|
في مواضيع سابقة قلنا قبل فترة ليست بالبعيدة ، أن السكوت على الكثير من المنكرات المخالفة للدين الإسلامي والأعراف القبلية ، واستقبال تلك المنكرات من المجتمع اليمني باللامبالاة والإستهتار ، شجع أهل الفتن وصنّاع الفساد على التمادي في ارتكاب كبائر المنكرات والذنوب ، كالقتل الذي صار أمرا عاديا عند الجميع ، رغم أن اليمن -حسب شهادة كبار السن- في سنواتها الماضية كانت تهتز باكملها عند سماع خبر قتل مواطن في أي منطقة من مناطقها ، وهذا يدل على مدى القوة الإيمانية والصفات الإنسانية التي تميز بها المجتمع اليمني آنذاك ، بينما هو اليوم يعيش في مرحلة أقل ما يمكن وصفها بالوحشية الخالية من الضمائر الحية ، ودليل ذلك أن حالات القتل الجماعي المرتكبة بشكل شبه يومي ، تستقبل بمزيد من التهديد والوعيد والإقتتال من سائر القوى المتحاربة ، وتواجه بصمت مطبق خاصة من العلماء المفترض أن يكونوا أول من يسعى لحقن الدماء ووأد الفتن تنفيذا لأوامر المولى عز وجل وتقيدا بمنهج الشريعة السمحاء على اعتبار أنهم ورثة الأنبياء كما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
السلطة تقتل المواطنين في الجنوب بالعشرات وتسفك دماء الآلاف في صعدة ، وتشعل الحروب بين القبائل في كل المحافظات داعمة المتقاتلين بالمال والسلاح ، بينما الحوثيون يُقتلون تحت شعار الدفاع عن النفس ، والكثير من الجنود يتم قتلهم بالقنابل والقناصات والكمائن دون معرفة من القتلة بسبب تبادل الإتهامات بين السلطة والحراك الجنوبي وتنظيم القاعدة ، ولأن القتل صار ثقافة عند الكل فليس من الغريب أن تشهد حالات التقطع قتل مواطنين أبرياء والفاعل بالطبع غير معروف لأن الجميع يتهم الكل ، والنتيجة لذلك كله أسر مشردة ونساء مرملات وأطفال يتماء لا يلتفت أو يهتم أحد بما يعانوه من آلام ومآسي وجراح.
صورة مرعبة بكل ما تعنيه الكلمة ، ونعتقد جازمين أن رب العزة والجلال سينزل عذابه علينا بسبب الدماء المسالة ، فهو جلت قدرته في تشريعه حرم قتل النفس البشرية بدون حق ، بل جعل قتلها كمن قتل الناس جميعا ، ولزيادة التأكيد على عظمة النفس عند المولى جعل إحيائها كإحياء الناس جميعا ، وحتى يستوعب البشر فداحة تلك الجريمة جاء المصطفى عليه الصلاة والسلام محذرا من أن هدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم فكيف وهم يقتلون بالجملة في بلادنا.
في ذلك المشهد الدموي نقول دائما بأن السلطة الحاكمة تتحمل المسؤولية قبل غيرها ، فهي أساس الشر ومنبع الفتن ، ولا نبالغ عندما نقول أنها سلطة متطرفة أنتجت بأفعالها تطرفا مضادا من الأطراف المتصارعة ، وهي الرافضة لحقن الدماء سواءا بإيقاف الحروب التي تشعلها أو إصلاح الأوضاع الفاسدة التي زرعتها في تراب الوطن ، ليحصد ثمارها شعبنا الذي كتب عليه أن يتجرع الويل بمختلف أصنافه كأحد المنجزات التاريخية للحاكم وحزبه المتفنن في تنفيذ رغبات الشياطين.
يا الله ما أقبح المشهد وكيف كفر الناس بقيمة الإنسان ، حتى أن أصحاب الضمائر ليموتون قهرا أمام الجرائة الممارسة ضد القوانين الدينية والبشرية ، من قبل أناس يسمون أنفسهم " مسلمون " ، فكيف إذا يسفكون الدماء ويقتلون الأرواح وينشرون الأحزان مع سبق الإصرار والترصد في أوساط شعب هو شعبهم ووطن هو وطنهم ، تحت أعذار وترهات واهية ستكون حجة عليهم يوم الحساب العسير.
