|
هي المدينة التي تدهش كل زائريها كمعجزة تنميةٍ وحربٍ في آن واحد، وآية حضارة وإدارة تتعالى بنيتها التحتية وتنتظم كل يوم تماماً كما تعالت نفوس أبنائها الذين سقطوا على أسوارها دفاعاً عن جمهوريةٍ مغدورة لم يتبق لها حينها من المدن ومن الكرامة معاً سوى مأرب، هنا في مأرب فقط تجتمع إدارة الحرب وإدارة المدنية، قيادة المعركة وريادة التنمية.
مأرب هي موطن حضارة سبأ المذكورة في القرآن الكريم، المشدودة جذورها القيمية والحضارية إلى أعماق التاريخ، (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ) "سورة سبأ" كانت آيةً مشهودة بالأمس بجنتيها؛ مثلما هي اليوم آية جمال وراية نضال كجنتين متلازمتين يشهدها نحو مليوني يمني هاجروا إليها (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ).
تتوزع طبيعة إدارة المناطق المحررة في اليمن إلى ثلاثة مشاريع متمايزة، أولها "عدن" أقصى الجنوب اليمني، وثانيها "تعز" في الوسط ، وثالثها "مأرب"، الأول محسوب على الإمارات ومشروعها في المنطقة، والثاني محسوب على عدة مشاريع مختلطة لا تسمح في مجملها بالاستقرار، والثالث محسوب على الشرعية اليمنية وتحديداً على أحد مكوناتها الرئيسية "التجمع اليمني للإصلاح"، وهذا النموذج الأخير هو وحده الذي حظي بمستوى عال من الاستقرار والتنمية وحضور الدولة المأمولة.
التنمية التي تشهدها مأرب -في ظل الحرب واستمرار المعارك العسكرية- من حيث نهضة البنى التحتية كالطرق والكهرباء والمياه والاتصالات والانترنت، وتوافر الخدمات العامة كالغاز والنفط والمواد الغذائية، واستقرار الأسعار، والاستقرار الأمني والحد من الجرائم، والتوسع العمراني المستمر، هذه وغيرها تحسب نقطة مضيئة للشرعية، وتعد نموذجاً فارقاً بين إدارة الدولة وبين إدارة المليشيا الطائفية في صنعاء وأماكن سيطرة الانقلابيين، والتشكيلات العسكرية والأمنية ذات المشاريع الصغيرة في بعض المناطق المحررة، وأستطيع القول بأن المكان الوحيد في اليمن حالياً الذي يشعر فيه المواطن بقيمة الدولة ويعيش في كنفها ويأمن إلى جانبها هو مأرب.
يرى كثير من المتابعين والمراقبين بأن التميز الذي حققه النموذج الماربي هو تميز محسوب للإسلاميين "حزب الإصلاح"، وهذا القول له وجاهته لعدة أسباب: منها أن جميع القيادات والكفاءات والخبرات والعناصر الإصلاحية التي تم تهجيرها من المحافظات التي تسيطر عليها مليشيا الانقلاب تتواجد في مارب وهي نخبة لا يستهان بها في مختلف التخصصات العلمية والإدارية والفنية، وبلا شك بأن لهذه الكوادر إسهاماً في وضع الرؤى والتصورات والخطط التي تعين السلطة المحلية على النجاح في مهامها سيما وأن محافظ المحافظة الشيخ سلطان العرادة محسوب على حزب الإصلاح، وهو الرجل الذي يكاد يُجمع أصدقاؤه وخصومه على حد سواء بقدرته وحكمته ومرونته، فهو يجمع بين العقلية القبلية المشدودة للأعراف والتقاليد الحميدة والقادرة على استيعاب الرموز والوجاهات القبلية في المحافظة، وبين العقلية المدنية المنفتحة على أفكار التطوير الإداري المستلهمة من نجاحات التجارب المماثلة، وبين العقلية العسكرية المتسمة بالحزم في مواطن الحزم.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر فإن الدور الناجح الذي يقوم به محافظ مأرب الشيخ سلطان العرادة المتمثل في حسن الإدارة واستيعاب كافة الكفاءات من مختلف التكوينات المجتمعية والمكونات السياسية وفي مرحلة استثنائية كهذه فإنني أراه دوراً ايجابياً غير معزول عن النجاح اللحظي المجرد بل ضمن منظومة متكاملة تهدف في مجملها إلى تقديم نموذج مصغر عن قدرة "الإصلاح" في إدارة الدولة على غرار التجربة التركية التي بدأت بتقديم شخصية كفؤة كأردوغان للنجاح في بلدية اسطنبول كحلقة أولى في خطة تقديمه للشعب التركي حاملاً المشروع الإسلامي إلى الحكم.
