا ملبدة بغيوم الغازات والقنابل التي تدمر مدناً وشعوبا بأسرها ، خلا العديد من السجون والمعتقلات وملايين المشردين والمعذبين الذين ينتظرهم الموت أو القتل ، الإسرائيلي أو الأمريكي ، أمر يجعل الحوار غير مفهوم ولا معقول بحكم الواقع والحال!! إلا أن يفسر على أنه حوار إملاءات وضغوط ، وتحقيق مزيد من المكاسب والتوسعات على حساب العقل والفكر والوعي العربي ، بعد أن اتسع على الأرض والجغرافيا ، ليس إلا .

إن من متطلبات الحوار أن يكون في أجواء آمنة أو شبه آمنه ، أما أن تقام موائد الحوار على أنغام الأباتشي الأميركية وأزيز الصواريخ الإسرائيلية ، ومع نسائم قنابل النابال ، والإبادات الجماعية ، والحروب الخفية التي تشنها أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية ، فلعل دعاوى مثل هذا الحوار تكون والحالة هذه مجرد كسب للوقت ، وحربا أخرى رابحة من طرف واحد ، هو الطرف الأميركي والإسرائيلي ، حيث ينشغل العرب بإعداد بنود الحوار تعديلاً وإضافة وحذفا ، في الوقت الذي تقوم الآلة الحربية الأمريكية والإسرائيلية بحذف وإلغاء وإزالة جماعات وقرى ومدن عربية برمتها ، ولا يخفى على الدبلوماسية العربية الفرق بين الصورتين .

2- أمر آخر مطروح على الدبلوماسية العربية وهو ما الحوار المطلوب مع شخصية اعتبارية كبرى كأمريكا أو إسرائيل؟! ، كيف نفهم هذا الحوار مع دولة استعمارية أحادية؟! ، تقوم كما ذكرتُ على الحذف والإلغاء للمدن والدول ، فضلا عن إلغاء الرأي والكلمة ، إنها مسألة يصعب فهمها كذلك ، وهو أمر محل إشكال كبير ، إن دعوى الحوار هذه تشابه ما قاله أحد الزعامات العربية الديمقراطية على الطريقة الأميركية "دنا حافرمه!!" رغم إيمانه المطلق بالحوار الحر والديمقراطي
.

  إن من المسلَّم به قطعا أنّ حوار القوي للضعيف غالباً ما يكون حوار إملاء وضغوط ، حتى على مستوى الحوزات الفقهية ، فدائما ما يكون حوار الشيخ والتلميذ غير متكافئ ، فمع الحق الذي لدى التلميذ لكن سطوة الشيخ وأبهته ، ربما حجبت الحق الذي لدى التلميذ ، ولو كان هذا الحق كجبال إيفرست ، إلا في النادر القليل ، إذا ما توافرت الشخصية الحوارية الذكية والفطنة والبارعة ، التي لديها المقدرة على كسب كل جولات الحوار ، وهو ما نؤمله ونرجوه من الدبلوماسية العربية ، في الوضع الراهن ، لكن تبقى الحقيقة باقية وماثلة للعيان ، أن حوار القوي للضعيف غالباً ما يكون حوار ضغوط وتنازلات ، من جهة الطرف الأضعف ، وهو ما نؤمل أن تتحاشاه الدبلوماسية العربية .

  إننا نخشى أن ينجم عن حلقات الحوار العربي الإسرائيلي حول مبادرة السلام العربية مزيدا من التنازلات العربية ، ولن تقبل إسرائيل هذه المرة بأقل من أن يضم إليها جزء من العراق وسيناء لإقامة إسرائيل الكبرى ، من الفرات إلى النيل ، الحلم الذي تكاد إسرائيل تقترب منه ، أو لم يبق منه إلا التوقيع فقط من قِبَل ساسة الدبلوماسية العربية .

  إن على أنظمتنا العربية التي تهفو وترنو للحوار ، مع العدو الإسرائيلي ، أن تعد لحوار ناجح وفعّال وإيجابي ، ولن يكون هذا الحوار على هذا النحو الذي نرجوه ، ما لم تتجاوز النظم العربية حالات التبعية والضعف ، والفرقة والشتات والصراعات الداخلية ، وأن تملك قرارها بيدها ، وأن تتجه صوب محاكاة النموذج الإيراني الذي استطاع أن يمتلك القوة النووية والاقتصادية المطلوبة لأي حوار مع الآخر ، حيث يكون الحوار هنا حقيقياً ومعقولاً ومقبولاً ، لا مجرد إملاءات من القوي المتجبر على الضعيف المسالم .

