محمد أحمد الشاطري
بقلم/ عمر بن أحمد الشاطري
نشر منذ: 11 سنة و 10 أشهر و 20 يوماً
الخميس 27 ديسمبر-كانون الأول 2012 10:14 م
 

رائد الحركة التحديثية والتنويرية في حضرموت

يعتبر الشاطري من رواد حركة التحديث في حضرموت والنشطاء الأوائل الذين حاولوا إرساء بداية قواعد نظام حكم مجتمع مدني أساسه العدل والمساواة أمام القانون والعمل على تقدم البلاد علميًا واقتصاديًا وسياسيًا. وقد تعرض كثيرًا للتجريح والمضايقة من دعاة التخلف والجمود, وللتهديد والاعتقال من نظام الحكم الشمولي الذي حكم الجنوب بعد الاستقلال.

تربى ونشأ في كنف والده كما تلقى العلم على أكابر علماء تريم الغناء وفي مقدمتهم والدي العلامة المرحوم أحمد بن عمر الشاطري والأستاذ الكبير محمد بن هاشم بن طاهر, شيخ الصحافة الحضرمية, وقد أقبل على طلب العلم بنهم شديد ساعده في ذلك ذكاء حاد ملتهمًا أمهات الكتب وأهم المراجع في علوم الدين واللغة العربية والمنطق والتاريخ والفلك والفلسفة الإسلامية. ولما كان في السابعة عشرة من العمر ألّف "دواء المعلول" بالحروف المهملة ويتناول مراحل سيرة الرسول, وفي التاسعة عشرة كتب "كيف نحن" وهو بحث يتناول حالة حضرموت في القرن الثالث عشر وما بعده وما عانته حضرموت من تخلف وجهل وفوضى. وإزاء هذا النبوغ المبكر عُيِّن مدرسًــا بمدرسة الكاف بتريم كما اقتعد أحد مقاعد التدريس في رباط تريم, ذلك المعهد الشهير الذي يشد إليه الطلاب رحالهم للعلم من جميع أنحاء اليمن والمهاجر الحضرمية كإندونيسيا وسنغافورة وماليزيا وأقطار شرق افريقيا.

وفي بداية العقد الثالث من القرن العشرين قام هو ولفيف من شباب تريم بتأسيس "جمعية الأخوة والمعاونة" التي فتحت مدارس للبنين والبنات تدرس فيها إلى جانب العلوم الدينية واللغوية العلوم الطبيعية والرياضيات والجغرافيا والتاريخ. وفي مدرسة البنات إلى جانب هذه العلوم يدرس التدبير المنزلي والتطريز والخياطة, وقد قامت الجمعية بإرسال عدد من خريجي مدارسها لإكمال الدراسة في العراق وسوريا ومصر والكويت. ولنشر الوعي الوطني أصدرت الجمعية مجلة شهرية "الإخاء" التي لم تكن لسان حالها فقط بل منبرًا حرًا لكل نشطاء الحركة الوطنية كما كانت تقوم بنشر المساهمات الأدبية من شعر ورواية ونقد وقصة. وكانت "الإخاء" تطبع بالرونيو التي تبرع بها أحد أثرياء تريم وتوزع مجانًا. وقد قامت هذه الجمعية –إلى جانب النشاط التعليمي والإعلامي- قامت بفتح صفوف ليلية لتعليم الكبار ومحو الأمية, كما كانت تبعث دوريًـا عددًا من أعضائها إلى حواضر وبوادي حضرموت لبثّ الوعي وإرشاد الناس إلى حقوقهم الطبيعية في الحياة وتعليم البدو شؤون دينهم. كما كوّنت الجمعية شركات تعاونية زراعية وتجارية لكنها توقفت هذه الأنشطة التعاونية بسبب انقطاع الموارد الماليـة من اندونيسيا وسنغافورة أثناء الحرب العالمية الثانية. هذا وقد انتخب الشاطري بالإجماع رئيسًا لهذه الجمعية مدة حياته. والجدير بالذكر أن نشاط الجمعية في جميع المجالات قد توقف قسريًـا بعد الاستقلال في عام 1967 عندما أحكم النظام الشمولي قبضته الحديدية على كل شيء مانعًا منعًا باتاً كل الأنشطة الأهلية في جميع المجالات.

