قبل العاصفة بساعة.. بعد العاصفة بعامين
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 7 سنوات و 7 أشهر و 22 يوماً
الإثنين 27 مارس - آذار 2017 10:56 م

نقف على بُعد عامين كاملين من لحظة انطلاق عاصفة الحزم. المبادرات السياسية التي تجري على هامش الحرب تدور حول فكرة وحيدة: أن تتخلى ميليشيا الحوثي عن السلاح وتترك المُدن وتنخرط في السياسة. بمعنى آخر: الاستسلام. ما كان لهذه الفكرة أن تُطرق قبل عامين من الآن، ولا حتى أن تصبح فكرة.

في الخامس والعشرين من مارس، ٢٠١٥، وقبل انطلاق عاصفة الحزم بساعات كان الحوثيون يرتكبون ثلاث مذابح جماعية مروعة في كل من الضالع ولحج وعدن. كانت محافظة الضالع، بطبيعتها الجبلية المعقدة، قد آلت إلى فاجعة كبيرة. أما في عدن فقد اصطادت مدفعية الحوثيين الهاربين على متن قواربهم وشوهدت الجثث والأشياء طافية على مياه بحر العرب.

بتسارع كبير اخترقت كتائب صالح وميليشيات الحوثي محافظة شبوة الشرقية. كما سيطرت المنطقة العسكرية الثانية، عبر قائدها الموالي للحوثيين، على محافظة حضرموت. سُمح للقاعدة بالانتشار المحدود داخل مدينة المُكلا، لصرف الانتباه عن حقيقة سقوط كل المحافظة في قبضة الحوثيين، وريثما تصل كتائبهم التي كانت تتوغل في شبوة، المحافظة المجاورة.

كان هذا جنوباً. أما شمالاً فقد قادة ٩٠ لواءً عسكرياً، أي الجيش اليمني، تأييده لعبد الملك الحوثي. قبل ذلك، في منتصف سبتمبر ٢٠١٤، والأيام الستة التي تلت حتى الواحد والعشرين من الشهر نفسه، ليلة سقوط الجمهورية، كانت عشرة ألوية عسكرية متواجدة في صنعاء وعلى تخومها قد أعلنت حيادها التام، في معركة الدولة والميليشيا الطائفية، عبر بيان أصدرته اللجنة الأمنية العُليا.

قدمت العصابة من اللامكان، من اللازمان وراحت تجر بلداً كبيراً خلفها، بعد أن أحنت عنقه ووضعت السلاح خلف أذنه. بسرعة كبيرة أعاد الحوثيون، بعد دخول صنعاء، هندسة البنية الإدارية للجيش والأمن، ووضعوا رجلين من أشد رجالهم ولاءاً في قيادة الجيش والشرطة. شكلت مأرب وتعز والبيضاء أول حزام مقاوم. وبسبب الطبيعة المذهبية الشافعية لهذا الحزام فقد مالت المواجهات إلى الجهة الطائفية، نتيجة التعبئة الدينية الحوثية.

 حصل قائدا العصابتين، صالح والحوثي، على دولة كبيرة ومجتمع كبير. لم يكن صالح، وهو يحصل على الغنيمة تلك، يمثل قانوناً ولا يستند إلى أي مرجعية. أما الحوثي فهو لم يعترف قط بالقانون، الجمهورية، أو المجتمع. خطابات الحوثي المتكررة في الفترة الممتدة ما بين سقوط صنعاء، ٢١ سبتمبر، وانطلاق عاصفة الحزم، ٢٦ مارس، كانت تتحدث عن انتصاره على المستبدين. المستبد في خطاب عبد الملك الحوثي هو النظام الجمهوري نفسه. من الأنشطة الراديكالية المبكرة، بعد النكبة، حذف أهداف الثورة الستة من ترويسة صحيفة الثورة، واستبدال يوم السادس والعشرين من سبتمبر، يوم سقوط الإمامية، بالواحد والعشرين من سبتمبر، يوم عودتها.

آل كل شيء إلى عصابات امتلكت، لأول مرة في التاريخ، مقاتلات عسكرية. الجيش المهندس طائفياً، والأمن المؤسس على وضع قبلي مبدئي، تخليا عن فكرتي الدولة والجمهورية واتخذا جانب الميليشيا. صار المجتمع مكشوفاً، ثم رهينة. المقاومة التي تشكلت على عجل لم يكن بمقدورها أن توقف تلك الآلة العسكرية العملاقة. فحتى رئيس الجمهورية شوهد وهو يهرب عبر الصحراء تجاه عُمان. وفر سفراء الخليج من عدن على متن سفينة حربية.