3- أمر ثالث يجب أن تضعه الدبلوماسية العربية في عين الاعتبار والحسبان ، أن هذا الضعف العربي متوهم وليس حقيقياً ، فلدينا من عوامل القوة والنصر والتحدي الكثير والكثير ، إن علينا جميعاً أن نعلم أننا أصحاب حق ، وحسب الحق قوةً ونصراً أنه الحق ، وان لدينا إيمان مئات الملايين من البشر بعدالة قضايانا ، كما أن لدى هذه الملايين حب التضحية والفداء والكرامة ، متى ما طُلب منها هذا ، وبالتالي فإننا نرفض حوار التنازلات والضغوط وحوارات الذل والاستسلام ، وكل آليات ذلك ووسائله ، مع إيماننا الدائم والمطلق بالحوار كمبدأ إسلامي

وإنساني ، لا بد منه .

4- ثمة حوارات أراها ترقى إلى درجة الفرض أو الواجب الشرعي ، وأعني بها تلك الحوارات مع عقلاء الغرب ومفكريه ومنظماته الإنسانية ، يجب تعزيزها وتنميتها وتطويرها ، لقد وجدنا كثيراً – أيها السادة- من منصفي الغرب وعقلائه يقف وإيانا مع قضايانا ومشكلاتنا في خندق واحد ، لا بل وجدنا بعضهم يتقدم علينا أحيانا في بعضها ، لقد خرجت المظاهرات العارمة في أمريكا وأوروبا تندد بالحرب الأميركية على العراق ، في الوقت الذي خرصت كثير من العواصم العربية عن هذه الحرب ، وكأنها صماء بكماء ، لا ترى ولا تسمع ، وهاهم الغربيون اليوم يتقدمون علينا ثانية بكشف جرائم الحرب الأميركية في الفلوجة والعراق وغيرها ، بالوثائق والمستندات ، وبالصوت والصورة ، لقد جاؤوا من وراء البحار ، في الوقت الذي عجزت عدسات تلفزتنا العربية عن أن تنقل إلينا ولو جزءاً يسيراً منها ، تلكم العدسات التي لا يفصلها عن الحدث إلا اللهم بضع كيلومترات !! .

كذلك حتى على المستوى الكنسي ، رغم أن الكنيسة غارقة في المعتقدات الدموية ، إلا أن هناك بعضاً من عقلاء الكنيسة ، يمكننا أن نجد لدى بعضهم تفهماً وإصغاءا لقضايانا العادلة ، وكذلك في بعض دوائر صنع القرار الأمريكي والأوربي ، حيث الشركات الكبرى العملاقة ، والتي لها مصالحها في الشرق الأوسط ولها استثماراتها الكبرى فيه ، هذه الشركات المسماة ب"مجموعات الضغط" لها دورها الكبير والمعروف في صنع القرار الغربي ، من خلال ممارسة ضغوطها الاقتصادية على دوائر القرار السياسي في بلدانها ، فيما يحرص هذا الأخير غاية الحرص على كسب المواطن الغربي في أي انتخابات مقبلة .

إن فتح أبواب الحوار على مصراعيها مع هذه الدوائر الإعلامية والاقتصادية والدينية ومنظمات المجتمع الغربي والأميركي ، كفيل بأن يحول كفة المعادلة لصالحنا ، أو على الأقل نجد أصواتاً عالمية تشاركنا همومنا وقضايانا ، إضافة إلى نقل قضايانا ومشكلاتنا من طور حديث النفس العربي ، إلى الطور العالمي والدولي ، ربما يسهم هذا بدوره في صحوة وإيقاظ الضمير العالمي الذي سيطر عليه التضليل الإعلامي الإسرائيلي ، وربما أسهم هذا أيضاً في التعريف بالإسلام كدين حضاري إنساني عالمي .

إن آليات هذا الحوار متوافرة وممكنة ، تبدأ أولاً بأن يتجاوز الإعلام العربي حالة الصمت والتكتم والسرية عن الجرائم التي ترتكبها القوى الاستعمارية على شعوبنا وأممنا المستضعفة ، ونقلها إلى العقل الغربي ، الذي يملك في بعض جوانبه وأوساطه قدراً من الإنسانية ، لا نستطيع نكرانها .

إن هناك العديد من المنظمات الدولية العادلة ، بل هناك من الأنظمة العالمية ما يمكن أن نجد فيه نجاشي الحبشة، وإن كان ثمة عجزاً فهو من قبلنا نحن ، الذين لم نستفد من التناقضات العالمية ، وصراعات المصالح والمكاسب الدولية ، ولم نأخذ دروساً كافية في فقه سنن الكون والحياة التي أقام الله تعالى عليها الحياة والكون والخليقة ، قال تعالى :

(وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) البقرة251
.

  والله تعالى من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل .

Moafa12@hotmail.com