هنا في مأرب لا أتعجب حين أدخل يومياً إلى جامعة اقليم سبأ لأجدها مكتضة بالآلاف من الطلاب الذين حملوا أقلامهم بعد أن كانوا قد حملوا سلاحهم في الدفاع عن مدينتهم حينما كانت القذائف الحوثية تنهمر على جامعتهم وتمتد الاشتباكات حول أسوارها، لا عجب أن أجد وراء كل طالب منهم قصة وحكاية للحرب وللعلم معاً، هنا في مأرب لا أتعجب كذلك حين تحدثني بعض الطالبات عن ترتيباتهن لإقامة ندوة حقوقية حول دور المرأة في المشاركة العامة التي ضمنتها القوانين الدولية، وعن فعالية حول الدولة المدنية المنشودة؛ في نفس الوقت الذي يصل فيه صاروخ مليشاوي طائش ومجنون بالجوار..! لا أتعجب لأن هنا مأرب الواقع والطموح، الحرب وما بعد الحرب.
التقيت قبل أيام بأحد الشيوخ الماربيين حدثته عن فكرة التوجه لدعم التعليم وتجويد عملياته كمدخل للتنمية الشاملة، قدمت له بعض الأفكار عن تحقيق معايير الجودة في التعليم العام، لم يجبني بعقلية القبيلة المنزوية على ذاتها؛ بل بعقلية الأكاديميين الباحثين عن أسباب الظواهر ومواطن العلاج، عن الواقع الحالي والوضع المنشود والفجوة القائمة بينهما، عندها تيقنت حجم الخديعة التي تعرضنا لها حين صدقنا سلطة نظام المخلوع صالح إبّان حكمه حين حاولت مؤسساته الرسمية تشويه القبيلة ومنها مأرب وتصويرها رمزاً للتخريب والجهالة.
طالما تم تصوير مأرب في الذهنية اليمنية خلال العقود الماضية بأنها بلد التخلف والثارات والمشكلات الاجتماعية والأمنية، حتى أن المخلوع صالح كان يصفها في خطابات متلفزة بأنها أحد أضلاع "مثلث الشر"، وسعى خلال الثلاثين السنة الماضية فترة حكمه بإذكاء الصراعات القبلية بين أبنائها، والدفع بعناصر تخريبية للاعتداء على شبكات الكهرباء القادمة منها إلى عدة محافظات يمنية منها العاصمة صنعاء وذلك لإيجاد عداء نفسي وذهني بين اليمنيين وبين أبناء هذه المحافظة المعطاءة، كما سعت أجهزته الأمنية وعلى رأسها جهاز الأمن القومي إلى تهيئة مناخات ملائمة في بعض مناطقها لترعرع جماعات متطرفة ثم فتح أجوائها للطيران الأمريكي.
وهذا موثق في اعترافات قيادات كبيرة في تنظيم ما يعرف بالقاعدة في اليمن مثل الاعترافات التي أدلى بها القيادي فيما يسمى بتنظيم الدولة (هاني مجاهد) في مقابلة خاصة مع قناة الجزيرة يمكن متابعة اعترافاته تلك بالبحث عنها في موقع القناة وقد سرد فيها جملة من الحقائق والخفايا التي تكشف دور الأمن القومي بقيادة نجل شقيق المخلوع صالح في إدارة وقيادة عمليات التنظيم الإرهابي ومنها العملية الإرهابية التي استهدفت السياح الألمان في مأرب.
كل ذلك التشويه الممنهج وغير الأخلاقي الذي مارسه المخلوع ومؤسساته الأمنية والإعلامية ضد محافظة مأرب وأبنائها كانت تهدف لإيجاد المبررات التي تبقي سيف الدولة مصلتاً على رقاب أبناء مأرب وقبائلها الأحرار لاستخدامه عند الحاجة، خاصة وأنها –مأرب- تتربع على قطعة غنية من الثروات الطبيعية ويمثل إنتاجها من الغاز أحد الشرايين الرئيسية التي تغذي ميزانية الحكم وتغذي الحسابات المالية في الخارج للمخلوع صالح عبر صفقات بيع الغاز والنفط.
لكن مأرب تجاوزت رهانات المتآمرين عليها وكانت الملاذ الآمن والعمود الصلب الذي ارتكزت عليه جمهورية جديدة تضج بالتنوع والشمول، مأرب اليوم يا سادة هي ثلاثية نجاح فريد: راية النضال الصلبة، وآية التنمية الشاملة، وسلطان الدولة، طالما خشي المخلوع وحلفائه من دورها الحالي، لكنهم ذاقوا مرارته وما زالوا يتجرعونه.
-راية-وآية-وسلطان
في الجمعة 24 نوفمبر-تشرين الثاني 2017 04:09:09 م