القادم من الغد في المشهد الإبداعي اليمني
بقلم/ علوان الجيلاني
نشر منذ: 11 سنة و 4 أشهر
الإثنين 01 يوليو-تموز 2013 05:19 م

كثيرة هي الوجوه التي يمكن استجلاء اعتمالات المشهد الثقافي اليمني بمتحققاته التامة الوضوح.. ومتحققاته شبه التامة –المقصود بها ما يعتمل في المشهد منذ مطلع الألفية- ثم وعوده التي لا تزال تتلمس الخطى إلى المستقبل..
الحديث عن متحققات المشهد التامة الوضوح لا يجب أن يتم باستعجال أو بطرائق مرتجلة؛ لأننا ببساطة لم نعد في وارد الاحتفاء به أو الترويج له، بل نحن في اشتغال متأن–هكذا يفترض- على فهم عوالمه وتبين الإبداعات والمقاربات المفصلية فيه، ورصد المتجاوز والعادي والمجتر.. ما هو آني وما يمتلك القدرة على الصيرورة.. الحقيقي والزائف.. الإيجابي لجهة الجودة والإضافة والجدَّة.. واكتشاف مناطق جديدة ارتادها الإبداع لتعاينها وتقارب دهشتها واكتنازاتها أقلام الكاتبين.. والسلبي لناحية الظلامية.. والتقليد والتقوقع والارتكاسات الفنية والتكلس الذي تتآكل فيه الروح بما هي فضاء واسع للبشرية كلها.. وبما هي نار ونور يتأجج بهما الإبداع فناً ورواية ومحاولات دائبة للتقدم إلى مناطق مجهولة في الذات، وما يحيط بها وصولاً إلى أقاصٍ وحواف لا وجود لها إلا في الخيال.
أما الحديث عن الاعتمالات السارية الآن فإن المواكبة والمرافقة والمعايشة هي الأنجع، ليس لجهة نجاح المعاينات فحسب، بل لتكون الكتابة شهادة طازجة حارة حتى لو شابها ما شابها من سلبيات تصيب كتابة من هذا النوع.. فالكتابة هنا يجب أن تتموضع هذه الاعتمالات بوصفها عوالم تتخلق متكشفة منذ وقت.. وتتوثب من دوائر ممكناتها الشبه متحققة إلى مواطن جديدة يقودها الطموح إليها ويغري شغف المغامرة بها.. بغض النظر عما قد يكون في بعض جوانبها من بريق زائف أو اشتغالات سطحية أو قشور لا تسمن ولا تغني من جوع.. أو حتى ردة –كما يراها البعض- وهيجانات تبدو كصدى لهيجانات الشوارع..
إذ كل هذا لا بد أن يكون موجوداً ضمن هذه الأنطولوجيا بتعددها في أشكال التعبير وأنواعه وأجناسه.. شئنا أم أبينا.. ولا نستطيع دفع جانب من جوانب هذا التجلي أو إقصاءه أو حجبه بجرة قلم.. أو نقرة على زر.. لأن هذه الاعتمالات تتخلق من مرجعيات في الحياة اليومية.. والمزاج العام.. وهناك موجهات تربوية وسياسية واقتصادية واجتماعية تقف وراءها وتؤثر فيها تأثيراً كبيراً.. بمقدار ما تؤثر فيها الشبكة العنكبوتية بشكل عام ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص.. إلى جانب الفضائيات التي تبث من دول الجوار بإمكانات وإغراءات مذهلة.. وتقدم نماذج تبدو متعالية غارّة وجاذبة..
كل هذه العوامل والمؤثرات لا بد أن تلقي بظلالها علينا فيما نحن نعاين تيار التوجه العام في اعتمالات المشهد.. وتبادل المواقع بروزاً وخفوتاً.. توهجاً وانطفاء.. متناً وهامشاً.. بين الأشكال والأنواع الإبداعية.. ودرجات الاهتمام والقبول بها حتى عند المتلقي العادي..
إنني أكتب هذه السطور من وحي تجربة حية عشتها اليوم على مدار أربع ساعات كاملة في قاعة جمال عبد الناصر بكلية الآداب بجامعة صنعاء.. حيث تم اختياري لأرأس لجنة تحكيم في مسابقة للموهوبين.
استمتعت بمتابعة حوالي خمسين متسابقاً ومتسابقة فرديين وفرقاً ثنائية.. إضافة إلى تلك التي تضم مجموعات من ثلاثة إلى سبعة أفراد..
تفاوتت أعمار المتسابقين بين طلبة في الجامعة، وآخرين في مراحل دراسية ثانوية وإعدادية إلى جانب الأطفال... كذلك تنوعت العروض بين الشعر والقصة والمقالة والغناء والإنشاد والرقص والمهارات الرياضية..