المجتمع الذي فقد جيشه وأمنه، وفرت حكومته، وجد نفسه أعزلَ في مواجهة كل القوة. كان الحوثيون يشكلون أقليلة داخل أقلية. وكان صالح ينتمي إلى أقلية داخل أكثرية. أريد لهذه المعادلة أن تصير حقيقة تاريخية، وأن تستمر. لم يكتف الحوثيون باللعبة عند الحدود تلك، بل مدوها طائفياً إلى مناطق بعيدة، وسافرت كتائب حوثية ـ وفقاً لتقارير إخبارية كثيرة ـ للمشاركة في الحرب إلى جانب النظام السوري.

 قبل حدوث عاصفة الحزم بساعات قليلة كان الوضع الأمني في الجزيرة العربية قد أخذ في التصدع. تغيرت معادلة الأمن القومي العربي على نحو راديكالي بسبب من سوء تقدير تاريخي لدى أجهزة السياسة والأمن في دول المنطقة. ذلك الاضطراب الحاد في نظام الأمن القومي في الجزيرة العربية فرض نفسه كموضوع طارئ لدى العرب، وهو ما يفسر سرعة انخراط حوالي ٦٠٪ من الدول العربية في عمل عسكري جماعي غير مسبوق على المستوى العربي.

 انهار مشروع الدولة اليمنية كلياً. ما بقي منها الآن ليس أكثر من خيال. استطاع صالح أن ينتقم من الجمهورية بعد فشله في تحويلها إلى نسخة تنكرية من الملكية الإمامية. وقعت عاصفة الحزم عندما كان كل شيء غير ممكنٍ.

لقد خلقت ،في أفضل حالاتها، مكاناً للممكن إلى جوار اللاممكن. لكنها أيضاً فتحت كل الشبابيك على المجهول الأكبر. كانت مغامرة عسكرية أيدتها المقاومة الشعبية في كل اليمن. وعلى حد علمي فلا يوجد فصيل مقاوم واحد أعلن رفضه للتدخل العسكري العربي. على مدى شهور الحرب بدت عاصفة الحزم وكأنها مسألة تخص المقاومة الشعبية. وشوهد الموقف الرافض لعاصفة الحزم يصدر، على الدوام، مع الصوت الرافض للمقاومة الشعبية ومن الجهة نفسها. وليس مفاجئاً أن نقول إن المقاومة الشعبية ما كان لها أن تصمد لأسابيع قليلة لو لم تكن عاصفة الحزم قد حدثت.

 

بقي التدخل العربي العسكري منفصلاً عن أي مشروع سياسي مصاحب، وأعزل. فالقوة العسكرية التي يقاتل بها العرب في اليمن استطاعت أن تدحر الميليشيات من معظم جغرافيا البلد، لكنها عجزت حتى عن تشكيل تصور سياسي واضح لدى الفريق الرئاسي نفسه. ولم تكن مفاجأة أن يتحدث العطاس، المستشار السياسي للرئيس، إلى قناة الحرة عن استعداه لبحث مسألة استقلال جنوب اليمن مع صالح. وأن يدلي بمثل هذا التصريح بعد عامين من انطلاق عاصفة الحزم.

على المدى القصير والمتوسط فليس في الواجهة من مشروع سياسي تسعى عاصفة الحزم إلى إنجازه سوى خطوط باهتة عن استعادة الدولة، دون نقاش حول ماهية وحدود تلك الدولة. التأكيد على هزيمة الحوثيين عسكرياً غير كافٍ لإعادة الاستقرار. فقد انطلقت عاصفة الحزم، نفسها، كاستجابة تاريخية لاضطراب الاستقرار في لحظة زمنية حرجة. بعد عامين من انطلاق عاصفة الحزم نرى أن مشروع دولة الحوثي قد آل إلى سراب شامل. لكنه سراب ذائب في سراب أكبر، سراب الدولة اليمنية.

اليمن السراب هو بوابة مجهول الجزيرة العربية. ستدفع الجزيرة، برمتها، تكاليف باهضة من أمنها القومي ورفاهية مجتمعاتها في كل مرة تسيء تقدير خطورة المسألة اليمنية، أو تستخف بحاجة اليمنيين التاريخية لاستقرار قابل للحياة الطويلة.

* من مدونات الجزيرة