حاولنا جاهدين مخاطبة أحد ما ، فاكتشفنا أن الكلام صار بلا قيمة ولم يعد هناك من يرغب في الإستماع ، لأن الجميع منشغلون بالحصاد الدنيوي ولو على حساب زج الأبرياء في حروب مدفوعة الثمن ، ولولا الشعور بضرورة إبراء الذمة أمام الخالق سبحانه وتعالى لكسر المرء قلمه وابتلع لسانه من هول قساوة القلوب ، ولهذا التفتنا نحو تاريخنا لنفتش عن حكمة ما ، كان لها حضورها الطاغي في حقن الدماء وتقديس قيمة الإنسان ، فوجدنا في ذلك التاريخ قصة رائعة صارت مثلا شعبيا يتبادله الناس دون التفكير فيه والتعلم منه ، فاستحسنا نقله للناس لتعلم الخير والفائدة أولا ، ولِنعير به رجال الحروب والقتل ومن له قدرة على عمل شيء ، بامرأة يمنية كان لها ضميرا وإنسانية وحكمة ، ليت أنها ورثّت أجزاء من صفاتها لرجال ماتت قلوبهم وتعفنت ضمائرهم وانتزعت من مشاعرهم معايير الخوف من الله والمصير الذي سيلاقونه يوم الوقوف بين يديه.
كبرنا على ذلك المثل الذي سأتجنب ذكره كاملا ، حذرا من تأويلات مصاصي الدماء ومثيري الفتن الذين يستغلون كل موقف لتحريف كلماته ومعانيه خدمة لشياطين الإنس والجن ، والمثل باللهجة اليمنية يقول ( لولا سعيدة لبيت ....ما زاد بقي ...) ، أي أنه لولا إمرأة كان اسمها سعيدة تنتمي لقبيلة معينة لانتهت تلك القبيلة ولم يبق لها أثر على وجه الأرض.
القصة تقول أن تلك القبيلة دخلت في حرب مع نفسها وأصبح أبناؤها يقتلون بعضهم بعضا ، واستمرت الحرب فترة من الزمن رغم الوساطات التي كانت تاتي محاولة إطفاء تلك الفتنة والتي فشلت في وقف نزيف الدماء ، وبمرور أيام الحرب تناقص أفراد القبيلة بشكل ملحوظ فهي الحرب لا تبقي ولا تذر، حتى قررت الجدة سعيدة وهي من القبيلة نفسها التدخل وتحقيق ما عجز عنه الرجال ، فخرجت ذات يوم من بيتها رافعة عصاها التي تتكأ عليها ومطلقة كلمات صادقة تفوقت بعون الله على أصوات الرصاص ، فوقف المتحاربون جميعا وتقاربت صفوفهم وقبلوا بدون قيد أو شرط وساطة الجدة سعيدة لحل الخلاف فيما بينهم.
صدقت الجدة سعيدة في الخير فصدقها الله في العمل ، ونجحت في وقف الحرب وحل المشكلة لتعيد الحياة لتلك القبيلة بحكمتها وتنشر الأمن والسلام بعد أن دفنت الآلام والأحزان.
رحم الله الجدة سعيدة فقد خلدت بعملها حكمة نساء اليمن ، وفضحت بحنكتها الخالدة حكام اليمن وأطراف الصراع ، مؤكدة أننا اليوم بحاجة ماسة لاستعادة حكمتها والسير على خطاها لوقف نزيف الدم اليمني المسال في مختلف المحافظات والمديريات.
قد يقول قائل أن قتال قبيلة يختلف عن صراع وتطاحن القوى اليمنية المحتكمة لأصوات البنادق وإراقة الدماء ، ونحن نقول أن بوادر القتال قد تكون شبيهة بتلك الحرب والدماء يمنية أيامها واليوم ، غير أن الفارق الوحيد أن الجدة سعيدة لم تعد موجودة ، ولو أنها هناك لأخرجت من مخزنها الحكمة والسلام ولنصر الله عصاها وأسكت بصوتها أصوات المدافع وأزيز الطائرات ، وقضى برجاحة عقلها على أطماع النفوس الخبيثة والمنتشرة بكثرة في أوساط تجار الحروب.
aalmatheel@yahoo.com
في الأحد 08 أغسطس-آب 2010 10:04:13 م