أمتعتني تلك المتابعة إلى حد بعيد.. فقد وجدت في حالات بعض المتسابقين نصوصاً ووقفات مرتبكة.. تشوبها آمال عريضة.. ذكرتني أيام البدايات بكل أحلامها.. الشغف واللهفة.. عذابات الخلق الإبداعي المتلكئ.. مطاردة الهواجس والكلمات والجمل.. الشعور بولادة النص بوصفه إضافتنا الخاصة التي نقدمها للعالم.. وارتيابنا المرّ حد الوجع في سلامة ذلك المولود/النص.. وكماله وأحقيته في البقاء.. تلك الأحقية التي لا نملك حق الحكم بها –حسب وعينا وفهمنا آنذاك-.. لأن ذلك الحق لا يملكه إلا شخص آخر لدينا ركون مسبق أنه يعرف أكثر منا.. مع أن التجارب قد أثبتت لنا فيما بعد أنه لم يكن بذلك القدر من الإحساس والفهم والوعي.. ليس لناحية حكمه السلبي الذي صدمنا فحسب، بل ربما لناحية حكمه الإيجابي الذي أوهمنا بجمال لم يكن حقيقياً فيما كتبناه..
سنفاجأ عندما نكبر وننضج بأننا الوحيدون من نمتلك حق الحكم على نصوصنا التي أبدعناها في البدايات.. وهذا فقط في حالة استمرارنا وتحولنا إلى مشاريع حقيقية.. لأن أكثرنا تتبدل مصائرهم واهتماماتهم.. لتبقى تلك البدايات التي التهبت بها وجداناتهم.. وشغلت حيزاً من وقتهم واهتماماتهم مجرد ذكرى..
لكن -وبغض النظر عن هذا الاستطراد الذي فرض نفسه مُبَرّراً بضرورة التوضيح والتوطئة لما سيأتي بقدر ما فرض نفسه مُبَرّراً بما أثاره في من شجون وأعاد من ذكريات- فقد لفتني بقوة وأنا أتابع الفقرات أن المشهدين الغنائي والسماعي (الإنشادي) في اليمن يغيبان كما تغيب كل مفردات الرقص اليمني عن المساهمة في تكوين هذه المواهب تذوقاً وطبائع أداء.. على فرضية أنها تشكل حواضن ومرجعيات للمشاركين.. فباستناء فقرة تهامية يتيمة قدمها طفلان.. توالت كل فقرات الغناء والسماع مقلدة نماذج خليجية أو مصرية أو شامية.. فيما كان الرقص كله غربياً.. بينما تمتثل طرائق إلقاء وأداء النصوص الشعرية لأشكال التقديم في مسابقات الفضائيات.. وإن غلبت عليها كما على النصوص القصصية الضعف في امتلاك الأدوات والتقنيات الفنية وكثرة الأخطاء الإملائية والنحوية، كثرة تتجاوز المقبول والمعقول معاً.. وثمة غياب ملفت للنص النثري الذي مثلته ثلاثة نصوص من بين عشرات النصوص..
ما ذكرته سابقاً عن الحواضن والمرجعيات الموجهة لا يحمل معنى رفض التماهي مع الآخر عربياَ أو أجنبياً والانغلاق على الذات.. ولكني فقط أريد التنبيه إلى غياب المؤثر اليمني بسبب غياب المؤسسة الرسمية الموجهة.. وبسبب كثرة شروط الواقع.. وانعدام الجاذبية في المنتج الفني المحلي وضعف أساليب تقديمه والترويج له..
كما أقصد من جهة أخرى في حديثي عن طبيعة ما قدم من عروض خاصة الشعر الذي انحازت معظم نماذجه إلى شكل العمود بالذات.. أن ألفت الإنتباه إلى ما يعتمل ويتخلق ليتبازغ في المستقبل القريب على سطح المشهد الثقافي والإبداعي اليمني.. فهؤلاء الذين يتأتئون اليوم سيفصح بعض منهم في الغد القريب.. وسيكون هذا البعض جزءاً فاعلاً في المشهد .. ومنابره ومثاقفاته عند خواتيم العشرية الثانية من القرن العشرين..
وإذا كان كل من محمد مشهور.. وأحلام الجبري.. وبشرى الغيلي.. وأنيس منصور.. ورامز مصطفى.. وعبد السلام الشميري.. ومنير الرفاعي.. وحازم عوض.. وسعاد الحرازي.. قد نقروا قشرة البيضة مبكراً.. وقدموا إبداعاً على درجة عالية من الإتقان والرؤية.. فما ذلك إلا ليكونوا عينة دالة على ما تبشر به موجة سيتعالى صخبها في الغد القريب.