اشتغل الشاطري معظم سني حياته بالتربية والتعليم, إما مدرسًا أو مشرفًا تربويًا أو مديرًا للمعارف. في تريم, مسقط رأسه, عمل مدرسًا بمدرسة الكــاف وبمدارس جمعية الإخوة والمعاونة. وفي سنة 1355هـ أستدعي للتدريس بمدرسة الجنيـد بسنغافورة ومكث بها ثلاث سنوات درس خلالها اللغة الإنجليزية. وفي بلاد العواذل غرب عدن دعاه السلطان صالح بن حسين العوذلي لتأسيس إدارة معارفها وتأسيس مدارس بها. وفي عام 1384هـ طلب للمشاركة في تأسيس أول مدرسة ثانوية بالسلطنة الكثيرية وللتدريس بها. ومنذ استقر بجدة المملكة العربية السعودية عام 1393هـ حتى وفاته عام 1422هـ واصل جهوده العلمية بالإضافة إلى عمله التعليمي الثقافي كمشرف اجتماعي وخبير تربوي بمدارس الفلاح.وكان مؤسسا لجامعة الأحقاف في حضرموت وأصبح رئيس مجلس أمنائها إلى أن توفى. وقد تقلّد الشاطري وظائف رسمية عليـا في سلـك القضاء بالمجلس العالي بالسلطنة القعيطية ثم تولى منصب الإفتـاء بمجلس الدولة بالسلطنة الكثيرية الذي استقال منه احتجاجًا على تدخل بعض المتنفذين في سير القضاء والأحكام. ويرى الشاطري أن التدريس هو أشرف وأهم مهنة عرفها الإنسان مرددًا دائمًا ما قاله أحمد شوقي :-

قُـــــــــــم لِـــلــمُــعَــلِّــمِ وَفِّـــــــــــهِ الــتَــبــجــيــلا      

كــــــــادَ الــمُــعَــلِّــمُ أَن يَــــكــــونَ رَســـــــولا

أَعَـلِـمـتَ أَشـــرَفَ أَو أَجَـــلَّ مِــنَ الَّــذي              

يَـــبـــنـــي وَيُـــنـــشِـــئُ أَنـــفُـــســـاً وَعُـــــقــــولا

وقد شارك الشاطري مشاركة فعّالة في النفع العام وخدمة الشعب. لما أسست أول بلدية مدينة تريم, رشح وانتخب رئيسًا لها واستمر في رئاستها دورة واحدة ولما أعيد انتخابه للدورة الثانية استعفى وشكر الناخبين على ثقتهم به. وكانت مدينة تريم تعاني من صعوبة ايصال مياه الشرب إلى منازلها بواسطة السّقايين. وقد أقترح بعض الأهالي إنشاء شركة مساهمة عامة لإيصال المياه بواسطة الأنابيب والخزانات إلى المنازل بدلاً من السّقايين وكان هو أول رئيس منتخب لها. وقد بذل هو ومجلس إدارتها جهدًا كثيرًا في تحقيق ذلك الأمل المنشود الذي طالما تمناه السكان. ولما أنشئت لجنة إصلاح السدود بوادي حضرموت انتخب في عضويتها فقبل وقام بدور فعّـــال في أعمالها. كما شارك في العمل للإنقاذ من المجاعة بحضرموت ابان الحرب العالمية الثانية التي دامت من سنة 1939م إلى سنة 1945م.

وإلى جانب ما قدمه للوطن من خدمات جليلة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية يعتبر الشاطري ثروة علمية هائلة بل دائرة معارف كبرى فهو بحر زاخر في العلوم الشرعية بما فيها الفلسفة الاسلامية وعلوم اللغة العربية, متضلع في التاريخ والفلك والأدب العربي وقرض الشعر. وله مؤلفات وأبحاث وردود في كل هذه العلوم تزيد على الأربعين, وله ديوانان وأكثر قصائده اجتماعية ووطنية وقليل منه في الغزل. كتب الاستاذ الشاطري رواية "الحبانية" تحكي حكاية امرأة من مدينة حبان بمحافظة شبوة قتلت ضرتها خنقًا وحُكم عليها بالإعدام عندما كان في سلـك القضاء بالمجلس العالي بالمكلا. في هذه الرواية يتناول الشاطري مكانة المرأة الدونية وتهميش المجتمع لها وظلم الرجل للمرأة في المجتمعات المتخلفة البعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام. وكما عرفنا سابقًا فقد اشتغل الشاطري بالتدريس في كثير من البلاد ويعد التلاميذ الذين تلقوا عنه مباشرة بالمئات, أما تلاميذ تلاميذه فيعدون بعشرات الألوف منتشرين في كثير من أنحاء العالم. وقد طرق الشاطري الصحافة أو ما تسمى (صاحبة الجلالة) للوقوف مع الحق ونصرة قضايا الشعب وكان يكتب باسمه الصريح وأحيانًا بأسماء مستعارة مثل "مطلع" و "ابن الوادي" في صحف عدن مثل "النهضة" وصحف المكلا "الطليعة" و"الرائد" وصحيفة "السلام" التي كانت تصدر في سنغافورة في ثلاثينيات القرن العشرين.

ومن أبرز أخلاقه وصفاته الحميدة: التواضع والنزاهة وعدم الالتفات إلى المظهر وقوة العارضة وعدم التزلف واحترام الرأي والرأي الآخر. وقد زاره عدد من المستشرقين ليتبينوا رأيه وأقوال العلماء في بعض الأمور والإشكالات التي تهم الإسلام وشؤون العالم العربي. كما كان يحظى باحترام الشخصيات التي تنتمي إلى الاتجاهات الفكرية الأخرى كالبعثيين والماركسيين وغيرهم يقابلهم في داره بكل ود واحترام ويجري بينه وبينهم جدل ونقاش يستمر أحيانًا ساعات.

وكان بين الشاطري وبين عدد من رؤساء وملوك وسلاطين بعض الدول العربية مقابلات واتصالات وأيضًا بينه وبين بعض كبار علماء المسلمين حوارات وأبحاث وردود. قابل المغفور له الملك سعود –رحمه الله- والتقى به عدة مرات في سبيل الحصول منه على دعم جمعية الأخوة والمعاونة, كما قابل الزعيم العربي الكبير جمال عبدالناصر وشرح له حالة الجنوب العربي تحت الاستعمار البريطاني وحاجة جمعية الأخوة والمعاونة وما تحتاج إليه من دعم كي تواصل أداء رسالتها وقد منح عبدالناصر وأمدها بالكتب ومدرسين إلا أنّ بريطانيا لم تسمح لأولئك المدرسين بدخول حضرموت. وفي سنة 1374هـ دعاه الإمام أحمد ملك اليمن إلى زيارته فذهب إلى اليمن و زاره ومكث في ضيافته أكثر من شهر. أما علاقته بالسلطان صالح بن غالب القعيطي, سلطان السلطنة القعيطية, فكانت وطيدة إلى حد الصداقة وكان قد حضر بعض محاضرات الشاطري التي ألقاها في المكتبة السلطانية بالمكلا كما كتب السلطان صالح تقريضًا على ديوانه الأول. والمعروف أن السلطان صالح كان عالمًا جليلًا وله كتب عدة في علوم الدين والهندسة وفي عهده فتحت مدارس كثير في السلطنة القعيطية.زار الشاطري مصر مرتين والتقى بالكثير من العلماء منهم شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمود شلتوت –رحمه الله- ودارت بينهما أبحاث علمية. وقد ردّ الشاطري على المفسر الشيخ محمد متولي شعراوي في موضوع الكسب الحلال وبالأخص التوظف في البنوك نشر في مجلة الشرق الأوسط العدد المؤرخ 8/9/1984 ولما قابل الشيخ شعراوي في المدينة المنورة وباحثه رجع إلى قول الشاطري. وقد رد أيضًا الشاطري على الشيخ علي الطنطاوي في موضوع نشره الشيخ طنطاوي في جريدة الشرق الأوسط العدد 2473 تاريخ 5/9/1985 عن طبقات الحضارم وأنسابهم.

عندما اشتدت قبضة الحكم الشمولي في جنوب اليمن وزادت مضايقة العلماء والمفكرين وأصحاب الرأي غادر بلاده إلى المملكة العربية السعودية واستقر بجدة وعمل كمشرف اجتماعي ومستشار تربوي بمدارس الفلاح وألّف في نطاق هذا العمل بعض الرسائل والكتب وكان موضع احترام المسؤولين بها. وقد منحه المغفور له الملك خالد بن عبدالعزيز –رحمه الله- الجنسية السعودية تقديرًا له ولفضله ولمركزه العلمي والاجتماعي. واستمر الأستاذ الشاطري يؤدي رسالته ويقوم بها أحسن قيام, رغم الشيخوخة والضعف, داعيًا إلى الله ومعلمًا ومرشدًا بالحكمة والموعظة الحسنة حتى وافاه الأجل المحتوم بجدة عصر يوم الأحد 3 شهر رمضان 1422ه وكانت وفاته خسارة فادحة لا تعوض ودُفن بمكة. وقد رثاه العلماء والشعراء وأقيمت له حفلات تأبين في جدة والرياض وعدن وسيئون وتريم وبعض البلاد الأخرى التي تتواجد فيها جاليات حضرمية.